رشيد خشانة: صــراعات تســدّ طريق الــخــلاص
لــم يُجانب وزير الدفاع الوطني الصواب حين اعتبر التجاذبات السياسية عنصرا فتّ من ساعد الدولة في مكافحة الإرهاب والقضاء على فلوله. قد لا تكون العلاقة بين الإثنين عائدة إلى حتمية ميكانيكية، لكن الأكيد أنّ ضراوة الاحتراب المُحتدم بين الأحزاب، تحت قبّة البرلمان وخارجه، من شأنها أن تُفسد المناخ السياسي وتعرقل تنقية الأوضاع، بما يُعطّل تنفيذ الوعــود الانتخابية، التي آن الأوان لتجسيــدها، خـلال هـذه السنة الأخيرة من العهــدة البرلمانيــة.
طبعا لا يعني هذا إيجاد المبرّرات للذين تقاعسوا عن الوفاء بما وعدوا، أو الذين تنكّروا لوعودهم الانتخابية، وهم كُثر، وإنّما القصد أنّ طغيان التجاذبات على المشهد السياسي جعل إغلاق ملفات جوهرية، مثل انتصاب المحكمة الدستورية أو إنقاذ مركب العدالة الانتقالية التائه، غير ممكن بالرغم من ضغوط مواعيد الاستحقاقات الانتخابية القريبة.
شللُ المسار الانتقالي
في مقدّمة المشهد العام نلمح صراعا متصاعد الضراوة بين فريقين وصلت سخونته إلى درجة تهديد أحدهما (الجبهة الشعبية) برفع قضية اغتيال الشهيدين محمد البراهمي وشكري بلعيد إلى أنظار محكمة العدل الدولية. ومـــن الواضح أنّ هذا الصراع يشلّ دينامية الانتقال لأنّه يُقوّض إمكانات التوافق، الذي من دونــه لا يمكن للدمقرطة أن تتمّ في كنف الاستقرار والسلمية. فالانتقال ينجح إذا ما تواضع الفرقاء على قواعد اللعبة وعلى أخلاقيات التنافس، أمّا إذا وصل الضرب إلى ما تحت الحزام كما يُقال، فإنّ الخشية من انهيار التجربة، لا سمح الله، تصبــــح مُبرّرة. ولنــا في أجواء الجلسات البرلمانية والبرامـــج الحــوارية التلفــزية نمــاذج ومشاهد من ذاك المنـاخ المُلغّم أحيانا، والمتفجّــر أحيـــانا أخرى.
إلى جانب الأجواء المشحونة دوما بين الأحزاب والكتل، ترتفع في الطريق عقبة أخرى تتمثّل في التناحر الداخلي الذي لم يسلم منه أيّ حزب بلا استثناء، وهو ما أكّده تراجع الأصوات التي حصدتها جميع الأحزاب في الانتخابات البلدية الأخيرة. قد تبدو تلك الخلافات أحيانا مسائل داخلية، غير أنّ الأحزاب التي تُرشّح نفسها لقيادة البلاد تتأثّر إن كثيرا أم قليلا بخلافاتها، وتضرب مثلا إمّا على مدى تشبّعها بالقيم الديمقراطية أو مدى ازدرائها، من خلال معالجتها لتلك الخلافات. لا بل يمكن القول إنّ القسم الأكبر من الصعوبات التي تواجهها البلاد منذ ما يقرب من السنة، منشأها ومحورها الصراع داخل الحزب الحاكم، بين الشق القيادي، الساعي بشتى الوسائل إلى إسقاط الحكومة، مُستعينا ببعض الأحزاب وقيادة اتحاد الشغل، والشقّ المُلتفّ حول رئيـــس الحكومة، والذي تعــــزّز ببروز كتلة برلمانية مساندة له. ولا ننسى أيضا تأثير الخــــلافات الداخلية على ذلك الحزب الآخر المشارك في الحكــــم، والذي فصل وزراءه من الحزب وتفكّكـــت كتلته البرلمانية إلى حد الاندثار.
فقدان الثقة في المستقبل
من الواضح أنّ مثل تلك «الحروب الأهلية» أشاعت مناخا من الإحباط لدى المواطنين، ومن القنوط لدى الشباب، الذي يرى الآفاق مُدلهمّة أمام ناظريه. وبدل أن نستقطب الكفاءات الشابة التي أنفقت المجموعة على تكوينها الغالي والنفيس، نراها تفلتُ من بين أصابعنا إلى حيث تتخيّل أنّ هناك الجنّة الموعودة (انظر افتتاحية هذا العدد). وتُفيد إحصاءات قامت بها «جمعية التونسيين خريجي المدارس الكبرى» Atuge أنّ ثلث الكفاءات المهاجرة مدفوعٌ بسوء الأوضاع الاجتماعية والسياسية وفقدان الثقة في المستقبل. وفي هذا السياق قفل كثير من العائدين من الخارج بعد 2011 عائدين من حيث أتوا، لأنّهم اصطدموا بالأجهزة البيروقراطية وصُدموا من انتشار الرشوة والفساد، بالرغم من استمرار تعلّقهم ببلادهم.
على هذه الخلفية نلمح مُتغيّرات كثيرة طرأت على معالم المشهد السياسي، أوّلها انقلاب ميزان القوى داخل مجلس نواب الشعب، على نحو أحبط مخطط الإطاحة بالحكومة الحالية، وأعطى للداخل والخارج رؤية واضحة نسبيا على المدى المتوسّط. وثانيها تهديد اتحاد الشغل بالإضراب العام، مع تداعياته المعروفة وغير المعروفة على الاقتصاد وعلى سمعة البلاد، وإن كان الأرجح أنّ الغلبة ستكون للمتعقّلين، بما يجعل من ذلك القرار مجرّد أداة ضغط من أجل تحسين شروط التفاوض. وثالثها استفحال الصراعات الحزبية وتشظّي الأحزاب كبيرها وصغيرها، بما أفقد المواطن ثقته فيها، ممّا يُؤشّر إلى تعميق العزوف في الانتخابات المقبلة.
إنهاء الأزمة السياسية
عودٌ على بدء، فبالرجوع إلى تصريح وزير الدفاع الوطني، يشكّل هذا المناخ الآسن محضنة لجميع الانحرافات والأمراض، بما يُضعف اليقظة ويتسبّبُ في هشاشة الأوضاع الأمنية والاقتصادية والاجتماعية. وقد أصاب الوزير حين أكّد في التصريح نفسه أنّ تحسّن الوضع الأمني ضروري للنمو الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي. لكــن ما هي الخطوات الكفيلة بتعديل الوضع اليوم؟ لا ريب في أنّ تجاوز الأزمة السياسية بطريقة أو بأخرى هي أولوية الأولويات، فقد شلّت الأزمة الإدارة طيلة شهور وزرعت الحيرة والانتظار لدى رجال الأعمال وعديد الفاعلين الاقتصاديين. ثم لا بدّ من المحافظة على أوضاع الطبقة الوسطى بوصفها محرّك الاقتصاد استهلاكا وإنتاجا وعنصر استقرار اجتماعي وسياسي. كما ينبغي العمل على استقرار الدينار لأنّ الحد من هبوطه يُحسّن احتياطي البلاد من العملات ويمكّن من تحسين الاستيراد، وخاصة استيراد الأدوية. على هذا الأساس يبدو جليّا أنّ مشــــاكل تونــــس سياسية بالدرجـــة الأولى، ولذلك فالحلــــول لا يمكن أن تكون إلا من الجنس نفسه..
رشيد خشانة
- اكتب تعليق
- تعليق