فاخر الرويسي: فتحـيـّـة خيــري في كتاب مثير
«فتحيّة خيري، فنّ وشجن» عنوان كتاب جديد لفاخر الرويسي صدر هذه الأيام عن دار تونس للنشر. وهذا المؤلَّف الذي يقع في 240 صفحة من الحجم المتوسّط مساهمة جادّة في التأريخ للحركة الثقافية والفنيّة في تونس وفي تسليط الضوء، بصورة خاصّة، على مسيرة الأغنية التونسية في القرن المنصرم وفتحية خيري هي بلا ريب أحد أبرز رموزها.
فبعد أن ألّف كتابا قيّما عن الأستاذ فتحي زهيّر عنوانه «العميد فتحي زهيّر: الوساطة الضائعة في الخلاف البورقيبي اليوسفي» اختار فاخر الرويسي هذه المرّة أن يكتب عن المرأة التي ربطتها قصّة حبّ بهذا المحامي والمناضل الوطني فتزوّجا وأنجبا طفلين لكن سرعان ما افترقا تحت ضغط أسرة زهيّر المحافظة، الأرستقراطية وبسبب انشغال فتحيّة خيري بنشاطها الفنّي على حساب تربية ابنها وابنتها.
وبحكم قربه من أسرة زهيّر وبفضل جهده البحثي استطاع الكاتب أن يجمع وثائق وشهادات وصورا نادرة ترسم تضاريس مسيرة فنّانة قديرة نذرت عمرها للفنّ فمارست منذ ريعان شبابها الغناء والتمثيل المسرحي واكتسبت في هذين المجالين صيتا كبيرا جعلها نجمة من نجوم الوسط الفنّي وذلك قبل أن يستهويها الرسم فكانت لها محاولات لا ترقى -والحقّ يقال- إلى مستوى الإبداع والتألّق.
ينطلق فاخر الرويسي من ظروف نشأة فتحية خيري وبروز موهبتها الغنائية المبكّرة ليخلص للحديث تباعا عن «صولاتها وجولاتها» في المسرح والتحاقها بالرشيدية وعلاقاتها بالبلاط الملكي، إذ كانت «مطربة القصر» وإشعاعها خارج حدود الوطن من خلال رحلاتها إلى الجزائر ومصر وباريس والمغرب وزواجها من الأستاذ فتحي زهيّر وطلاقها منه وانخراطها في الحركة الوطنية ومشاركتها في الحفل الفنّي الذي أقيم بقصر المرسى بمناسبة زواج الرئيس الحبيب بورقيبة ووسيلة بن عمّار في 12 أفريل 1962 ثمّ شغفها بالرسم الخطّي وبالألوان المائية بطريقة عفوية.
وتحتوي ملاحق الكتاب على جرد للأغاني والأناشيد والموشّحات التي سجّلتها فتحية خيري بالإذاعة التونسية والبعض من أرشيفها المتعلّق بكلمات الأغاني التي أدّتها مرقونة أو بخطّ أصحابها، علاوة على البعض من نوتات أغانيها. ولعلّ ما يميّز الكتاب اتّساع دائرة الاهتمام فيه بالبيئة السياسية والثقافية والفنية التي عاشت فيها فتحية خيري وعلاقاتها بالفاعلين فيها ممّا يكسبه طابعا أشمل يتجاوز إلقاء الضوء على الشخصية المحورية ، فمن خلالها وجد المؤلَّف مدخلا لسرد أحداث هامّة كتأسيس الرشيدية ونشأة الإذاعة وخطاب بورقيبة في ساحة «قمبطة» في سنة 1936 وعودته من الشرق العربي في سنة 1949 وخلع المنصف باي ستّ سنوات قبل ذلك.
كما وجد فاخر الرويسي مجالا للحديث عن شخصيات من الوسطين الأدبي والفنّي تقاطعت مسيرتها مع مسيرة فتحية خيري أو التقت على نفس الدرب في يوم من الأيّام : محمّد الشيشتي عازف البيانو الذّي علّمها الأدوار والموشّحات والقصائد ورفيقة دربها حسيبة رشدي وشافية رشدي وصليحة والسيّد شطّا وخميّس الترنان ومحمّد التريكي وصالح المهدي وعبد الرزّاق كرباكة والهادي العبيدي ومحمّد العريبي وعلي الرياحي ومحمّد الجمّوسي والهادي الجويني وقدّور الصرارفي وعلي السريتي وأحمد خير الدين ومحسن الرايس... والقائمة طويلة.
صيغ الكتاب بلغة سلسلة وبأسلوب مشوّق يحفّزان على قراءته وفيه من ثراء المعلومات ما يجعله وثيقة هامّة حول أيقونة من أيقونات الفنّ في تونس، ملأت الدنيا وشغلت الناس في زمانها.
ما قصّة أغنية «بابورينو» التي أهدتها فتحيّة خيري لمنصف باي؟
حفل كتاب «فتحية خيري، فنّ وشجن» بقصص الأغاني التي أدّتها المطربة فتحية خيري ومن بينها هذه القصّة الطريفة لأغنية كُتبت كلماتها ولُحّنت في وقت قياسي، تكريما للمنصف الباي الذي دعاها إلى اصطحاب أفراد أسرته في جولة بحرية على متن مركبه الخاصّ فأرادت أن تهديه أغنية ردّا لجميله، إذ تدخّل الملك بناء على طلبها لتطليقها من زوجها الأوّل - وهو فلاح ثريّ أصيل جهة زغوان- الذي قسا عليها وأتعبها بغيرته الجنونية.
كتب فاخر الرويسي في هذا الشأن ما يلي:
«في أوّل أيام شهر ماي 1943 دعا الباي فتحيّة خيري إلى اصطحاب أفراد أسرته في جولة بحريّة على متن مركبه الخاصّ. ففكّرت في إهدائه أغنية كردّ جميل على هذه الدعوة التي سرّت بها جدّا.
وصادف أن أحيت فتحيّة حفلة خاصّة انتهت في الساعة الرابعة صباحا. فركبت» الكرّوسة» وذهبت الى ضاحية رادس حيث يقطن عبد الرزاق كرباكة. وبعد أن فتح لها الباب اندهش من قدومها في تلك الساعة المتأخّرة. وطلبــــت منه بإلحاح أن يذهــب معها إلى منزلها لأمر مستعجل. وأثناء الطريق اقترحت عليه نظم كلمات أغنية تتماشى وموكب النزهة البحرية التي دعاها إليها الباي.
كان عبد الرزاق كرباكة صديقا عزيزاعلى فتحية. وكانت تلتجئ إليه في الشدائد. تقول فتحيّة:
«أكّدت عليه أن يتضمّن بعض مقاطع الأغنية موقف المنصف باي معي في مشكلة طلاقي. وخرجت من الغرفة بعدما أحكمت غلق الباب من الخلف وأخذت المفتاح معي كي لا يخرج عبد الرزاق بدون أن ينجز الأغنية. ثم ذهبت إلى غرفة أخرى واستسلمت للنوم.
ولم أستيقظ إلا في منتصف النهار ففتحت باب الغرفة على كرباكة فوجدته غاضبا لنفاذ السجائر التي كانت تعينه على التفكيرعند كتابة الأشعار والأغاني. وعندما سألته عن الأغنية قال لي: «هاك غنايتك». فأخذت الورقة وقرأت طالعها فأعجبت بها ولكن لم أظهر إعجابي لكرباكة بالأغنية فاخذ الورقة من يدي وبدأ يقرأ بصوته الجميل:
بابورينـــــو سرى عالنسمــــــــة شــــــرق المـــــــــوج الـــــحــــــــي
هــــــــازز فوقــــو عزّ الأمّــــــــــــة ســـــــــيـــدي المـــنـــصــــف بــــاي
بابور اسم الله عليك اتهنى واطمان اليـوم العزة حلّت بيك والهمّة والأمـان
اليــــــوم عليـــــك إلي واتيـــــــك ســــــيـــــــدي الـمـنــــصــــف بــاي
بابورينـــو ســـرى عالنسمــــــــة شـــــــــــرق المــــــــوج الحـــــــــي
هازز فوقـــــــو عــزّ الامــــــــــــــــة ســـــــيــــــدي المنــــصــــف بـــــاي
قولــو معـــايا إن شـــاء يــــــدوم على الــــعـــــرش الـــــذي حـــمــــاه
نصــــــرة وبشــــرى للمظلــــــــوم ديــمـــــــا شـــــعبــــــــو مـــعـــــاه
قــــول يــا بابورينـــــو عـــــــــوم بـــــــســـيـــــــدي المنصـــف بــــاي
بابــــورينــــو ســرى عالنسـمــــة شـــــــرق الـــــــــــمـــوج الـــحــــي
هــــــــازز فــوقـــو عـــزّ الأمّـــــة ســـيـــــــــدي الــمنـــصــــف بــــاي
انطلقت فتحية خيري بكلمات الأغنية مسرعة إلى قدور الصرارفي ليضع لها اللّحن. وبسرعة فائقة وحرفيّة متميّزة انتهى الصرار في من وضع اللحن. وبدأت فتحيّة في حصص التمرّن على أدائها مع فرقة «شباب الفنّ» التي كانت متكوّنة من أكبر العازفين في ذلك الوقت منهم إبراهيم صالح على القانون وصالح المهدي على الناي وعلي السريتي على العود وقدّور الصرارفي على الكمان، والطاهر بدرة على آلــــة الطــــار وغيرهم...ولم تغفــــل فتحية عـــن متــابعة عـــزف هـــذه الأغنية بالعــــود.
عزل المنصف باي ونفيه
بعد أن دحرت قوّات الحلفاء قوّات المحور، عادت فرنسا ناقمة على تونس وعلى ملكها المنصف باي. فأمعنت يوم 10 ماي في إهانته والتنكيل به أمام مقرّ الإقامة العامّة. ويوم 13 من نفس الشهر عزلته ونفته الى منطقة الأغواط بالجزائر. وبعد أن تدهورت صحّته نقلته الى «تنس» ثم الى مدينة «بو» بالجنوب الفرنسي.
فوجئ الشعب التونسي بالمعاملة الشرسة والاضطهاد الممنهج الذي تعرّض له ملكه المحبوب. وفُجعت فتحية خيري وتألّمت لمصير هذا الباي الوطني المحبوب الذي أحسن إليها واصطفاها وقرّبها إليه وإلى بلاطه. وتأسّفت لعدم تمكّنها من الإبحار على متن مركبه البحري، وتحسّرت لعدم أداء الأغنية بين يديه والتي صيغت على شرفه.
لكن أغنية «بابورينو» اخترقت الرقابة الاستعمارية بعد نفي المنصف باي، وظلّت فتحيّة تردّدها في قاعة «الفتح» وفي النوادي والحفلات الحزبية والمناسبات الوطنية كلما طلبت منها الجماهير ذلك وخاصّة المنصفية منها، وأصبحت هذه الأغنية تردّد وتغنّى على كل لسان.
كانت فتحيّة من الفنانات النادرات اللواتي كنّ يحظين بتقدير خاصّ من الأمراء والبايات الحسينيين، آخرهم محمد الأمين باي الذي قلّدها «نيشان الافتخار» وهو وسام هامّ تقديرا لمكانتها في عالم الفن وباعتبارها مطربة البلاط الملكـي. والثابت أنّه لم تقلّد قبلها بهذا الوسام امرأة غير زوجة الباي والفنّانة شافية رشدي».
- اكتب تعليق
- تعليق