سـمـــاحــة الإســـلام: من خلال قصّة من التــراث
هذه الصوّر من سماحة الإسلام وتسامح المسلمين استقيتها من كتاب «الأغاني» الذي يعتبره العلاّمة عبد الرحمن بن خلدون «ديوان العرب»، والذي لا يختلف اثنان على أنّه، كما يقول شارحاه الأستاذان عبد الأمير مهنا وسمير يوسف جابر، أجمع كتاب للأدب العربي وتاريخه، وأنّه مـــن أمّهــات المصادر العربية، حيــث أنّ المتأدّب يظفر فيه «بما يروق له من فنون الشعر، وجزالة الخطب، ورقّة الأسلوب، وطرافة القصص، وحلو الأخبار، ومراجع التاريخ، ومناهل الأدب، وجميل الأمثال والنوادر والحكم، ومعين أشتات المحاسن وسجّل أيام العرب».
ولقد صدق الشارحان فيما قالاه، فقد اكتشفت، وأنا أعيد مطالعة كتاب «الأغاني» بعد أن كنت طالعته في سنّ الشباب أيام الدراسة الجامعية، أنّه يزخر بالقصص التي يمكن أن تسهم في تقديم الجواب الضافي والشافي على حالة الحيرة والارتباك التي قد تنتاب المسلم من فرط ما بات ينتاب معتقداته، في هذا الزمن الرديء، من حملات التشكيك والتشهير، بل من حملات التحقير والتصغير...
ولقد بلغ هذا الزمن الرديء من الرداءة حدّا صار معه الإسلام مستهدفا، بالكلمة واللكمة، من كلّ حدب وصوب في أركان الأرض الأربعة، ومن كلّ من هبّ ودبّ من غير المسلمين، وحتّى من بعض المسلمين الذين قد ينخرطون، عن قصد أو غير قصـد، في تكريس ما يتّهم به من التحجر والتعصّب والتطرّف والإرهاب..
ولعلّ من أجمل القصص التي يمكن أن نستهلّ بها هذه السلسلة من المقالات القصّة التالية التي كان بطلها الحارث بن عبد الله، وهو شريف كريم دين وسيّد من سادات قريش، والتي جاء فيها ما يلي: «وأخبرني علي بن صالح عن أبي هفان عن إسحاق بن إبراهيم عن الزبير والمدائني والمسيبي: أنّ أمّه ماتت نصرانية وكانت تسرّ ذلك. فحضر الأشراف جنازتها وذلك في عهــد عمر بن الخطاب، رحمة الله عليه، فسمع الحارث من النساء لغطا، فسأل عن الخبر، فعرف أنّها ماتت نصرانية وأنّه وجد الصليب في عنقها، وكانت تكتمه ذلك. فخرج إلى الناس فقال: انصرفوا رحمكم الله فإنّ لها أهل دين هم أولى بها منّا ومنكم. فاستحسن ذلك منه وعجب الناس من فعله». (الأغاني، المجلد الأول، ص 76، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، بيروت، لبنان).
إنّ هذه القصة التي قد يقرؤها القارئ ويمرّ عليها مرور الكرام لا سيما وإنّها قصيرة لا تتجاوز بضعة أسطر، جديرة بأن نتوقّف عندها فهي تختزن في طيّاتها، كما أرى، كنوزا من الرموز التي تجسّم سماحة الإسلام وتسامح المسلمين في أروع صورهما...
وبالفعل فإنّ ردّة فعل الحارث بن عبد الله عندما أعلم بأنّ والدته ماتت نصرانية كانت رائعة، فهو لم يغضب، ولم يتشنّج، وإنّما تصرّف بكلّ هدوء، وبكلّ حكمة، وخاصّة بكلّ احترام لديانة والدته حيث طلب من الناس الذين حضروا إلى جنازتها الانصراف، مبرّرا ذلك بأنّ أهل دينها أولى بها وبدفنها...
وعلى نفس المقدار من الرّوعة كان موقف الناس الذين استحسنوا ردّة فعله وعجبوا من فعله والحقيقة أنّهم أعجبوا بفعله...
أفليس ذلك كلّه دليلا على تأصّل روح التسامح عند المسلمين؟ وهل يستطيع الذين يدّعون احترام حقّ الاختلاف ولا يتورّعون عن مهاجمة الإسلام والمسلمين أن يعثروا في آدابهم على قصّة تماثل هذه القصّة أو تشابهها؟.
محمد إبراهيم الحصايري
- اكتب تعليق
- تعليق