حكم الإسلاميين أو المقاربة السياسية الجديدة في تركيا
في السنوات الأولى بعد وصول حزب العدالة والتنمية في تركيا إلى الحكم، تداولت الساحة السياسية سيناريوهات تطوّر النظام الجديد، وبرزت في هذا الإطار فرضيتان:
الفرضية الأولى: يروّج لها شــــقّ الإسلاميين الديمقراطيين الذين يرون في حزب العدالة والتنمية كيانا تحرّر من الرؤى الإسلاموية لمؤسّسيه ليصبح بذلك شبيها بالأحزاب المسيحية الديمقراطية في أوروبا ويعمل على تحقيـق الاندماج في مؤسّسات الاتحاد الاوروبي وإقامة نظام سياسي مدني تمثيلي بعيد عــن تدخّل المؤسّسة العسكرية الموروث عن آتاتورك.
الفرضية الثانية: مبنيــة على ما يسمّـــى بـ«الأجندة الاســلامية الخـفية» وتشير إلى أن وراء نافذة الخطاب المغري تشكّل الحكومة الجديـدة المرحلة الاولى في بــــرنامج تفكيك الدولة الكمالية والتي سوف لن تؤدّي إلى تطوير الديمقراطية بل على العكس من ذلك ستوصل إلى تطبيق الشريعة وإلى انشــــاء جمهورية إسلامية. مـا نـــلاحظه اليوم هو أن المسار السياسي والإديولوجي التركي منذ 2002 اقتبس من الفرضيتين دون أن ينحاز إلى أيّ منهما ويمكن القول بأن سيناريو ثالثا هو بصدد التنفيذ ويتمثّل في رجوع تركيا إلى هويّتها الإسلامية مع التركيز بالتوازي مع ذلك على النزعة القومية والسلطوية التي ميّزت الزعماء الأتراك. هذا السيناريو الثالث الذي ذكـره Jean Marcou في مــقـال بمجـلة: Moyen-Orient (إصدار جانفي -مارس 2018) تحت عنوان «Les Multiples visages de l’AKP au pouvoir». يستعرض 4 مراحل في تطور النظام السياسي الجديد:
المرحلة الأولى: مــن 2002 إلى 2007 هـــي مرحلة مراقبة قد تكون أوهمت الملاحظين بأن السيناريو الأوّل المذكور أعلاه هو بصدد التنفيذ. خلال هذه الفترة (فترة الحكم الأولى) واصلت الحكومة الإصلاحات التي تمّ إقرارها من قبل الحكومة السابقة استعدادا لمفاوضات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي التي بدأت بالفعل في 2005. كما نجحت الحكومة في الحفاظ على التوافق مع المؤسّسة العسكرية.
المرحلة الثانية: مــن 2007 إلى 2011 هي مرحلة عودة الصراعات بين المعسكر العلماني والقيادات الإسلامية بمناسبة انتخاب رئيـــس الجمهورية الجديد في 2007 خلفا للرئيس أحمد نجدت سيزار المعروف بخطّه العلماني وبرئاسته السابقة للمحكمة الدستورية التي حلّت وألغت بانتظام أحزاب التيار الإسلامي التركي.
هذه الفترة تعتبر بداية حرب دون هوادة بين المعسكرين نجح خلالها حزب العدالة والتنمية في تحقيق نسبة عالية في الانتخابات التشريعية سمحت له بانتخاب رئيس للجمهورية من صف الحزب هو عبد الله غول قبل إفشال مساعي المؤسّسة القضائية الهادفة إلى حلّ حزب العدالة والتنمية بداعي معاداة العلمانية وذلك بالتعاون مع القضاة التابعين لمؤسسة فتح الله غولن النقشبندية الحليفة (تعاون أردوغان مع الطرق الدينية المتغلغلة في المجتمع التركي رغم منعها قانونيا من قبل آتاتورك). هذه المرحلة شهدت كذلك محاكمات كبرى (Ergenekon,Balyoz) لكسر النفوذ السياسي للمؤسّسة العسكرية. وتعتبر سنة 2011 منعرجا في مسار حزب العدالة والتنمية إذ عمد النظام لأول مرة في ربيع هذه السنة إلى الحدّ من حرية التعبير بإيقافه لصحفيين معروفين في مجال الاستقصاء. كذلك ظهرت أوّل تصدّعات في العلاقة بين الحكومة وحركة غولن بعد إبعاد أحد القضاة الموالين لهذه الجماعة. وفي صائفة نفس السنة ترأّس أردوغان بمفرده المجلس العسكري الأعلى دون مشاركة الجيش وهو ما خوّل له ولأول مرّة تعيين الهيئات القيادية في المؤسّسة العسكرية: في نهاية هذه المرحلة نرى أنّ حزبا تطوّر ونما في المناطق المهمّشة في تركيا بدأ يسيطر على مراكز السلطة في الدولة. هذا التطوّر سيتأكّد ويتدعّم في:
المرحلة الثالثة التي تمتدّ مـــن 2011 إلى 2014 وهي مرحلة الاستقطاب التي تتعدّى الهيئات السياسية لتشمل المجتمع برمّته. هناك تغييرات كثيرة قامت بها الحكومة في ظلّ الانتصارات الانتخابية والسيطرة على مفاصل الدولة من ضمنها المشاريع الكبرى في مجال البناء من جسور وطرقات وسكك حديد واتفاق وكذلك إحياء التراث العثماني وضغوط مجتمعية نابعة عن ما أسماه البعض بالثورة الثقافية الجديدة التي تهدف إلى أسلمة المجتمع والدولة. هذه التغييرات أدّت إلى احتجاجات حديقة Gezi باسطنبول في ماي – جوان 2013 والى قمعها باستعمال القوّة المفرطة ضدّ المتظاهرين الذين رفضوا استعمال هذا الفضاء لأغراض إيديولوجية (ترميم ثكنة عسكرية عثمانية وغلق مركز آتاتورك للثقافة...)
هذا التطوّر كان من ضمن الأحداث التي وضعت حدّا لأسطورة «المثال التركي» التي ظهرت إبّان ثورات ما يسمّى بالربيع العربي.
المرحلة الرابعة والأخيرة: تتمثّل في تصلّب النظام وقد أدّت انطلاقا من 2014 إلى شخصنة السلطة حيث عدّل الدستور وأصبح أردوغان في أوت 2014 رئيسا للجمهورية بالاقتراع العام. كذلك ستنتقل تركيا من نظام برلماني إلى نظام رئاسي قوي يجمع فيه الرئيس بين رئاسة الدولة ورئاسة الحزب ويلغي فيه منصب رئيس الحكومة.
هذا التحوّل غذّاه وضع غير مستقرّ في الداخل وفي الجوار المباشر حيث استأنف التمرّد الكردي نشاطه وقامت داعش بعدّة تفجيرات في المدن التركية وقام معارضو أردوغان بمحاولة انقلاب عسكري في 15 جويلية 2016 استغلّها الزعيم التركي لتوجيه الضربة القاضية لخصومه في شكل حملة قمع وتطهير لم تشهدها تركيا من قبل.
السفير محمّد لسير
رئيس المنتدى الدبلوماسي
- اكتب تعليق
- تعليق