النهضة تطوي صفحة التوافق !.. هل هو تحولٌ في تمشِّيها السياسي، أم هي فقط في انتظار الشريك الجديد ؟
لو سألنا أنفسنا ماذا بقي في الذهن من كلام رئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي في مقابلته التلفزيونية لمساء الإثنين 24 سبتمبر 2018 ؟ عن نفسي أقول، إنه بدرجة أولى، إعلانُه عن قرار حركة النهضة، ممثَّلةً في رئيسها راشد الغنوشي، وقف تعاملها وقطع علاقاتها معه، أي إنهاء عهد التوافق التاريخي بينهما الذي تم رسم قاعدته سرا في باريس في 15 أوت 2013، وإعلانه على الملأ إثر انتخابات 2014 التشريعية والرئاسية! وبدرجة ثانية، تصميمُه على إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية القادمة في موعدها، في نهاية 2019 ! وأخيرا، تجديد دعوته ليوسف الشاهد أن يتجه إلى مجلس الشعب لطلب التصويت بالثقة على حكومته حتى يكسب شرعية البقاء والاستمرار في مهامه ! وإذا كانت إجابتا رئيس الدولة في النقطتين الثانية والثالثة جليتين ولا تتطلبان مزيد الشرح أو كثير تعليق، إلا إن النقطة الأولى بنظري، والمتعلقة بطلب حركة النهضة، أو بسعيها (حتى أحافظ على نفس العبارتين اللتين أوردهما رئيس الدولة) إلى إيقاف التعامل معه ووضع حد لعهد التوافق بينهما، فهي التي تستدعي الوقوف عندها مطولا.. و ماأفعله في هذا المقال، ليس بتحليل القرار في حد ذاته، بقدر ماهو تنزيلٌ له في سياق مسار سياسي كامل لحركة النهضة، وبالأساس لرئيسها راشد الغنوشي، لنرى أنه لم يكن قرارا مفاجئا، بل إنه جاء في إبانه بعد أن أيقن راشد الغنوشي أن شريكه في التوافق، لم يعد بالضرورة، الباجي قايد السبسي، وحركة نداء تونس التي وراءه، والتي قد أضاعت الكثير من بريقها بعد أن تشظت وفقدت فاعليتها البرلمانية والشعبية، فلم تعد كُفأً لحركة النهضة في التوافق. وهكذا يكون قد وجه في نفس الوقت بهذا الموقف،إشارةَ مكافأة إلى الشق الغاضب سابقا في الحركة والعائد إلى أحضانها أثناء حملة التشهير بتقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة، وأيضا رسالةً لتأكيد الدعم مضمونة الوصول إلى يوسف الشاهد الذي بصدد تشكيل كتلة برلمانية آخذة في الاتساع، حتى يواصل المضي إلى الأمام فيما شرع فيه، فيكون هو، ربما، حليفَ المستقبل، في انتظار أن تحين ساعة حسابه هو الآخر! فأي ماكينة سياسية هو راشد الغنوشي؟ وأي خلية نحل محكمة البناء ومتكاملة الأدوار ومنضبطة الأداء هي حركة النهضة ؟ لاتكلّ ولا تتعطل ولاتنحرف عن هدفها، حتى وإن بدا أنها تغير مسالكها وأثوابها من حين لآخر! نظرة إلى الخلف في خضم موجات القدح والثلب والشتم التي تكال يوميا، في أوساط اليساريين والديمقراطيين المسيسين ونسبة مهمة من عموم الشعب، لحركة النهضة، وبالأساس لرئيسها ومؤسسها ومنظرها راشد الغنوشي، بدأت منذ فترة وجيزة تظهر تصريحات وأحاديث من هذا الجانب أو من ذاك، من السياسيين الخصوم، بدرجات متفاوتة، لهذه الحركة، تعترف لها بالمهارة في اللعبة السياسية. كما تعترف لرئيسها أو لعَرَّابها راشد الغنوشي، كما يحلو لبعضهم نعته، بالدهاء السياسي. ولكليهما، بالتفوق على الخصوم في ملعبهم، والمقصود به، الملاعبة الديمقراطية!
"الأستاذ". هكذا يناديه القياديون الشباب في الحركة الذين يرون فيه المُنظِّرَ والمفكرَ وقائد الطريق، وإن كانوا يكررون في كل المناسبات تمسكهم بالدور المحوري لهياكل الحركة وبالنهج الديمقراطي صلبها في بلورة الخطط ومناقشتها وفي اتخاذ القرارات المناسبة بشأنها كما بشأن مختلف الأحداث الطارئة والعاجلة. أما غالبية القياديين من الجيل الأول والكوادر الوسطى والدنيا وسائر المريدين من مختلف الأجيال، وخاصة منهم الحرفيين وأصحاب المشاريع الصناعية والتجارية، المتوسطة والصغرى، والموظفين من مختلف الأصناف، فقد دأبوا على مناداته بلقب "الشيخ".
الزعيم ؟..
ومهما كانت الصفة المقدَّمة على اسمه، من قِبَلِ جماعته، فإنها ومنذ بدَأ الإعداد للانتخابات البلدية الأخيرة في العام الماضي، لم تعد تشفي غليله! فمنذ تلك الطلة التلفزيونية، في الأول من أوت من السنة الماضية، التي بدا فيها متأنقا في طقم راقي القماش والحياكة الحديثة، وبربطة عنق لافتة اللون والانسجام مع الطقم، وهي الخرجة التي "نصح" فيها يوسف الشاهد رئيسَ الحكومة بالانكباب على العمل الحكومي وبعدم التفكير في الترشح لرئاسية 2019، وراشد الغنوشي قد بدأ في صناعة صورته كزعيم، بغَضِّ النظر عن إمكانية ترشحه هو نفسه لذلك الاستحقاق الانتخابي أم لا. المهم أن يبدو، في تحركاته وفي مواقفه وفي تصريحاته، زعيماً كاملَ الأوصاف! ولعل جولته في مدينة تونس العتيقة، أثناء الحملة الإنتخابية للاستحقاق البلدي، مرفوقا برئيسة قائمة حركة النهضة إلى تلك الانتخابات عن دائرة بلدية تونس، سعاد عبد الرحيم، وسط جموع الأنصار والمقربين من الحركة من التجار والمريدين، لَنموذجٌ للصورة التي شرع في صنعها وفي نشرها في وعي، وفي لاوعي، الشعب الكريم. كما جسَّد تصريحُه فور خروجه من مكتب الاقتراع يوم الانتخابات البلدية، في السادس من ماي 2018، نفسَ الصورة حين قال بأن رئاسة البلدية كانت مَعْبَراً لرئاسة الدولة بالنسبة للكثيرين. وضرب لذلك مثلا بالرئيس الفرنسي الأسبق، جاك شيراك، الذي كان رئيسَ بلدية باريس قبل أن يفوز بمفاتيح قصر الأليزاي. وكذلك الشأن بحبيبِ قلبِه الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، الذي قطع نفس المسار. وهو التصريح الذي أراد به، في الظاهر، إبراز أهمية وقيمة مسؤولية رئاسة بلدية العاصمة، إلا أنه في الواقع يقوم دليلا آخر على هذا التصميم وهذا التمشي..
العين على قصر قرطاج
لا أحد كان يَقْدِر أن يجزم يومها إن كان راشد الغنوشي، إلى جانب تصميمه الجلي على عدم التنازل عن رئاسة بلدية العاصمة، قد كان يلمح بذلك التصريح أيضا إلى أن حركة النهضة سترشح امرأة للانتخابات الرئاسية القادمة، هي سعاد عبد الرحيم، أم إنه فقط كان يريد أن يقول، ليست العبرة بمن يكون الشخص، ولكن المعنى النهائي المقصود هو إن الحركة، مثلما تنجح في تصعيد امرأة لرئاسة أعرق وأقوى بلدية في البلاد، بمقدورها أن تصعِّد في المرحلة اللاحقة من تشاء إلى رئاسة الدولة! وفي الحالتين، هي صورة الزعيم الآخذة في التبلور، وفق منهجٍ وإدارةٍ تسويقيين عصريين! وفعلا، أكدت الأيام اللاحقة صدقَ عزمه بأن تكون أول شيخة لتونس العاصمة، سعاد عبد الرحيم،غيرَ مكترث لغضب أو لخيبة أمل شريكه، الباجي قايد السبسي، في عهد التوافق الذي قطعاه معاً.. ثم جاءت المرحلة الموالية، أو لنقل الاختبار الموالي عندما أجمعت جل أطراف وثيقة قرطاج، بمن فيها رئيس الدولة، على ضرورة تغيير حكومة الشاهد برئيسها، فوقف راشد الغنوشي ملوحا لهم بعلامة "لا" الرافضة القطعية، وطالبا من الشاهد في المقابل وفي نفس الوقت، أن يلتزم بعدم الترشح للانتخابات الرئاسية لـ 2019. وهو مالم يفعله الشاهد لحد كتابة هذا المقال دون أن يبدو على الحركة وعلى رئيسها أي تغيير في موقفهما، حيث جدد راشد الغنوشي في أحدث لقاء له مع رئيس الجمهورية أن الحركة متمسكة بضرورة "الاستقرار السياسي واستمرار الحكومة في عملها"! مرة أخرى نحن بصدد قيادي سياسي محنك، يحسن المناورة والمداورة، وقد نزع ثوب الحَمَل الوديع الذي كان يساير في ظله، ظاهريا على الأقل، حليفه الودود(الغريب أنها على وزن "اللدود") في كل المحطات والقرارات، لتأكيد فضائل التوافق، بقطع النظر عما يمكن أن يقال عن مدى أخلاقية الأسلوب، وعن الغاية النهائية لمثل هذا الموقف! الأهم، أن راشد الغنوشي أصبح الآن في كل مرة يفصح عن جانب جديد من مخططٍ مستقل لحركته لقادم الأيام والأسابيع والأشهر التي تفصلنا عن الاستحقاقات الانتخابية التشريعية والرئاسية لنهاية عام 2019.. ثم يأتي الاختبار الثالث دون أن يختلف في شيء عن سابقيْه، ونعني به، الموقف من تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة، وما أدراك ما تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة الذي افترشه الخصمان مساحا فرجويا لمبارزة طاحنة أعادت إلى الأذهان أجواء حملات سنة 2012 بالتحديد، والتشنج والخوف اللذين رافقاها!
دهاء الشيخين
عندما طرح الشيخ الأكبر (سنا)، الباجي قايد السبسي، بادِرَتّه الطُعم الشهيرة، في 13 أوت 2017، وشكَّل لها لجنة تقوم بدراسة مسألة المساواة في الإرث بين الذكر والأنثى، أساسا، وغيرها من قضايا الحريات الفردية، كان في الواقع يهدف، بما يملكه من مخزون ضخم من المناورات السياسية التي يحفل بها تاريخ العهدين البورقيبي والبنعلي من دون احتساب ما بعدهما، إلى تحقيق ثلاثة أمور في نفس الآن. أولها، الظهور في صورة الزعيم التاريخي المصلح الذي ينجز مالم يُقدِم الزعيم الحبيب بورقيبة على فعله. وثاني الأهداف الثلاثة، كان ترضيةَ واسترجاع أصوات المليون ناخب وناخبة الغاضبين عليه لغدره بهم بتوافقه مع حركة النهضة. أما الهدف الثالث من "المشروع الرئاسي"(للتخفيف)، فكان دفعَ الشيخ الأصغر(سنا كذلك) إلى الزاوية، إن هو عارضه، وإقامةَ الحجة عليه بأن حركته غيرُ منخرطة، في حقيقة الأمر والواقع، في خيار مدنية الدولة، مثلما سبق ولامها على ذلك في نقدٍ صريح منذ بضعة أشهر في حديث صحفي، حينما أوضح بأنه قد يكون فشل في أخذ حركة النهضة إلى القناعة الفعلية بذلك الخيار. غير إن زعيم حركة النهضة، ما أن تلقفت أذناه ورأت عيناه رئيسَ الدولة يُفصِح في ذلك اليوم المشهود عن "مكنونه" حتى تململ متربصا في مكانه، كثعلب يرقب الأجواء من حوله ومنتظرا ظهور الفريسة أمام ناظريه ليقدِّر إن كانت تستحق الإفناء أو الإلهاءَ فقط وجمْعَ الحشودِ عليها، ليبدو هو في موقع المدافع المغوار على هوية قومه المعرَّضة للإستباحة، فيشير بالأصبع للشيخ الآخر كأن لسانَ حاله يقول ، "هاهو المناويء المثير للفتن والمتنكر للعهود، بل والخارج عن الملة، يكشف نواياه، بل مخططاته الحقيقية، لتقويض أركان ديننا عمادِ وجودِنا ووحدتِنا وهويتِنا لإكمال مخطط سيده "المجرم والعميل الأكبر"، الحبيب بورقيبة!" وفعلا، ذلك ماتم على أرض الواقع وأكثر..
حملة الشيطنة والتكفير
فمنذ أن قدَّمت لجنة الحريات الفردية والمساواة تقريرَها إلى رئيس الجمهورية ونشرته على العموم للمناقشة وإبداء الرأي، حتى دارت ماكينة التشويه والتكفير وإعلان النفير "للذود عن دين الإسلام" من هرطقات أعدائه، المتآمرين عليه ليطفئوا نوره! فلم تُفلح أجود ماركات مكيفات الهواء التي تؤثث مساجد وجوامع البلاد في تلطيف الحرارة التي ارتفعت فيها إلى أقصى درجاتها من نارية خطب أئمتها المصوَّبةِ نحو الرئيس الباجي قايد السبسي وأعضاء لجنة الحريات الفردية والمساواة، وفي مقدمتهم رئيستها "المسكينة" بشرى بلحاج حميدة، حتى أصبحت اللجنة تُكَنَّى باسمها. تلك المساجد، هي ذاتُها التي ما انفك وزير الشؤون الدينية يؤكد، وآخرها منذ أيام قليلة، بأنها كلَّها، تحت سيطرة الدولة!! سوى إنه لم يحدد أيَّها!! الحملاتُ التهجمية تلك المسوَّقة كحملات دفاعية عن الإسلام، لم تقتصر على منابر المساجد، بل شملت أيضا الحرم الجامعي داخل حصن جامعة الزيتونة حاضنةِ وسطيةِ الإسلام في بلدنا وفي كامل أرض المغرب العربي. ثم انتشرت في الشوارع وفي الساحات بقيادة، أو بالأحرى، بإمامة أيمة تلك المساجد. وقد انبرى فيها الخطباء من كل فصائل الإسلام الأصولي والسياسي و"الجهادي"، القانوني منه و"الشرعي"، للتشهير أولا ببشرى بلحاج حميدة، على أساس أنها "ترمي من وراء تقريرها إلى نشر دين جديد غير الدين الإسلامي"، كما جاء على لسان أحدهم، وما يترتب عن ذلك من هدرٍ لدمها ولدم بقية أعضاء اللجنة اللذين شاركوها "فعلتَها". هذا فضلا عن عودة الشعارات المنادية بتطبيق الشريعة، وبأن الإسلام خط أحمر، وغيرها من الشعارات المشابهة.. كل ذلك والنهضة غير بائنة بجلاء في الصورة، سوى من بعض التصاريح الفردية من هذا القيادي أو من ذاك، تراوح بين الحديث عن ضرورة التعمق في نقاش ماجاء في التقرير وتشريك "العلماء المختصين" فيه، أو في التأكيد على وجود أولويات تستدعي الاهتمام مثل الوضع الإقتصادي المتردي، وغلاء الأسعار وتدني المستوى المعيشي للمواطنين، بدل هدر الوقت في قضية الإرث، وكأن حركة النهضة موجودة في المعارضة وليست الطرف الرئيسي في الحكم وفي استفحال الأزمة المذكور بعضٌ من سماتها..
ضعف الدعم التقدمي والحداثي
أما على الضفة الثانية، وباستثناء ماقامت به جمعية مواطنات ومركز الكريديف وجمعيات قليلة أخرى، من تنظيم ندوات أو تظاهرات لشرح ومساندة تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة ودحض الافتراءات التي تعرض لها، لم تتفاعل غالبية الطيف اليساري والديمقراطي، بما فيه معظم منظمات المجتمع المدني المنسوبة على الحركة التقدمية إجمالا، بالكثافة وبالحماس وبالتعبئة التي تجلت في أوساط الإسلام السياسي بكل فصائله والإسلام السلفي وحتى التقليدي، وفي نسبة مهمة من المواطنين العاديين تحت ضغط التجييش المساجدي بالأساس. كما إن وقفة مساء 13 أوت الماضي المساندة للتقرير والرافعة لشعارات مدنية الدولة والمساواة في جميع الحقوق، كانت تقريبا الوقفة اليتيمة، وإن كان عدد المشاركات والمشاركين فيها مرتفعاً!
في كل مبارزة، فائز ومهزوم..
وبمنطق الفوز والهزيمة في تلك المبارزة بين الشيخين، تكون حركة النهضة قد كسبت إعادةَ توحيدِ صفوفها الداخلية، واستعادت الشق الرافض لأسلوب المهادنة الذي فرضه "الشيخ" راشد، وكان من ضمنه قرار المؤتمر العاشر للحركة بفصل السياسي عن الدعوي في الحركة، بل ومن قبله التوافق الذي انخرط فيه الشيخان في باريس وأصبح أمرا واقعا إثر انتخابات 2014، التشريعية والرئاسية! وبهذا الكسب يكون راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة قد ضمن تعبئة خزانها الانتخابي لعام 2019 بالتمام والكمال! أما الشيخ الباجي وقد أيقن من فشله، أولا في استرجاع الغاضبين عليه وتحقيق تأييد شعبي عريض له يساعد في إيقاد وهج حركة نداء تونس المتلاشي، وثانيا، في الإيقاع بخصمه الذي لم يكتف بإدارة حملة الملاسنة المسجدية والشارعية وحتى الفايسبوكية بمهارة أو بخبث كبير من وراء ستار، بل تَقدَّم مكشوفَ الوجه والنوايا إلى رئيس الدولة برسالة مثَّلت الموقف النهائي للحركة من التقرير ومن تمريره إلى مجلس نواب الشعب. وقد تبين أن مضمونَها الذي يمكن إيجازه في كلمة "لن" الزمخشرية، على قول اللغويين والنُّحاة، قد بقي أثرُه على أعصاب رئيس الجمهورية جليا وهو يلقي كلمته في قصر قرطاج صبيحة يوم الإثنين 13 أوت 2018 بشأن قراره المتعلق بتقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة! فبرغم الحدة التي أراد أن يُظهرها في تأكيده على مدنية الدولة، كان واضحا أن تسلسل المعاني قد اختل معه أثناء ارتجاله تلك الفاصلة الاعتراضية. كما اتضح إقرارُه بالهزيمة، عندما أعلن قراره بتأجيل النظر في مقترحات اللجنة المتعلقة بموضوع الحريات الفردية في تقريرها، وبعرض الجانب منه الخاص بالمساواة في الإرث على مجلس نواب الشعب "في أقرب فرصة"(لم تَحِنْ بعد!) لمناقشته حتى يتنزل في صيغة تشريع قانوني يُعتمد في المحاكم والدوائر القضائية لتحقيق المساواة في الإرث بين الذكر والأنثى.. هل انتهى الأمر عند هذا الحد؟ أبداً! قرارُ رئيس الدولة شمل كذلك، كما تذكرون، إفراد فصل في القانون ينص على ترك الحرية للمورِّثِ في حياته ليوصي باعتماد منطوق الشرع، وفق ما جاء في القرآن، بشأن تقسيم الإرث.. وبذلك، مثلما استخلص خبراء في القانون الدستوري، يكون رئيس الدولة قد أضاف تقسيما ثانيا للدولة بأن كرس جانبا منها دينيا يتعايش مع جانبها المدني.. هذا فضلا عن إخلاله بتعهده بالالتزام بالمعاهدات الدولية التي أمضت عليها الدولة التونسية، وآخرها البروتوكول الإفريقي لحماية الأسرة والطفولة، والذي ينص صراحة على المساواة في الإرث بين البنين والبنات، والذي صادق عليه مجلس نواب الشعب، بجميع أطيافه السياسية، بمن فيهم النهضويون، في ربيع العام 2018، وأمضى عليه رئيس الدولة، ولا أحد غيره، في شهر جوان الماضي، ثم صدر في الرائد الرسمي للبلاد التونسية في نفس الشهر من نفس السنة!! واستبعد تماما فكرةَ "نسيان" الشيخ الباجي ذلك!
الغنوشي ينحني للعاصفة
راشد الغنوشي أتقن بمهارة فائقة حركة الانحناء للعاصفة حتى تمر. وهي خصلة كسبها من مران سنوات قيادته للجماعة وللإتجاه الإسلامي ثم لحركة النهضة ، وكلها عناوين مختلفة لنفس التنظيم العقدي القائم على نفس القواعد والرامي إلى تحقيق نفس الأهداف.. هي فقط الطرق تتبدل بتبدل الظروف، فكان راشد الغنوشي القائدَ الماهر في تبيُّن الطرق السالكة في الإبان وترك الطرق الشائكة كلما استحال السير فيها! لقد روَّض النفس على الرضى بالمواقع الخلفية بعيدا عن الأضواء حتى وهو القائد والموجه والمرشد بين جماعته وأنصاره. وحتى فيما بعد 2011، كان يفضل دائما موقع الظل في تحركاته وتغليبَ دور الفاعل الميداني على الدور القيادي البارز، في المساجد وفي الاجتماعات التعبوية من الشمال إلى الجنوب. لقد تمكَّن من جسِّ نبضِ الشارع التونسي، بعد المد الهادر المخيف للإسلام السياسي والأصولي السلفي وروافده في كامل البلاد، في سنتي 2011 و2012 بالذات، وما رافقه من أعمال عنف وإرهاب فكري ومادي طالت مقرات الأمن والإدارات العمومية بالحرق وإتلاف الوثائق، والشخصيات الاعتبارية الثقافية والفنية والإعلامية للبلاد، بالإهانة وبالضرب، ومن طردٍ لأئمةِ كثيرٍ من المساجد والاستحواذ على إمامتها عنوة، إلى أن وصل الأمر إلى اغتيال الزعيمين الوطنيين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، في نفس العام 2013 وقبلهما لطفي نقض.
اعتصامُ الرحيل
مع الاغتيال الثاني الذي طال المناضل الوطني الرمز محمد البراهمي، وأفاق على هوله التونسيون يوم احتفالهم بعيد الجمهورية من عام 2013، بعد ستة أشهر فقط من اغتيال الزعيم الوطني شكري بلعيد، هبت شرائح واسعة من الشعب تتقدمها منظمات المجتمع المدني والأحزاب التقدمية والديمقراطية إلى الاعتصام في صائفة 2013 في باردو للمطالبة بصوت واحد برحيل منظومة الترويكا، تتقدمها حركة النهضة. حتى إن ذلك الاعتصام أصبح يعرف بشعار الرحيل الذي رفعه في وجه حركة النهضة. وقد اعتبر عدد من المحللين أن حركة النهضة لم يُنقذها يومها من سقوطٍ تاريخي مدو، كان مآلَ تنظيم الأخوان في مصر قبل ذلك بأسابيع، إلا مبادرة الإتحاد العام التونسي للشغل والإتحاد التونسي للصناعة والتجارة والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان وعمادة المحامين التونسيين. وهو الرباعي الذي عُرف باسم "رباعي الحوار"، والذي تمكن بعناء من التوصل إلى اتفاق تم بموجبه حلُ حكومة الترويكا وتشكيلُ حكومة تصريف أعمال برئاسة المهدي جمعة. فما كان من رئيس حركة النهضة، يضيف أولئك المحللون، إلا أن قال يومذاك قولته الشهيرة المكتنزة بكل معاني الفرح بالنجاة ،"خرجنا من الحكومة ولكننا لم نخرج من الحكم"!! وهكذا كان ! وبالموازاة مع ذلك، تم ترتيب لقاء في باريس في الخامس عشر من شهر أوت لتلك الصائفة، بين الشيخين الباجي قايد السبسي وراشد الغنوشي، حيث طُبِخ مخططُ التوافق بينهما في غرفةٍ مغلقة،عليهما وحدهما أم على أشخاص آخرين معهما، فلا خبر مؤكَّد رشح عن تلك الخلوة لقطع الشك باليقين، لحد علمي، لحد الآن!
التوافق التاريخي
تسارعت بعد ذلك التغيرات في مواقف حركة النهضة بدءً بالمجلس التأسيسي، حيث تجسد التوافق على الدستور، بعد ماراطون النقاشات الصدامية، وحظي بالمصادقة في يوم مشهود في السابع والعشرين من جانفي لعام 2014. وما إن وضعت معركة الانتخابات التشريعية والرئاسية أوزارها، والتي لاينكر أحدٌ أنها دارت وفق معايير دولية من الشفافية والنزاهة بشهادة المراقبين والملاحظين من الداخل ومن الخارج باستثناء بعض الإخلالات الطفيفة التي لاتخلو منها غالب الإنتخابات في أعتى للديمقراطيات في العالم، حتى أعلن الرئيس المنتخب الجديد الباجي قايد السبسي عن التوافق مع حركة النهضة "لفائدة السلم الاجتماعية وصونا للوحدة الوطنية من أي تصدع وتفاديا لخطر الحرب الأهلية!" أول مابدأ يهندس له زعيم حركة النهضة بعد طي صفحة الانتخابات التي كان غيَّب من قائمات حركته فيها الوجوهَ التي اقترن ذكرُها في المجلس التأسيسي وفي مختلف المنابر، بالعنف وبتمجيد الإرهاب وبالدعوة إلى الجهاد، هو تغيير ثوب الحركة وأسلوبها لإدخال الطمأنينة على قلوب التونسيين وإنسائهم سواد سنوات التهديد والوعيد بهدر الدم وبالسحل في الساحات، والحرق والاغتيال، بالذبح أو رميا بالرصاص. وقد جاء قرار المؤتمر العاشر لحركة النهضة بفصل السياسي عن الدعوي، في ربيع العام الماضي، مجسِّداً لتلك الهندسة أو لتلك الخطة.
الانتخابات البلدية والانفتاح
مع ذلك، وبرغم الاحتياطات الذكية التي بادر إلى اتخاذها راشد الغنوشي أساسا، بإفساح المجال للمستقلين للترشح إلى الانتخابات البلدية على قوائم حركة النهضة بالتناصف، فضلا عن تزكية النهضة لقائمات كاملة منفردة من "المستقلين" كانت لها سندا في التصويت لمرشحي الحركة لرئاسات البلديات التي تنافست عليها مع خصومها، فقد خسرت الحركة أكثر من 800 ألف صوت من إجمالي الأصوات التي حصلت عليها في انتخابات 2014.. وقدِّرت خسارة النداء فيها بمليون صوت عما كان عليه الحال في 2014! ولكن مع ذلك، يمكن أن نقول إن حركة النهضة قد خرجت بأخف الأضرار من الانتخابات البلدية الفائتة، وتمكنت من السيطرة على العدد الأكبر من بلديات الجنوب والفوز برئاساتها، وتقاسمت المواقع مع المستقلين ومع حركة النداء في جهات الساحل والشمال. إلى جانب ظفرها برئاسة أهم وأكبر بلديتين في البلاد، هما بلديتا العاصمة وصفاقس.. وهاهو زعيم حركة النهضة متفرغ الآن تماما لحشد كل القوة واستخدام جميع الأسلحة، وفق خط سير مرسوم بدقة لكسب نتائج انتخابات 2019، التشريعية والرئاسية! فلم يعد بحاجة لشريك محاط بالأزمات وبالخلافات قد يعطله في مساره فلا يستفيد منه.
هل من منافس ؟
فهل من منافس لراشد الغنوشي ولحركة النهضة في انتخابات 2019 ؟ هل يكون يا تُرى يوسف الشاهد وحركة النهضة لحد الساعة هي وليةُ نعمةِ بقائه على رأس الحكومة؟ أم هو ابن رئيس الدولة ببقايا حركة النداء ؟ أم هو حمّة الهمامي بالجبهة الشعبية التي تعيش مخاضا عسيرا على مايبدو هذه الأيام؟ أم هناك أمل في تشكل قطب وطني تقدمي، خالٍ من الحسابات الحزبية الضيقة ومن هاجس الزعاماتية اللعينة، يكون له برنامج علمي دقيق ورؤية واقعية لحقيقة الأوضاع الضنكة التي تعيشها البلاد وللكيفية الناجعة لإنقاذها منها، واستشرافٌ محسوب لأفق التنمية العادلة والشاملة بعد ذلك، وبالتالي لكسب ثقة أغلبية الناخبين فاقدي الثقة في السياسة وفي السياسيين؟
العلامة الحمراء الأخيرة في خاتمة هذا المقال هي أن تونس، عدا ماتعانيه من إفلاس ومديونية وارتهان للدوائر المالية العالمية وسقوط عملتها وتدهور اقتصادها وارتفاع حجم البطالة فيها وتدني المقدرة الشرائية لمواطنيها واستفحال الفساد وسيطرة لوبياته على كل شرايين الحياة فيها وانخرام ميزانها التجاري وانحراف مسارها الديمقراطي، هي تعاني الآن من عرج سياسي خطير يتمثل في فقدان التوازن في التوجهات السياسية الكبرى لفائدة المد الأصولي ممَثَّلا في حركة النهضة والروافد السابحة حولها، فيها ماهو تحت الماء وفيها الظاهر للعيان..على حساب الأحزاب التقدمية والديمقراطية الاجتماعية المتناثرة، بل المتناسلة من بعضها البعض في الغالب، بلا أي شعور حقيقي واقعي بمسؤوليتها الوطنية أولا وأخيرا..
فهل تكون نهاية هذا العام حمَّالةَ أخبارٍ مطمئنة عن استفاقة الطيف الوطني التقدمي العريض وعن عودة الوعي إلى عقول وضمائر نسائه ورجاله في مختلف مواقعهن ومواقعهم ؟ إن غداً لناظره لقريب !
مختار اللواتي
- اكتب تعليق
- تعليق