ثقافة - 2018.09.05

الفيلــم الوثائقي في تونس…بين الـتهميـــش والـتنــمــيـط

الفيلــم الوثائقي في تونس…بين الـتهميـــش والـتنــمــيـط

يعدّ الفيلم الـوثائقي أحد أهـم الأجناس السينمائية والتلفزيونيّة التي لا تعتمد على القصة أو الخيال، بل تبحث عن الحقائق والأدلّة التي طمست معالمها أو محيت آثارها، من خلال معالجة إبداعيّة خلاّقة للواقع ترتكز أساسا على تقديم حجج وبراهين عقلانية ومعرفية لموضوع أو قضية محدّدة بطريقة موضوعية ومبسّطة. ورغم عديد الإشراقات والنجاحات فإنّ صناعة الفيلم الوثائقي في تونس وفي العالم العربي تبقى متعثّرة ورهينة ظروف تمويلية وترويجية جدّ صعبة.

خلــط في المفـاهيــم

ابدّ من الإشارة في البداية إلى إشكالية الخلط في المفاهيم بين الفيلم الوثائقي والفيلم التسجيلي والريبورتاج. فهناك من يعتبر أنّ الفيلم الوثائقي يستند إلى فكرة وموقف ورؤية تُتّخذ مادّتها السينمائية من واقع الحياة لتقع إعادة صياغتها وتعديلها بشكل فنّي وإبداعي قريب من الحقيقة، وهناك من يرى أنّ الفيلم التسجيلي هو الوحيد الكفيل بسرد الواقع دون إضافة أو تجميل من أجل الأرشفة والتوثيق، فيما يفضّل البعض الآخر عدم التعامل مع هذا التداخل بين المصطلحين في جانبه الإشكالي وبهذا لا يكون ثمّة فرق يذكر بين المفهومين ممّا يسمح بإمكانية إطلاق المصطلحين على مدلول واحد واعتماد تسمية «الفيلم التسجيلي الوثائقي» لإطلاقها على الأفلام غير الروائية التي تصوّر الواقع وتفسّر الحقائق المادية بطريقة احترافية. أمّا الريبورتاج، الذي له ضوابط ومعــايير مختلفة، فهدفه الوحيد هو نشر الحقائق والمعلــومات الجـــديدة وتبيــانها دون الاحتكـــام إلى رؤية وإلى صيــاغة فنيّة وجمالية للواقع.

إنتاج هزيل كمّا ومتواضع نوعا

رغم القيمة الثقافية والإعلامية والتعليمية للفيلم الوثائقي، تعاني هذه الصناعة السينمائية في تونس وفي العالم العربي عموما من صعوبات وعقبات عديدة ترتبط أساسا بمشاكل الإنتاج والدّعم، بالإضافة إلى غياب ثقافة ترويجية تؤسّس لأفق معرفي عصري يدفع المتفرّج إلى مشاهدة هذا اللّون من الأفلام. 

وتشير الأرقام إلى أنّه لا وجود لصناعة أفلام وثائقية في تونس، إذ بلغ عدد الأشرطة الوثائقية الطويلة التي تتجــاوز مــدّة عــرضها 60 دقيقـة - حسب إحصاءات المركـز الوطني للسينمـا والصــورة - 61 شريطا من مجمـــوع 234 شريطا روائيّا ووثـائقيّا طــويلا تمّ إنتاجها بعد الاستقلال (1956 - 2016)، أي بمعدّل فيلم وثائقي واحد في السنة، علما وأنّ الإنتاج السينمائي الوطني بلغ ذروته بعد الثّورة ليبلغ  86 شريطا بين وثائقيّ وروائيّ.

ويعود سبب ندرة الأفلام الوثائقية أساسا إلى عزوف المنتجين التونسيين عن إنتاج هذه النوعية من الأفلام نتيجة ضعف عائداتها المالية، على الرغم ﻣﻦ أنّ ﺗﻜﻠﻔﺔ إﻧﺘﺎج اﻷﻓﻼم اﻟﻮﺛﺎﺋﻘﻴﺔ أﻗﻞّ نسبيّا ﻣﻦ ﺗﻜﻠﻔﺔ اﻷﻓﻼم اﻟﺮواﺋﻴﺔ، بالإضافة إلى كونها لا تتوافق مع ميولات وتطلعات المشاهد التونسي الذي تستهويه أكثر الأفلام الروائية والدراما، ممّا ساهم، إلى جانب عوامل أخرى، في تصحّر هذه السوق السينمائية وتخلّي شركات التوزيع ودور العرض السينمائي عن هذه النوعية من الأفلام، علاوة على تكرار المواضيع التي أشبعت بحثا وحصرها في أعمال تسجيليّة عن الفلكلور والمعالم الأثرية والشخصيات التاريخية في ظلّ غياب تامّ لرؤية إخراجية متجدّدة تعتمد على الحرفية الفنية واستخدام التقنيات الرقمية الحديثة.

الوثائقي بين مطرقة التّهميش وسندان التّنميط

لا تقتصر هذه الوضعية الصعبة للفيلم الوثائقي فقط على الأسباب التي أتينا على ذكرها آنفاً، بل الأمر يتعدّى ذلك في تصوّرنا، حيث أنّ هذه النوعية من الأفلام لا تحظى إلاّ بالقليل من الاهتمام في مسيرة بعض السينمائيين التونسيين، باعتبارها محطّة عبور لبعض المخرجين الجدد في انتظار فرصة إنجاز شريط روائي طويل يجعلون منه اللّون السينمائي الرئيسي في حياتهم المهنية بهدف اعتلاء منصّة التّتويج وحصد الجوائز في أهمّ التظاهرات السينمائية المحلية والدولية.

وإذا كانت صناعة الفيلم الوثائقي في تونس متعثّرة وغير قادرة على الصمود والتطوّر لتصبح مكوّنا أساسيا من مكوّنات عاداتنا الفنية والثقافية، فلأنّ الأمر يعود أيضا إلى ضعف التكوين الأكاديمي في هذا الاختصاص، هذا إن وجد أصلا، وإلى غياب الدورات التدريبية والورشات الدراسية التي من شأنها أن تساعد الجيل الحالي من المخرجين الشبّان على تنمية مهاراتهم وترتقى بهذا النوع السينمائي المهمّش إلى مرتبة أفضل.

ويضاف إلى كلّ هذه العوامل السلبية تفشّي ظاهرة «التّنميط والقولبة» للفيلم الوثائقي نتيجة تشبثّ أغلب السينمائيين التونسيين بالموروث الحضاري والعودة إلى الماضي لتخليد ذكريات والاحتفاء بشخصيات وطنيّة بارزة أو للتعريف بالتقاليد والطّقوس الاحتفالية لبعض الجهات الداخلية... ويمكن أن نعتبر هذا التوجّه نوعا من أنواع التحصين الثقافي والدفاع عن الهويّة الوطنية، لكن لا يمكن، بأيّ حال من الأحوال، أن يقتصر دور الفيلم الوثائقي التونسي على التّوثيق وتثمين الحنين إلى الماضي بالاعتماد على وثائق مصوّرة من الأرشيف، رغم ندرتها، ورصد بعض الشهادات الحيّة، الأمر الذي من شأنه أن يساهم في ترسيخ صورة نمطية معلّبة وحصرها في فكرة معيّنة تحول دون الانفتاح على مواضيع ورؤى جديدة.

وعلاوة على ذلك، لم تواكب صناعة الفيلم الوثائقي في تونس تطوّر أساليب وفكر السينما الوثائقية المعاصرة التي استفادت كثيرا من البعد الدرامي القصصي للفيلم الروائي، وفسحت المجال للتدخّل الفنّي والإبداعي حول كلّ ما يتعلّق بالشّكل والسياق وطريقة معالجة الموضوع وما يرافقها من مؤثّرات سمعية وبصرية مثل اللقطات التوضيحيّة (الخرائط، المخطّطات الطبوغرافية، الرّسوم البيانية والهندسية، المجسّمات)، واللقطات التعويضيّة (صوّر حركية ثلاثيّة الأبعاد، المحاكاة والتّشخيص)، بالإضافة إلى استخدام الموسيقى التصويريّة والمؤثّرات الصّوتية التي تزيد من جاذبيّة الصّورة وتأثيرها.

ولئن تسارعت وتيرة إنتاج الأفلام الوثائقية بعد الثورة فإنّه غاب عنها الإبداع والرّؤية الثّاقبة وسقطت في المباشرتيّة وفي شراك الخطابية الفجّة والثّرثرة المملّة والطّرح الممزوج بالسياسي. لكن توجد دوما استثناءات، وفي هذا السياق لا يفوتنا أن نذكر روّاد السينما الوثائقية في تونس الذين تركوا بصمة واضحة عبر تناولهم لقضايا ومواضيع مهمّة على غرار المخــرج السينمـائي حميــدة بن عمّار الذي اهتمّ بتاريخ تونس السياسي والاجتماعي والثقافي القديم والمعاصر وعبد الحفيظ بوعصيدة الذي حاول البحث عن مواطن التعــدّد الثقافي والإثنــي في تونــس، بالإضــافة إلى «محمود بن محمود» و«هشام بن عمّار» اللّذين تميّزا في فنّ «البورتريه» وفي رسم ملامح الشخصيات بطريقة صادقة وعلى درجة عالية جدّا من الجودة والإتقان.

لا يبدو غياب الأفلام الوثائقية عن الشّاشة الكبيرة والصغيرة مجرّد غياب عفوي، بل يعكس التصحّر الثقافي والفكري الذي نعيش على وقعه نتيجة غياب مشروع وطني ثقافي واجتماعي متكامل ينهض بالصناعات الثقافية والإبداعية ويقطع مع السّطحية والرّداءة التي أفرزتها عديد التراكمات السلبيّة في هذا المجال.

محمد ناظم الوسلاتي

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.