رشيد خشانة: تـآكلُ الطبقة الوسطى يُهــمِّـشُ دورها السياسي
تمحي من تونس تدريجيا أو تكاد، المسافة بين الطبقتين الوسطى والفقيرة، نتيجة الارتفاع المتزايد لكلفة العيش وتوسُع رقعة البطالة، فيما ترعرعت فئة طفيلية جديدة يمكن وصفُها بالثرية جدّا. وبات واضحا اليوم أنّ التقسيم الاجتماعي التقليدي : طبقـــة ثرية/ طبقة وسطى/ طبقة مُعوزة، انقلب إلى معادلة جديدة أقرب إلى: طبقة ثرية/ طبقة ثرية جدّا/ طبقة مُعوزة. هذا الانزلاق تُؤكّده أرقام المعهــد الوطني للإحصاء، التي أفادت أنّ الفقـــر أصبح يشمل 1.7 مليون تونسي، مـن ضمنهــم 300 ألــف مواطن يعيشــون تحت خط الفقر.
أكثر من ذلك كشفت وزارة الشؤون الاجتماعية في 2011 أنّ رُبع السكان تقريبا يعيشون تحت خط الفقر، بعدما كانت أرقام النظام السابق تقصر مساحتهم على 4 في المائة من السكان فقط. أمّا عن التوزيع الجغرافي للفقر حاليا، فتُحدّد إحصاءات المعهد الوطني مناطق تمركزه في الشمال الغربي، الذي أتى في المرتبة الأولى بنسبـــة فقر تتجاوز 28 في المائة، وفي إقليم تونس الكبرى حيـــث تتجاوز نسبة الذيــن ضـــربهم سيف الفقر 5 في المائة من السكّان.
الطبقة الوسطى رهانٌ سياسيٌ
وأظهر الجدل الواسع الذي دار في الخريف الماضي، حول موازنة 2018، وما رافقها من توسيع قاعدة الضريبة على الدخل، أنّ تضعضُع الطبقة الوسطى انتقل من مُتغيّر اجتماعي إلى رهان سياسي. فلم يكن خافيا على أحد أنّ جميع شرائح الطبقة الوسطى شعرت بالضيم من قانون المالية الجديد، ممّا يعني أنّها تتحوَلُ تدريجيا، من قوّة داعمة للدولة، إلى قوّة غاضبة. ومن ثّم يسعى كلّ طرف إلى استرضائها ومغازلتها. ونلمح اليوم استمرارا لتلك الإغراءات بأشكال مختلفة من الإغواء، في أفق الاستحقاقات الانتخابية المقبلة. غير أنّ العزوف الكبير عن التصويت في الانتخابات البلدية برهن على إخفاق تلك الإغراءات. وفي هذا السياق لاحظ التقرير الأخير لمجموعة الأزمات الدولية International Crisis Group أنّ العزوف عن التصويت في الانتخابات البلدية، الذي تجاوز 66 في المائة، يشكّل تسفيها لكامل الطبقة السياسية، بما فيها «النداء» و«النهضة».
مـــع ذلك تستمـــرّ المراهنة على الطبقة الوسطى كمشروع سياسي تاريخي بالأساس، وإن كان موقفُ هذه الطبقة في 2011 غير موقفها في 2014، وسيختلف أيضا في 2019. ونلمحُ منذ انتخابات المجلس التأسيسي إلى اليوم تدحرجا جعل تلك الطبقة الوسطى، التي راهنت على حزب «النهضة» وحليفيه، تشعر بالندم وتنضمّ (أو في الأقل شرائح منها) إلى المطالبين برحيل «الترويكا». وكان مُتوقٰعا بعد مرارة تلك التجربة، أن تندفع في انتخابات 2014، كما حركة الساعة الحائطية، إلى الزاوية المقابلة، فتمنح مُباركتها لـ«نداء تونس» بقضِه وقضيضه، بأمل وحيد هو قطع الطريق أمام عودة «الترويكا». وإذا ما تابعنا الخط البياني سنلحظُ أنّ المنحنى استمرّ في النزول مع الانتخابات الجزئية في ألمانيا، وخاصّة إبّان الانتخابات البلدية الأخيــرة، بسبب تضاؤل الاقتناع بجدوى المشاركة.
شكوى ونقمة ووعيد
الظاهـــر أنّ لســـان حـــال الطبقة الوســـطى يلهـــج اليـــوم بخطاب هـــو مزيج مــن الشكوى والنقمة والوعيد للسياسيين، وإن كان حزب «النهضة» يعتمد على النصر الذي حقّقه ليعتبر نفسه غير معنيٍ بالتصويت العقابي. إّلا أنّ كّل الدلائل تشير إلى أنّ ذلك النصر لم يكن ثمرة خيار طوعي مــن المُقترعين، بقـــدر ما كان ثمرة انضباط جهاز لا تملك الأحزاب الأخرى مثيلا له، مُعزّزا بجمعيات وشبكات عنكبوتية تُدير موازنات ضخمة لا تُسأل عن مصدرها.
بتعبير آخر كان الحافز لدى منح الصوت للنهضة حافزا إيديولوجيا، وأكاد أقول إيمانيا، قبل أن يكون انحيازا للون سياسي، وبناء على إدراك فعلي للفوارق بينه وبين الألوان الأخرى. واستطرادا، مازالت الطبقة الوسطى، التي لا تشاطر عموما النمط المجتمعي الذي تُبشّر به «النهضة»، شاعرة باليُتم، لأنّها لا ترى في الضفّة المقابلة، قوّة حقيقية ومُنظّمة تحظى بالمصـــداقية، وتستأهل منحها الثقة. من هنا يأتي إمساك شريحة واسعة منها عن الذهاب إلى مكاتب الاقتراع، وهي ظاهرة قد تتفــــاقم في الاستحقـــاقات المقبــلة، لأنّ الطبقــة الوســـطى تشعر بكونها خـُدعـــت في 2011 و2014.
ولا أدلّ على ذلك من أنّ «نداء تونس» خسر في الانتخابات البلدية ثُلثي الذين منحوه أصواتهم في 2014، فيما خسرت «النهضة» نصف عدد المُقترعين لها في تلك الانتخابات.
برجوازية صغيرة
تفكُكّ الطبقة الوسطى وذوبانُها التدريجي في بلد مثل تونس، بعدما كانت قطب الرحى في الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية، مرادفٌ لكسر العمود الفقري للمجتمع. وبعدما كان المُنظرون اليساريون يُصوّرون الطبقة الوسطى (أو «البرجوازية الصغيرة») على أنّها طبقة محافظة وانتهازية ورجعية، ويعقدون كلّ آمالهم على البروليتاريا، التي اعتبروها القوّة الثورية الأولى في المجتمع، نرى اليوم كيف أنّ الطبقة الوسطى التونسية، هي التي قادت التغييرات السياسية والاجتماعية الكبرى، على مدى ستة عقود، بل حتّى خلال الحقبة الاستعمارية، وأنّ الفقراء، في المقابل، هم المحافظون،لا بل كثيرا ما يستخدمهم الأثرياء الجدد والوصوليون حطبا لكسب معاركهم.
وقد ارتبــط نشـــوء الطبقة الوســـطى في بلادنا ونمُـــوّها ارتبـــاطا وثيقا بالدولة، فهي بانيةُ مؤسّسات الدولة اليـــافعة ومُبلورةُ رؤاها وخياراتها الكبرى، وباختصار هي الدولة. وفي الحقبة الجديدة بعد 2011، ظلّت تبحـــث عمن تأهـــل من الأحزاب أكثر مـــن سواه لكي يحمل المشروع المجتمعي، الذي أرستهُ منذ بواكير الاستقلال، لكن لا جسم «النهضة» اتسع للبدلة ذات المظهر الحـــداثي، على الرّغم من كلّ «التنازلات»، ولا «النداء» (بمشتقّاته) برهن على أنّه حقيق بذلك الإرث.
رشيد خشانة
- اكتب تعليق
- تعليق