ما وراء مبادرة رئيس الدولة وما بعدها
عاد الهدوء إلى الساحات والشوارع التي شهدت الفترة الماضية تحركات، إما إحتجاجية أو مساندة لمبادرة رئيس الدولة والمتعلقة بالدعوة إلى إقرار نصٍّ تشريعي يسوّي بين المرأة والرجل في الميراث. ولقد تعدَّدت وتنوّعت ردود الفعل على الكيفية التي اختارها الرئيس لحسم الجدل حول هذه المبادرة.
فبينما اعتبرها طيف من المعلقين موقفا حكيما انتصر فيه الرئيس للدستور ولخيار الدولة المدنية بأن أعلن عزمه تقديم نص المساواة في الإرث بين الذكر والأنثى إلى مجمل نواب الشعب كمشروع قانون يكون قاعدةً عامة ملزِمة الإنفاذ، رأى لفيفٌ آخر تناقضا صارخا بخلطه بين قانون وضعي من ناحية، يكون مرجعه دستور البلاد بما في ذلك فصله الثاني الذي يُقرُّ مدنية الدولة، وبين خيارالمواطن، (المورث في هذه الحالة)، إتباع ما ينص عليه الشرع في مسألة الميراث، بما يحيل إلى دولة ذات مرجعية دينية وليس مدنية. وهو بالتالي يصبُّ في خزّان حركة النهضة بما يقويها أمام قواعدها وأنصارها ويبوؤها بجلاء المكانة الأولى في تعديل توجهات الدولة على مقاس برامجها وأهدافها!
ويضيف أصحاب هذا الموقف بأنّ الرئيس الباجي قائد السبسي قد أوقع الدولة، بقراره ذاك، في إشكال قانوني آخر، وهو أنّ الدولة التونسية قد سبق أن صادقت على بروتوكول الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب والذي ينصّ صراحة على حقّ الأبناء في وراثة أوليائهم بالتناصف بين الذكور والإناث. والمعاهدات الدولية تلزم الدول المصادقة عليها بوجوب تنفيذها والتقيد ببنودها.
وللتذكير، فإنّ مجلس نواب الشعب، بممثلي حركة النهضة وحركة النداء وبقية الأحزاب والكتل، قد صادق على هذا البروتوكول، وما بالعهد من قِدم، كما يقال، في 23 ماي من هذا العام، 2018! وإنّ رئيس الدولة قد أمضاه بعد ذلك في 6 جوان، من نفس هذا العام كذلك، 2018! والذي نشر بالرائد الرسمي تحت عنوان "القانون الأساسي عدد 33 المؤرخ في 6 جوان 2018، والمتعلق بالموافقة على انضمام الجمهورية التونسية إلى بروتوكول الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب بشأن حقوق المرأة في إفريقيا"!..
فهل تكون كل الجلبة وحملات التشويه التي رافقت نشر تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة، مفتعلة وذات أبعاد لا صلة لها برفض المبادرة أو بقبولها؟ قد يكون! أما موقف حركة النهضة فظل يتناوب على تقسيطه، بأشكال مختلفة، قيادات في الحركة وُسم بعضُهم بالشدة ووُصفوا بالصقور مثل محمد بن سالم. والبعض الآخروُسم بالتفتح، وهم المُنعَتون بالحمائم مثل لطفي زيتون.
هذا على مستوى ردود الفعل داخليا، أما ما أجمعت عليه ردود الفعل في الخارج، بداية من منظمة الأمم المتحدة، ممثَّلة في مركزها بتونس، ومرورا بكثيرمن المعلقين فيما وراء البحرالأبيض المتوسط، أوما وراء المحيط الأطلسي، فهو التهليل لقرار رئيس الدولة و"للنجاح الجديد" الذي حققته تونس في مسار الإصلاح الذي تميزت به على سائر البلدان العربية والإسلامية منذ منتصف القرن الماضي، ومازالت تسيرعلى دربه إلى اليوم! دون أن نتوقف عند الذين طالبوا بـ"طرد تونس من الوطن العربي، سواء إلى أوروبا أو أستراليا أو كندا"، لأننا ل انراها تستحق عناء الرد.
ويبقى السؤال بعد كل هذا، هل حقَّق رئيس الدولة ما هدف إلى تحقيقه من وراء طرح مبادرته؟ وهل غنمت حركة النهضة ما خططت لغُنمه من وراء تحشيد الأيمة والأتباع والأنصار، ولو من وراء ستار، من أجل تشويه التقريروإسقاطه في الماء؟
➢ رئيس الجمهورية عندما أدرك أنّ حركة النهضة قد أفلحت ليس فقط في تجييش حتى الغاضبين في صفوفها، بل في استمالة حتى المتمسكين بالمرجعية الدينية من المواطنين غير المتحزبين أوالمسيَسين، خيّر مسك العصى من النصف.
فأرضى السيد راشد الغنوشي بأن أبقى له ولحركته على حرية المُورِّثُفي اختيار حكم الشرع في الميراث، وأرضى الحداثيين والنساء فيهم بالذات اللَّاتي كنَّ الأكثر تجندا إيجابيا لمساندة التقرير، بقراره تمرير نص تشريعي يقر حق المساواة في الإرث بين الأبناء. غيرإنه ليس من المؤكد أن يَكُنّ وأن يكونوا ضمن خزَّانه الانتخابي في استحقاقات 2019، وأن يغفروا له تخليه عنهم إثرانتخابات 2014، وصدمهم بإعلان التوافق مع حركة النهضة، على عكس ما كان يروجه أثناء الحملة الانتخابية.
➢ أما حركة النهضة وإن لم تعبرعن الإشادة الصريحة بقرار رئيس الدولة وتجدد تمسكها بخيارالتوافق الذي جدد هو تماديه فيه، وترك لها حرية المضي معه من عدمها، فالواضح، منذ الوهلة الأولى بعد كلمة رئيس الدولة أنها كسبت معركة التأييد الخارجي التي أولتها منذ فترة طويلة جانبا كبيرا من اهتمامها. ولعل الدهاء الذي خاضت به معركة الإنتخابات البلدية، وكان له الصدى الواسع في العالم الغربي، أكبر دليل على ذلك. وليس صعبا على من يتابع تعاليق كبريات الجرائد الغربية، من نوع جريدة لوموند وغيرها، أن يدرك مدى الترحيب والإشادة الذي قوبلت به المبادرة وقرار رئيس الدولة بشأنها.
➢ أما غُنم النهضة الثاني، فهو تلك الحشود التي خرجت نيابة عنها إلى الشوارع ترعد وتزبد والتي ستجدها جاهزة للمحطات الإنتخابية القادمة لعام 2019. وإن كان على الحركة قبل ذلك، وعلى رئيسها بالذات، أن يقنع أولئك المنعوتين فيها بالصقور، وعموم متقدي الحماس من أتباعها وأنصارها، بأن قرار رئيس الدولة يصب في النهاية لفائدتهم، ولم يكن بالإمكان الظفر بغنم أكبر، بل هو في حد ذاته غُنم كبير. خاصة وأنه لايخفى على رئيسهم أنه قد سبق السيف العذل، كما يقال. وأن الدولة التونسية ملزّمةٌ قانونا وأمام المنظمات الدولية بالتقيد بالبروتوكول الذي ذكرناه. وكان يمكن لرئيس الدولة أن يعززه في الإبان بقانون خاص، بناء عليه، وإثر صدوره في الرائد الرسمي، يتعلق بالمساواة في الميراث من دون هيلمان
إعلانه المشهود لمبادرة 13 أوت 2017. ويكون عندها هو الكاسب على طول الخط. لأنه سيضع فعلا حركة النهضة في الزاوية بما إنها لم تمنع نوابها من التصويت لفائدة البروتوكول الذي ذكرناه. أوهو سيفضحها أمام أتباعها وأنصارها إن هي خيرت المعارضة والنكوص.
أما الآن فعليه أن يستعد لأي إجراء قانوني دولي جرّاء خرقه لتعهد الدولة التونسية بالالتزام بمعاهدة دولية صادقت عليها والتي توجب المساواة، عندما قرر ترك الحرية للمورث أن يختارالمرجعية الدينية القائمة على تمييز الذكر على الأنثى في توزيع الميراث بعد وفاته، بدل المساواة بين الورثة... فهل ستعمل حركة النهضة بعد هذا على إسقاط المشروع ديمقراطيا من تحت قبة البرلمان وبقانون التصويت؟ وكيف ستكون عندها النتيجة النهائية لهذه المبارزة؟ هذا ما سيبقى للمتابعة. وإن كان الغالب على الظن أن حركة النهضة ستكتفي بما جنته من مكاسب وسيصوت ممثلوها في المجلس لفائدة مشروع النص
التشريعي الذي سيحيله عليه رئيس الدولة.
ولكن مهما تكن النتائج والتبعات ومن سيكسب ومن سيخسر من الخصوم السياسيين من هذه الجدالات والمعارك، فإن مسارالإصلاح الذي إنطلق في هذا البلد منذ القرن التاسع عشر، وتأكد منذ بدايات القرن العشرين، وأعطى ثماره في منتصف ذلك القرن، ها هو يظهرمن جديد وبقوة منذ 2011. ومن أجل أن تستمرَّ مسيرة الإصلاح بما يرسخ مكانة الدولة التونسية في العالم، كدولة مدنية قائمة على احترام الحقوق الكونية للإنسان، وجب إجماع مختلف مكونات المجتمع المدني والأحزاب والحركات السياسية المؤمنة بالخيارالديمقراطي، مهما كانت مشاربها على ميثاق وطني يؤسس لثقافة الحواروالنقاش حول القضايا الحيوية لمجتمعنا بكامل الرصانة والتعقل والاحترام.
خديجة معلَّى ومختاراللواتي
- اكتب تعليق
- تعليق