عز الدّين عناية: الزيتــونة والنباهة الـــحـضاريـة
نادرة الدراسات والأبحاث التي انشغلت بالزيتونة في الحقبة الراهنة المعاصرة، وجلّ ما نجده من أعمال ما فتئت منحصرة في تروّي ما حصل فترة ما قبل الاستقلال، وعلى أهميته، تبقى الحاجة أكيدة إلى عضده بدراسة فترة ما بعد الاستقلال. ومع أنّ الحقبة التي تعنينا هنا -الحقبة الراهنة المعاصرة- قد شهدت زخما كبيرا، سلبا وإيجابا، فقد غفل التونسيون، أو تقاعسوا، عن تفكيكه تحت عديد المبرّرات. فرغم الثقل التاريخي الرّمزي للزيتونة، تحوّلت منذ عقود إلى هيكل علمي خاوٍ عاجز عن أيّ دور ريادي في المجال الديني أو في المجال الثقافي. في الحقيقة حالة الخواء الحضاري السائدة تقتضي انشغالا عاجلا حتى نتبيّن إلى أين يسير عقلنا الديني.
فقد ضربت الزيتونة حالة من التكلّس المعرفي ضلّت فيها طريقها نحو الحداثة والتطوّر، امتدّت حتّى الراهن، وحتّى مع تبنّي شعار «الأصالة والمعاصرة»، الذي رُفع بشكل زائف، طيلة العشريات الماضية، تبيّن أنّه لغرض الاستهلاك السياسي لا لمقصد ترسيخ المنهج العلمي، ولم يُنسَج سِلك ناظم للمعارف المدرَّسة، تقطع مع الخليط الهجين الذي رسّخ فيها السطحية والابتذال.
فعلاً باتت جامعةُ المهمَّشين اجتماعيا وثقافيا وعلميا، طلاّبا ومدرِّسين، بعد أن كانت منارة يُهتدى بها في الشمال الإفريقي برّمته. وغدا الملتحق بالزيتونة خلال العقود الثلاثة الأخيرة خصوصا أُهْكُومة في الأوساط الاجتماعية والعلمية التونسية. والحقيقة أنّ الأمر كان ناشئا جرّاء عدّة عوامل منها، أنّ المدفوع بهم إلى الزيتونة، ممّن لفظهم التوجيه الجامعي، ولم يجدوا مِكبّاً غيرها لتعمير المدارج الجامعية، وهو ما انعكس ضعفا دراسيا وعلميا على الملتحقين بها. لذلك تجدهم أقلّ الجامعيين إلماما باللغات الأجنبية والفكر الحداثي ومواكبة تعرّجات الفكر العالمي. تستحضرني حادثة لمّا بلغ السّيل الزّبى مع أوائل التسعينيات من القرن الماضي، حين كنتُ طالبا في الزيتونة، تجاذبتُ أثناءها أطراف الحديث مع أحد رؤسائها حول الحضور العلمي للزيتونة في تونس، كان تعقيبه ملؤه البهجة والحبور، وأسرّ لي أن جامعات الآداب والعلوم الإنسانية في تونس غدت توجّه لهم الدعوات للمشاركة في ندواتها، بعد أن كانت لا تعير لهم وزنا، لا في مسائل الدين ولا في مسائل الدنيا، صُعقتُ من هول الذلّة والوضاعة المعرفية التي كان يتمرّغ فيها «شيوخنا» فيا له من فتح مبين.
لماذا انزاحت الزيتونة عن مسار الحضور العلمي في تونس؟ عادة ما تُختَزل الإجابة عن السؤال في موقفيْ بورقيبة وسلفه الفارّ، من هذه الجامعة، والحال أنّ مآلات الزيتونة يتحمّلها الساهرون عليها طيلة النّصف الثّاني من القرن الماضي، وإن أبدوا حسرة وعضّوا على الأنامل، فقد عجزوا عن إحداث نقلة عقلية تخرج الزيتونة من ورطتها وتفكّ أسرها وتعيد لها نباهتها الحضارية. ذلك أنّ العقل قد أُلغي منها، وبات في خدمة النّقل كما يقولون، فكان أن تكاثرت أدواؤها ولم تُدرك سُبل خلاصها، ممّا أبقاها تتخبّط في وعثاء التّراث ولا مغيث. لقد ورد في الفصل الخامس عشر من ترتيب 26 / 12 /1875م المتعلّق بقانون التعليم في الجامع الأعظم: «ليس لأحد أن يبحث في الأصول التي تلقّاها العلماء جيلا بعد آخر بالقبول أو الرّفض، ولا أن يُكثر من تغليط المصنّفين؛ فإنّ كثرة التّغليط أمّارة الاشتباه والتّخليط». هذا القانون الذي غدا اليوم في عداد المنسوخ قولاً بقي ساريا حكماً. فقد كنا طلاّبا نعيش تلك الوطأة الثقيلة للمدرسيّة الجامدة، والتي يسعى شيوخنا لسحبنا إلى قعرها، كنّا نلاقي عنتا في التواصل معهم، برغم إيماننا بالقوّة الوجودية والفكرية الكامنة في فلسفة الإسلام، التي نشترك فيها معهم ولا نتمثّلها على شاكلتهم، بما كنّا نتطلّع إليه للانخراط في قضايا عصرنا وتحوّلات مجتمعنا، ولكن لا رأي لمن لا يطاع.
ذلك أنّ الزيتونة لم تدرك التحوّلات الاجتماعية التي ينبغي أن يجاريها ترقّي معارفها، ولم يخرج تناول المسائل الدينية في علوم القرآن والحديث والفقه وأصوله فيها عن الضوابط الكلاسيكية، فكان ذلك الجمود مدعاة لنضوب قرائح المنتسبين إليها وتجمّد عقولهم، وهو أمر عائد لغياب الحس التاريخي والوعي السوسيولوجي بينهم. فهل تَقدر الزيتونة اليوم أن تجادل الفكر اللاهوتي العالمي أو تتصدّى لتحدّياته وقد بات يُداهم الهويّة المغاربية من كلّ صوب؟ وهل خلاصة التكوين الفقهي الشّرعي الذي يتلقّاه الخرّيج اليوم تؤهّله للمشاركة في مخاض جدل الفكر السياسي الاجتماعي التونسي ولا نقول الفكر العالمي؟ لذلك تحتاج الزيتونة إلى ثورة معرفية رصينة. فالزيتونة لن تستطيع أن تحافظ على حضورها ودورها داخل مجتمع دبّت في أوصاله نزعات الحداثة وهي تستند إلى ترسانة كلاسيكية، منهجا ورؤى، لذلك هي اليوم أمام خيارين إمّا أن تتجدّد أو تتبدّد. لقد عُدّت تلك المعادلة البسيطة الغائبة في العقل الزيتوني «الخامل»، بتعبير الفيلسوف الإيطالي سلفاتوري ناطولي، مربط الفرس الذي تتلخّص فيه أزمة العقل الزيتوني البنيويّة. فمنذ أن أزاح الزواتنة من حرمها، ما بين الشريعة والحكمة من اتّصال، تحوّلت تلك الجامعة كهفا سحيقا، الدالف إليه مفقود والخارج منه مولود. ولم تنشأ عملية مراجعة للفكر الديني المستهلَك على مدى عقود طويلة، ولم يتساءل العقل، لماذا هجر المفكّر والشّاعر والأديب والفقيه الزيتونة؟
ربّما حالة اختطاف الإسلام من قبل الإسلام اللاتاريخي واللاعقلي الذي نشهده اليوم، أحد أوجه غياب الزيتونة عن المشهد الديني في تونس. ولذلك تبقى وعود المساهمة في نجاح التّجربة الدّيمقراطية في تونس في تعالي الزيتونة عن كافة حركات الإسلام الاحتجاجي العابرة وتشبّثها بروح الإسلام الباقية، وذلك بتطوير الوعي الديني التحرّري وترسيخ الفكر الديني العقلاني، المدرِك للتواصل مع الفكر الإنساني والفكر الديني العالمي، حتّى لا تبقى أعرق مؤسّسة علميّة دينيّة في العالم الإسلامي خاوية على عروشها.
فلِما يحوزه علمَا القرآن والحديث من مكانة مركزية، ليس بأثرهما التفسيري والروائي فحسب، بل بدورهما في تزويد التفرّعات العلمية الأخرى بالمادّة المعرفية. فإنّ الزّيتونة التي درّست السّيوطي والزّركشي والباقلاّني والزّرقاني سابقا، وتدرّسهم حاضرا، بالمنهج والأسلوب نفسه، تبقى زيتونة لاتاريخية لم تتفطّن للتطوّر المعرفي التحوّلي. فمالم يتبدّل النّظر في العلوم، ضمن المحدّدين الرئيسيين العقلي والنقدي، لتُطرَح تنقية المقول الصّائب من المقول الخاطئ، ويفرز ما قيل عمّا أضيف، والتقدّم لطرح سؤال الرّاهنية الحضارية فإنّ العملية التعليمية برمّتها تبقى حبيسة. إذ سؤال صِدقية المعرفة ومعقوليتها من الشّروط اللازمة لحفظ الفكر الدّيني من الاغتراب، حتّى لا نتلهّى بفنطازيا الغيبيات. ولذلك أقدّر أنّ النهضة الحقيقية للعقل الزيتوني لن يتيسّر بلوغها إلاّ بتخليص الوعي الديني من منطق «تدخِل العينُ الرّجلَ القبرَ والجمل القِدر»، المدعومة بكافة أشكال مسحات القداسة الوهمية.
فالبيّن أن خرّيجي الزّيتونة قد أدركوا مبكّرا بعين اليقين انعزالهم المعرفي عن واقعهم التاريخي، وعدم تناسب ما يستهلكونه، ممّا يُسمّى خطأ معرفة إسلامية، مع الرّاهن المعرفي، المحلّي منه والكوني. إضافة إلى انزياحهم الوظيفي، جرّاء افتقادهم معارف، سواء كانت بإتقان ألسن أمم أخرى، أو بامتلاك أدوات معرفية أنتجتها التحوّلات المستجدّة في فضاءات غير إسلامية ما كانوا لها مواكبين. ولكن هذا الخروج -الوظيفي المعرفي- كان غالبا ما تُفسَّر مسبّباته من طرف قصيري النّظر، بتآمر الدِّهريين اللاّدينيين واللاّئكيين على المنتمين للزّيتونة، وغيرها من التّعليلات التي ينتجها العقل المستقيل، غير الواعي بإمكانياته المعرفية.
د. عز الدّين عناية
- اكتب تعليق
- تعليق