حنان زبيس: الهجرة السريّة تمزّق الاتحاد الأوروبّي
ما لم تظهره الأزمة الاقتصادية عن انقسام الاتحاد الأوروبي، أبرزته أزمة الهجرة السريّة والمواقف الأخيرة المتباينة للبلدان الأوروبية التي أصدرت بالكاد بيانا مرتعشا يعلن عن موقف موحّد دون استراتيجية واضحة وخطوات عمليّة لحلّ هذه المسألة. فهل ستكون الهجرة السرية وراء التفكّك التدريجي لقوّة الاتحاد؟
بدأت الأزمة تتشكّل مع رفض وزير الداخليــة الإيــطالي الجديد، ماتيـــو سالفيني، من اليمين المتطرّف، رسوّ سفينة «أكواريوس» التي كانت تحمل على متنها 630 مهاجرا غير شرعي قامت بإنقاذهم، في الموانئ الإيطالية. ورفضت مالطا بدورها أن تسمح للسفينة بأن ترسو في موانئها رغم أنّ الاتفاقيات الدولية تلزمهما بذلك. تعرّضت إيطاليا لانتقاد كبير من قبل فرنسا، لتبدأ بذلك مشادّات كلامية بين وزير الداخلية الإيطالي والرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، تطوّرت إلى تراشق بالتهم بين البلدين ودخلت على الخط بلدان أخرى مثل ألمانيا وإسبانيا التي قبلت أن ترسو «الأكواريوس» في ميناء فالنسيا. ولكن المشكلة لم تنته، حيث تعرّضت سفن أخرى لنفس الإشكال نتيجة الموقف الإيطالي مثل السفينة الألمانية « لايفلاين». وألقت إيطاليا باللائمة على بقيّة بلدان الاتحاد الأوروبي متّهمة إيّاها بالتخاذل في حلّ أزمة المهاجرين غير الشرعيين وتركها لوحدها تواجهها، مطالبة بحلّ جمـــاعيّ وعادل يسمــــح بتقاسم المســـؤولية بين مختلف البلدان الأوروبية في استضافة المهـــاجريــن غير الشّــــرعيين وطالبي اللجوء.
وأثار الطلب الإيطالي حفيظة بلدان أوروبا الشرقية مثل بولونيا والمجر ودول البلقان الأعضاء بالاتحاد الأوروبي والتي ترفض رفضا قطعيا استقبال المهاجرين وطالبي اللجوء. كما أن البلدان الأوروبية التي تعدّ الوجهة المفضّلة لهؤلاء مثل فرنسا وأنقلترا والسويد وألمانيا أبدت عدم رغبتها في استقبال أعداد جديدة منهم، خاصّة أنّ بعضها يتعرّض إلى ضغوط حقيقيّة في هذا الاتّجاه، وهو ما يحصل حاليا في ألمانيا حيث واجهت المستشارة الألمانية، أنجلا ميركل ضغوطا من وزير الداخلية، هورست زيهوفر لإيجاد حلّ أوروبي للأزمة. وقد استقال الوزير من منصبه يوم 2 جويلية بسبب خلافات داخل الحكومة الألمانية حول ملفّ الهجرة. وأظهرت الأزمة الأخيرة اختلاف وجهات النظر ما بين بلدان الاتحاد الأوروبي وتعارض المصالح وخاصّة غياب استراتيجية حقيقيّة لمواجهة قضية الهجرة غير الشرعيّة ليبقى التعامل مع المشكل مقتصرا على تبادل التهم والتهرّب من المسؤولية.
اتّفاق هشّ
ولوضع حدّ للأزمة التي بدأت تهدّد فعليا تماسك الاتحاد الأوروبي، حيث وجدت فيه الأحزاب اليمينية المتطرّفة فرصة لإذكاء مشاعر العنصرية والخوف من الآخر ولزيادة شعبيتها، اتفقت دول الاتحاد على عقد قمّة أوروبية ببروكسال يومي 28 و29 جوان 2018، التي بدأت في أجواء مشحونة تواصل الجدال فيها إلى الساعات الأولى من فجر اليوم الثاني، حتّى الوصول إلى اتفاق مشترك. وجاء في الاتفاق أنّ الدول الأعضاء وافقت على إقامة مراكز للاجئين في دول الاتحاد دون تحديد أماكنها ولا أي من الدول ستحتضنها، كما أنّ عملية إعادة توطين اللاجئين ستتمّ بشكل «طوعي» وغير إلزامي. ونصّ الاتفاق أيضا على التشديد على ضرورة حماية الحدود الخارجية لمنطقة اليورو وتوفير التمويل لدول شمال إفريقيا وتركيا لتعزيز قدراتها على مساعدة اللاجئين وتمّ الاتّفاق كذلك على إنشاء «منصّات إنزال» لاستقبال المهاجرين غير الشرعيين على أن تكون في بلدان خارج الاتحاد الأوروبي، دون توضيح مكانها، خاصة وأنّ تونس والجزائر والمغرب رفضت استقبالها. وستعمل البلدان الأوروبية بموجب هذا الاتّفاق على تحديد ومراقبة تنقّلات اللاجئين داخلها، بالإضافة إلى دعم البلدان الإفريقية اقتصاديّا لتهيئة ظروف عيش أحسن تقنع مواطنيها بالبقاء في مواطنهم. وبقي الاتفاق ضبابيا حيث لم يحدّد بلدانا بعينها لاستقبال مراكز اللاجئين و«منصّات إنزال المهاجرين» أو آجال محدّدة لإحداثها. كما أنّ إضفاء صفة «الطوعية» لإحداث هذه المراكز لا يوحي بالتزام حقيقي من قبل بلدان الاتحاد في هذا الاتّجاه. وجاء التشديد على صفة «الطوعية» تحت ضغط بلدان أوروبا الشرقية التي تصرّ على رفض استقبال اللاجئين والمهاجرين غير الشرعيين على أراضيها، حتّى ولو اضطرّت إلى زيادة مشاركتها المادية في نفقات الاتحاد على الهجرة.
ومن جهة أخرى، لم تسفر القمّة الأوروبية عن مراجعة اتفاقية دبلن 3 للاجئين التي تفترض أن تقع مسؤولية النظر في طلب اللجوء على البلد الأوّل الذي يصل إلى حدوده اللاجئ أو المهاجر غير الشرعي، وهو ما يعني أن العبء الأكبر لاستقبال المهاجرين والنظر في طلبات لجوئهم سيبقى محمولا على عاتق بلدان مثل إيطاليا واليونان، رغم أنّ وزير الداخلية الإيطالي، طالب بمراجعة هذا الاتفاق وتوزيع مسؤولية النظر في طلبات اللجوء على كامل بلدان الاتحاد الأوروبي. كما أنّ المستشارة الألمانية اعتبرت أنّه، رغم ما تمّ التوصّل إليه من اتّفاق، لا يزال العمل طويلا لتقريب وجهات النظر بين الدول الأعضاء. هل كان الاتفاق إذا مجرّد ذرّ للرّماد على العيون؟ لعلّه كان محاولة للملمة وحدة الاتحاد الأوروبي التي بانت هشاشتها أمام مشكلة مزمنة لم توجد لها إلى حدّ الآن الحلول المناسبة.
مستقبل الديمقراطية الأوروبية في خطر
لا يخفى أنّه لا يزال عالقا في أذهان الأوروبيين إلى اليوم مشهد تدفّق مئات الآلاف من اللاجئين من سوريا والعراق في 2015، عبر تركيا والجزر اليونانية، وما أثاره ذلك من ذعر لدى الشعوب الأوروبية. ورغم أنّ نسبة تدفّق اللاجئين قد انخفضت إلى 95% نتيجة التدابير الوقائية التي اتخذها الاتحاد وتشديد الرقابة على حدوده الداخلية والخارجية، فإنّ الإحساس بالخوف من موجة جديدة من المهاجرين والعجز عن صياغة خطّة واضحة ومشتركة للتصدّي لمشكل الهجرة، جعل البلدان الأعضاء في ارتباك دائم وغذّى الخلافات فيما بينها. هذا الارتباك في الآداء وغياب التضامن بين أعضاء الاتحاد، إلى جانب ترك بعض البلدان وحيدة في مواجهة أزمة المهاجرين واللاجئين مثلما حصل مع إيطاليا واليونان وكذلك بلدان أوروربا الشرقية، هيّأت الأرضية لأحزاب اليمين المتطرّف للعب على مشاعر الخوف من الآخر وإذكاء العنصرية وتحويل اهتمام الشعوب من الأزمة المالية التي تعصف بأوروبا إلى مشكلة الهجرة. وهكذا بدأت الأحزاب اليمينية منذ 2014 صعودها لتفوز بالسلطة في النمسا والدانمارك والمجر معتمدة على خطاب شعبوي يؤجّج الكراهية ضدّ الأجانب والأقليات ويحي النزعة القومية. وهي بذلك تقوّض شيئا فشيئا كل المنظومة الديمقراطية الأوروبية ومؤسّساتها، كما أنّها تهدم القيم التي انبنى على أساسها الاتحاد الأوروبي. ويعتبر العديد من الملاحظين أنّ نجاح جبهة الشمال في إيطاليا مؤخّرا في الانتخابات إنّما كان ردّا شعبيّا على تخاذل بلدان الاتحاد في إيجاد حلول لأزمة الهجرة ومساعدة إيطاليا في مواجهتها لتستفيق أوروبا على رفض وزير الداخلية الإيطالي الجديد، رسوّ سفن المنظمات المنقذة للمهاجرين، متّهما إيّاها بمساعدة مهرّبي البشر. ويبدو التوجّه العام الأوروبي لمواجهة المدّ المتواصل من المهاجرين غير الشرعيين هو التشديد من عمليات المراقبة للحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي وتعزيز قدرات خفر السواحل الليبية لإيقاف سفن المهاجرين وإرجاعهم إلى ليبيا ومنع سفن المنظمات الإنسانية من إغاثتهم في عرض البحر. وبالتالي، فإنّ الحلّ يبقى أمنيا بالأساس، متّجها نحو مزيد من الانغلاق. إلا أنّ أوروبا باعتمادها فقط على الحلّ الأمني تضع صورتها ومبادئها الديمقراطية في الميزان. فالكلّ أصبح يعرف ما يعانيه طالبو اللجوء من معاملة سيّئة وتعذيب في مراكز الاحتجاز الليبية، وصلت حتّى التجويع والاغتصاب والقتل، من قبل الجماعات المسلّحة التي تديرها. وما كشفته قناة س.ن.ن الأمريكية عن وجود أسواق للعبيد في ليبيا يباع فيها المهاجرون الأفارقة، يؤكد أنّ تسليم المهاجرين الذين يتمّ العثور عليهم في البحر أو الذين ينجحون في الوصول إلى أورروبا، إلى هذه الجماعات، إنّما هو مخالف لكل الأعراف القانونية والاتفاقيات الدولية.
فهل سيواصل الاتحاد الأوروبي غضّ الطرف عن هذا الواقع؟
من المؤكد أنّ أزمة الهجرة واللاجئين ستواصل تفرقة البلدان، الأعضــــاء، خاصّة وأنّها لم تتّفق إلى حدّ الآن على إعـــادة توطين 160 ألف لاجئ قادمين من اليونان وإيطاليا، بالإضافة إلى عدم ايجاد حلّ للمهاجرين غير الشرعيين الذين يتدفّقون بشكل يومي على السواحـل الأوروبية. إلا أنّه لا مناص من وضع استراتيجية مشتركة ببنـــود واضحـــة وإلزام جميع الدول الأعضاء بتنفيذها، وإلا فإنّ الأزمة قد تتعقّد أكثر فأكثر.
حنان زبيس
- اكتب تعليق
- تعليق