رشيد خشانة: النّهضـة والنّــداء... من التّـوافـق إلى التّـــراشق
شكّلت الانتخابات البلدية بمرحلتيها (الاقتراع ثمّ توزيع المسؤوليات) منعرجا في المشهد السياسي مسح آثار الانتصار الانتخابي المزدوج، الذي حقّقه حزب «نداء تونس» في انتخابات 2014. ومع تبوُّء حزب «النهضة» المرتبة الأولى في البلديات على صعيدي عدد المستشارين والرؤساء، انتهت التراتبية السابقة التي كان «النداء» يتمتّع فيها بموقع القيادة، فيما كانت «النهضة» تكتفي بمرتبة الشريك الأصغر. يكفي أن نتوقّف عند لحظتين رمزيتين مليئتين بالدلالات لكي نُدرك أنّ مرحلة التوافق انتهت، وإن سيبقى هيكلها العظمي ماثلا في وسائل الإعلام. هاتان اللحظتان المتناقضتان هما الانتخابات الجزئية ببرلين، حيث أحجمت «النهضة» عن تقديم مرشّح يُنافس مرشّح «النداء» (الذي مُني بخسارة تاريخية)، وانتخابات رئاسة بلدية الحاضرة التي انتصرت فيها مرشّحة «النهضة» على مرشّح «النداء» انتصارا نظيفا لم نتعوّد عليه منـذ سنوات، وافتكّت مشيخة العاصمة.
ويجوز القول إنّ انتخابات بلدية تونس شكّلت لحظة مكثّفة اختزلت مفردات المنعطف الذي عرفتهُ علاقة الحزبين ببعضهما البعض. وما تمسّكُ سعاد عبد الرحيم بالمنافسة بدل التوافق، على الرغم من كلّ الضغوط والإغراءات، سوى استجابة لمطلب من القاعدة النهضوية، التي رفضت التخلّي عن استكمال النصف الثاني من الانتصار. بالمقابل بدا «النداء» ضعيفا في مواجهة أقرب منافس له، وأيضا غير قادر على توسُّل «التصويت المفيد» الذي أنقذه في انتخابات 2014، ولا على تشكيل جبهة في مواجهة مرشّحة «النهضة».
مرجعية مُتغيّرة
في ضوء عدد المجالس البلدية التي حصدت «النهضة» رئاستها، وهي ثلث البلديات تقريبا، بالإضافة إلى فوزها بقيادة بلديات ذات رمزية كبيرة أسوة بتونس وصفاقس والقيروان وقابس وباردو، حدث تغيير كبير في ميزان القوى لا يمكن غضّ الطرف عنه، والاستمرار في اعتبار نتائج الانتخابات البرلمانية الماضية هي المرجعية. بهذا المعنى طُويت مرحلة التوافق وأتى عهد التّراشق بين «الخطّين المتوازيين»، استعدادا وتسخينا للمعركتين الرئاسية والتشريعية. وما من شكّ في أنّ «نداء تونس» دفع ثمن الصراعات العقيمة التي عاشها طيلة السنوات الماضية، وما أفرزته من انشقاقات وكُتل متناهشة، ممّا سيؤثّر بالتّأكيد على عطائه في الانتخابات المقبلة. ومن هذه الزاوية قد تكون بلديات 2018 بروفة للتشريعية والرئاسية.
الواضح أنّ هزيمة قيادة «النّــداء» في معـــركة البلديـــات، وخــــاصّة في الشوط الثاني المتعلّق باختيار رؤساء المجالـــس البلـــدية، أضعفتــه في مواجهة خصــومه الداخليين، الذين يتزعّمهم رئيس الحكومة باعتباره «ندائيا أصيلا». والأرجح أنّ رئيس الحكومة سيُهندس التحوير الوزاري بعيدا عن غريمه المدير التنفيذي، وبالتوافق مع «الشيخين» رئيس الجمهورية ورئيس حركة «النهضة». والمُلاحظ هنا أنّ رئيس الحركة مُصرٌ على أن تكون العلاقة مباشرة مع رئيس الجمهورية، وليس مع أي قيادي آخر، خاصّة بعد الاحتكاكات الشخصية التي حدثت بينه وبين المدير التنفيذي للنداء. على أنّ هذا لا يعني أنّ الحركة متمسّكة ببقاء الشاهد مهما كان الثمن، فهي تحرص قبل كل شيء على المحافظة على «مكاسبها» الوزارية، إن لم يكن تحسينها مع الحكومة البديلة، إن أتت. وعلى هذا الأساس يتردّد أنّ رئيس الحركة أبلغ رئيس الجمهورية أنّه لا يُمانع في تنحية رئيس الحكومة، إذا ما توفّرت الشروط الثلاثة التالية: أوّلا أن تتمّ العملية بمبادرة من رئيس الجمهورية، بصفته الضامن للتوافق، وثانيا أن تتبنّى الحكومة البديلة برنامج النقاط الـ63 الذي وضعه المشاركون في وثيقة قرطاج، ومن بينها إحجام رئيسها عن الترشّح للانتخابات الرئاسية، وثالثا أن يتمّ التوافق على اسم البديل، أي أنّ «النهضة» حريصة على الاحتفاظ بحقّ الفيتو على أيّ مرشح لرئاسة الحكومة لا ينسجم معها.
أخطاء فادحة
لكنّ تنحية الشاهد باتت اليوم مُستبعدة أكثر من أيّ وقت مضى، بعدما قلب الطاولة على خصومه الندائيين، واستثمر أخطاءهم السياسية الفادحة، وآخرها الانسحاب الأرعن للمدير التنفيذي من حفل السفارة الأمريكية. والحديث عن السفارة الأمريكية يقودنا إلى السؤال عن الموقف الدولي من الأزمة السياسية التونسية، فالواضح أنّ «العواصم الصديقة» تحضّ عموما على الاستمرار في ديمقراطية توافقية تعتبرها أنموذجا يُحتذى به في المنطقة العربية. لكن هناك تفاوتا بين الألوان المتباينة في هذا القوس الكبير، وخاصّة بين موقف البيت الأبيض، الذي تخلّى عن خطّ براك أوباما و»تحزَم» لملاحقة الإسلام السياسي، على خلاف الموقف الأوروبي. وكانت «النهضة» قنعت بوضع الشريك الثاني، لأنّه يعكس التوازنات التي أفرزتها الانتخابات الأخيرة، وأيضا بدافع التأقلم مع التطوّرات الدولية (التغيير على رأس الإدارة الأمريكية) والإقليمية (الانقلاب العسكري في مصر). وهي ستكون شريكة أيضا في الحكومة المقبلة لا محالة، إن كان رئيسها الشاهد أم سواه. وفي هذا السياق تندرج التوصية الصادرة عن الاجتماع السنوي لـ«النهضة» بإيجاد لجنة لترشيح كفاءات الحزب لمواقع المسؤولية في الدولة، والاعتماد على لجان مجلس الشورى المختصّة، لمتابعة تلك الملفّات، بحسب تصريح صحفي لقيادي في الحركة. وستتولّى اللجنة بحسب المسؤول النهضوي «متابعة السِير الذاتية للأسماء والكفاءات المقترحة لمناصب الدولة لتفادي أيّ عنصر مفاجئ من شأنه أن يقلق الحركة».
هل أنّ تنحية الشاهد واردة بعد انطلاق جمع توقيعات النواب على مطلب سحب الثقة؟ تدُلُ تضاريس المشهد الراهن في مجلس نواب الشعب على أنّه لا مجال لاستيفاء الشروط الدستورية لإقالة الحكومة في المدى المنظور، بل الواقع هو العكس، إذ أنّ كتلة «النهضة» وثلثي كتلة «النداء» مع كتل أخرى تشكّل قاعدة عريضة للحكومة، بينما لا أمل للكتل الصغيرة بأن تجمع العدد الأدنى من النواب لسحب الثقة من الحكومة. ولهذا السبب أحجمت رئاسة الجمهورية عن سيناريو طلب عرض الحكومة على اختبار الثقة، لأنّها ضربٌ من المخاطرة غير مأمونة النتائج. واستطرادا فإن توصّل الساعين للإطاحة برئيس الحكومة إلى تجميع الحدّ المطلوب من التوقيعات لطلب سحــــب الثقة من الحكومة (ثلث الأعضاء)، لن يثمر إذ أنّ الفصل 97 مــــن الدستور ينصُّ على أنّه يمكن التصـــويت على لائحة لـــوم ضــــدّ الحكومة، بشـــرط موافقة الأغلبية المطلقة من أعضاء المجلــس، وتقديم مرشّح بـــديل لرئيس الحكومة يُصادَق على ترشيحه في نفــس التصويت.
أمّا طلب «النهضة» من الشاهد أن يُحجم عن الترشّح للانتخابات الرئاسية فهو كلام بلا معنى، لأنّ هذا الشرط غير دستوري، وهو لا يعدو أن يكون التزاما معنويا بحت. وفي السياسة يمكن اتخاذ الموقف ونقيضه، طالما أنّ الشروط الدستورية للترشح متوافرة.
الأنموذج التركي
لايمكن قراءة مُخرجات الانتخابات البلدية دون الإحالة على الأنموذج التركي، الذي يحظى بإعجاب كبير لدى قيادات «النهضة»، إذ أنّ الانتخابات البلدية التي أوصلت رجب إردوغان إلى رئاسة بلدية اسطنبول في 1994، ومكّنت حزبه من الاستحواذ على البلديات الكبرى، هي المصعد الذي أوصل «حزب العدالة والتنمية» إلى الحكم في 2002. ثم تجدَد فوزه بالانتخابات طيلة أكثر من 15 سنة. وواضح أنّ «النهضة» التي جهّزت نفسها للفوز بالبلديات، اتخذت منها بروفة لتدريب ماكينتها على الانتخابات التشريعية والرئاسية المقبلة، على نحو يُؤمّن لها البقاء في الحكم فترة طويلة على الطريقة التركية. ومن هنا ستتضارب مصالح الحزبين، لأنهما سينطلقان في سباق الانتخابات المقبلة (على الأقل «النهضة»)، مما ينقل علاقتهما من التوافق إلى التراشق الانتخابي.
رشيد خشانة
- اكتب تعليق
- تعليق