تغذية الإرهاب وتفكيك الهوية
لاشك أنّ التطرف الديني العنيف هو أكبر التحدّيات التي تواجهها البلاد، فالتنظيمات المتطرفة العنيفة ليست مجرّد تيارات تكفيرية، بل هي فكر له أتباع و مؤيّدون. وما تواصل انتشار الظاهرة وتمدّدها إلا دليل على الحاجة إلى إسناد الحل العسكري والأمني بحل فكريّ وثقافي. و لعل أكبر خطإ يمكن أن نقع فيه أمام هذه المواجهة هو تفكيك اللحمة الوطنية، فالبلاد لم تعد بوسعها تحمّل مزيد من الصراعات ومزيد من الانهيار.
انهيار منظومة القيم
تتلخص الأفكار المحرّكة للمتطرفين والإرهابيين في : الجهاد والشهادة وتحكيم الشريعة والدولة الإسلامية (الخلافة) والتكفير والحاكمية والولاء والبراء والفرقة الناجية. وهذه الأفكار ليست غريبة بل مشتركة في الموروث الإسلامي، ولكن الفكر " الوهّابي
والإخواني" يوظّف القيم السائدة لتفسير هذه الأفكار بطريقة راديكالية تحرّض على الفتنة وتنشرها وتزجّ بالشباب في متاهات الضلال والعنف وسفك الدماء.
هناك حاجة إلى يقظة فكرية تقوم أساسا على مناقشة هذه الأفكار ونقدها وفقا لمبادئ ديننا الحنيف وثوابت وقيم مجتمعنا. وهناك أيضا ضرورة ملحّة لإجراء إصلاحات جريئة داخل المنظومات الدينية والتربوية والتعليمية. لقد جاء الفكر التنويري في الغرب كردّ فعل على أفعال الكنيسة الاستبدادية ونحتاج اليوم إلى فكر تنويري للتفريق بين الاعتدال والتطرف.
للقيم أهمية بالنسبة إلى الفرد والمجتمع، فهي الإطار المرجعي الذي يحكم تصرفاتنا ونستند إليه في حياتنا لحماية أبنائنا ومواجهة الظواهر التي نعيشها. إنّ بناء الإنسان هو بناء للقيم التي تُمسك بزمامه و تَرسم مُقوّماته وتحفظ للمجتمع تماسكه وتُحدّد مُثله وأهدافه. هذا فضلا عمّا تضفيه على الأمن في بعده الوطني من حماية أمام مخاطر التهديدات الهجينة وتنميط أفكار الجيل الصاعد وفقا للنمط الغربي.
أتسائل كيف تناست لجنة الحريات الفردية والمساواة قضية القيم ومكانتها في حياة الفرد والمجتمع وأهميتها لدينا؟ فالحوار حول هذه القضايا له أسس أهمها الاحتكام للمؤسسات الدينية والاجتماعية والتربوية .. وليس الانسياق وراء المؤسسات الأوروبية (القرار 14/09/2016)، أو أهواء الأنفس أو الفلسفة السائدة.
لقد اهتم الكثير من الفلاسفة والمفكرين منذ القدم بموضوع القيم الأخلاقية باعتبارها أساس استقرار المجتمع وتقدّمه، وعلينا الوقوف اليوم أمام المحاولات المُمنهجة للقذف بأبنائنا في أيديولوجيات دينية شبيهة بالشيوعية والفاشية، والدفع بهم نحو سلوكيات شاذّة وغريبة تتنافى والفطرة السّوية.
حدود المعركة الفكرية
أُدرك جيّدا أنّ مجابهة ثقافة التطرّف الفكري والإرهاب هي قضية حسّاسة للغاية، وأنّإشكاليّاتها تنطلق من نظرتنا للمثقّف التي بقيت حسب المتعارف عليه، تشير إلى صاحب الرأي الشجاع والمعارض للظلم والمناضل ضد النظام الاستبدادي. و الواقع وعلى رأي بعض الباحثين أنّ المثقف هو وسيط بين رجال الفكر والعلم والجمهور أي الرأي العام. ويبرز هذا الدور في إنتاجه وعمله في الجامعة والصحافة ومكاتب الخبرة واللجان الوطنية وكذلك عبر تدخلّه الشخصي بما يُثري "صناديق الأفكار " والتي تخصّ أهم قضايا الشأن العام.
هناك حاجة للتكاتف والتحاور داخل المجتمع للبحث عن صيغ مشتركة للتعايش ومكافحة التطرّف العنيف دون الانزلاق إلى شرور "التطرّف المضاد"،. والتحوّل المجتمعي المطلوب هو تحوّل يهدف الحد من التشوّهات في السلوكيات والممارسات والمعاملات وتحسين وضع قُدرات بعض الفئات اجتماعيا وماديا ومعنويا ورفع سقف الأخلاق كمدّخر مجتمعي للأجيال القادمة.
إنّ المراهنة على النخب في المعركة الفكرية هو في الواقع مراهنة على الأفكار النيّرة لمجابهة التدابير المتعلقة بنشر التعصّب والفتن والكراهية وهي مواجهة تسلّط الضوء على الخيوط الرفيعة التي تفصل بين التديّن من جهة وانحدار القيم من جهة أخرى.
لا يمكن كسب المعركة الفكرية ضد التطرف والإرهاب والمجتمع التونسي منقسم على ذاته ويواجه رهانات تحصين هويّته.
العقيد محسن بن عيسى
متقاعد من سلك الحرس الوطني
- اكتب تعليق
- تعليق