إن هذا لشيء عجاب: استضعفوك فوصفوك...

يُرْوَى أن أبا العلاء المعري الذي كان "نباتيّا" لا يأكل اللحم، مرض ذات مرة مرضا شديدا فوصف له الأطباء لحم الدجاج، فامتنع، فألحوا عليه حتى أظهر الرضا، فلما قُدِّمَله لمسه بيده فجزع وقال: " استضعفوك...فوصفوك... هلاّ وصفوا شبل الأسد؟ ثم أبى أن يأكله.

تذكّرت هذه القصة هذا الصباح الذي ينفّذ فيه المتقاعدون اعتصامهم الموعود أمام مقرات وزارة الشؤون الاجتماعية، بالعاصمة وفي الجهات، للمطالبة بحقوقهم المهدورة علانية ودون مواربة، حيث أن رئيس الحكومة ما فتئ يلوّح بأن الصندوق بات على قاب قوسين او أدنى من الإفلاس والعجز عن صرف جرايات المتقاعدين، ذلك أن الحكومة التي قال إنها توفّر كل شهر  100 مليون دينار وتتخذ إجراءات ظرفية وحلولا مؤقتة لتغطية عجز الصناديق الاجتماعية لا يمكنها أن تستمر في ذلك إلى ما لا نهاية... ولذلك فانه من الضروري إيجاد حلول جذرية لهذا الوضع.

غير أنه بدلا من أن يبادر بالشروع ولو تدريجيا في تنفيذ الحلول الجذرية التي يتحدث عنها، يبدو أنه "استضعف المتقاعدين فوصفهم" لعلاج أزمة الصناديق...

وما من شك أن المتقاعدين لا حول لهم ولا طول ولا يملكون أي وسيلة للضغط على الحكومة فلا أعداد يمكن أن يحجبوها، ولا قطارات او حافلات او طائرات يمكن أن يضربوا عن سياقتها، ولا خدمات يمكن أن يمتنعوا عن تقديمها، ولا... ولا... ولكن هل يدرك رئيس الحكومة خطورة هذا المنحى الأعوج... 

إنه، بقطع النظر عن المضرّة التي يلحقها بشريحة المتقاعدين وأسر همو هي شريحة هامة من أبناء تونس، يعني تآكل البقية الباقية من مصداقية الدولة وتلاشي البقية الباقية من هيبتها ومن ثقة المواطنين فيها... إنه يعني ان الذين ما يزالون على رأس عملهم، خاصة من أصحاب النفوس الضعيفة، وكم تكاثروا خلال السنوات الماضية، سيفكرون في المستقبل بصورة أخرى وقد يدفعهم إلى الاحتياط لمفاجآته بما توفّر من وسائل مشروعة وحتى غير مشروعة...

إن ما يجري خطير... بل خطيرا جدا لأنه يمكن أن يكون مدخلا آخر من مداخل الفساد الذي عم البلاد والعباد... فهل من وثبة تدارك؟ ...

محمد إبراهيم الحصايري