أخبار - 2018.06.20

منجي الزيدي: فـي ظاهــرة الـعـنـف بالملاعـــب الريـاضــيّــة

منجي الزيدي: فـي ظاهــرة الـعـنـف  بالملاعـــب الريـاضــيّــة

كيف يمكن لمباراة كرة قدم، وهي نظريًا نشاط ترفيهيّ، أن تؤدّي إلى ممارسة العنف والتّخريب؟ كيف تنقلب المنافسات الرّياضيّة إلى مواجهات اجتماعيّة؟ كيف تتحوّل مناصرة فريق رياضيّ إلى هويّة جماعيّة متعصّبة؟ هذه أسئلة إشكاليّة يطرحها التّفكير السّوسيولوجي في ما تشهده السّاحة الرّياضيّة في تونس من تعدّد مظاهر العنف الماديّ واللّفظيّ وتجاوزها لأسوار الملاعب إلى السّاحات العامّة. ولمّا كانت الدّراسات غير كافية في هذا المجال، فإنّ ما يمكن تقديمه في هذه الحالة هو عناصر للتفكير وفرضيّات للبحث.

الواقع أنّ العـــلاقة بـــين الرّيــــاضة والعنف ليسـت حـــديثة بل تعــود إلى العصـــور القديمـــة. وقـــد بيّن عـــالم الاجتمــاع الألمـانيّ Norbert Elias أنّ هذه العلاقة قد تطورت بتطور النّسق الحضاريّ وتحوّلات البنية الاجتماعيّة. كما أنّها ظاهرة منتشرة في عديد المجتمعات، ناهيك عن ظهور المجموعات المتعصّبة التي تمــــارس العنف والاعتداء على الأفراد والتّجهيزات في البلدان الأوروبيّة وفي مقدّمتها مجموعات «الهوليغنز» و«حليقـــي الرؤوس»  وغيرها...

والرّياضة من وجهة نظر سوسيولوجيّة، وعلى النّحو الذي بلوره عالم الاجتماع الفرنسيّ Bourdieu Pierre، حقـل اجتمـاعيّ له تاريخه ومنطقه الخاص. وتندرج فيه المنتجات والتّجهيزات وأشكال الاستهلاك ذات الطّابع الرّياضي. وتتحـــدّد في إطــــاره الميـــولات والأذواق والاختيارات الرّيــــاضــيّة. ويشكّل كــل ذلك عــرضًا اجتمـاعيًّا مـُحـــدّدًا (Offre sociale) يستجيــــب لطلــب اجتمــــاعيّ مُعـــيّن (Demande sociale)، كما أنّها تُمثِّلُ رهاناً من رهانات الصّراع السّياسيّ. ذلك بأنّ الرّياضة، وبخاصّة كرة القدم، أضحت اليوم نشاطا مُعَولمًا، ومنظومة اقتصاديّة وماليّة ضخمة ومُركّبة تتحكّم فيها مؤسّسات الصّناعة والاتّصال والتّرفيه الجماهيريّ...وتُسيّرُها قوانين «الميركاتو» وشركات التّجهيزات الرياضيّة ومـــواقع الرّهـــان الرّياضيّ...وتتنافس على السّيطرة عليها قوى المال والسّياسة، ولم تعد المناصرة حكرا على الفرق المحليّة بل تقاسمت الفرق الأوروبيّة الكبرى وبطولاتها جماهير الرياضة في العالم بأسره.

ومدرّجات الملاعب هـــي مـــن وجهة نظر «التّفاعلية الرمزيّة» مسارح في حدّ ذاتها. لها ممثّلون وديكور وأزياء وموسيقى وأهازيج ورقصات وأكسسوارت...مســـرح يُعـــبّر فيه المناصـــرون عن تعلّقهــــم بهــويّة جماعيّة تتمحور حــــول الفريق الذي يخوض باسمهم غمار «معركة»، إذ المباراة بالنّسبة لهم «معركة» بالفعل، يستعرض فيها كل طرف قُوّته وشجــــاعته و رجولته. لذلك تُركّز الأغاني والشعارات على معاني الجنس والموت والحياة وتعتمد لغة الغزو والحرب والإغارة... 

ومدرّجات الملاعب مجتمع مُصغّر بقوانينه وتركيبتـــه وصــــراعاته وثقافته. وقد بيّنت دراسات أُجريت على جماهير كرة القدم أنّ توزيعها وتصنيفها يخضع لمنطق ذي مضمون اجتماعيّ. ففي المنصّات الشرفيّة يجلس الميسُورُون والمُسَيِّرون، وكلما نزلنا إلى أسفل انحدرنا في السّلم الاجتماعيّ فوجدنا الطّبقات الضّعيفة والمُهمّشة قريبةً  من «ساحة الوغى»، ناهيك أن مجموعات Ultras وSides هــــي النّواة الصّلبة للمشجِّعين، وهي تتشكّل من أبناء الفئات الشعبيّة المحرومة الذين عادةً ما ينتظمون في جماعات مغلقة تتحصّن في مُنعطف الملعب Virage.

والرّياضة فعل اجتماعيّ بالمعنى الذي قصده Max weber بما هو تعبير عن ارتباط السّلوك الفرديّ بالسّلوك الجماعيّ، كما هو الشّأن في تأثّر سلوك المتفرج بسلوك غيره من المشجّعين في مباراة كرة قدم. أمَّا من وجهة نظر علم النّفس الاجتماعيّ فالجمهور الرياضيّ يخضع لقوانين سيكولوجيّة الجمــــاهير التي بناها المؤسّسون من أمثال Gustave Le bon على فكرة الرّوح الجماعيّة التي تسيطر على الفرد وتخضعه لسلطة الجماعة فينساق لها وهو فيما يشبه حالة التّنويم المغناطيسيّ. حيث يتخلّى عن خصاله الشّخصيّة ليتبنّى سلوكا جماعيّا مُنفلتًا، ويشجّعه على ذلك شعوره بالقوّة المكتسبة بفعل العدد والكثرة، واحتمائه بوضعية النّكِرَة Anonymat للقيام بأي فعل لم يكن ليأتِيَهُ لو كان خارج ذلك التجمّع. وقد أضاف Freud إلى ذلك أهمية «المكبـــــــوت اللّاواعي» المرتبط «بالليبيدو» الجنســيّ في تعزيز وحدة الحشد أو الجمهور.

لا غرو إذاً أنّ الرّياضة واجهة من واجهات المجتمع تعكس مشاكله وتُعبّر عن أزماته. وبالتّالي فإنّ الفضاء الرياضيّ هو فضاء اجتماعيّ تتداخل فيه المنافســــة البدنيّة بالمنافسة الاجتماعيّة. ويُمثّل فـــرصة للتّعبي الجماعيّ عمّا يَعتمِل في دواخل الذّات الشعبية. ففي العشريّة الأولى من هذا القرن الجديد انتشرت في المـــلاعب التونسيّة تعبيرات شبابيّة ذات أهمية ودلالة بالِغَة لم تَلقَ لدى المؤسّسات اهتمامًا. فقد تحوّلت الأغاني الشّبابية التي تتغنّى بخصال الفرق الرياضيّة إلى أغانٍ ذات مضمون اجتماعيّ احتجاجيّ ينطلق من نقد التّصرف الأمنيّ مع المشجّعين لِيَطال السّلطة السّياسيّة والاجتماعيّة بِرُمَّتِهـــا وإن بــشيٍء من التّقيّة. لقد كانت بحقٍّ عـــلامات منذرة بالإعصار المتراكم في المدار الشعبيّ.

وهاهي اليوم مُدرّجات الملاعب تتحوّل من فضاء فرجة إلى ركح كبير تَعرض فيه جماهيرُ الشّباب مظاهرَ غضبها ويأســِهــا وتُفجّر فيه كَبتَها. إنّهـــا تُعيد إنتاج واقعها وفق إخراج دراميّ له قوانينه الخاصّة. واقعٌ مضطرب تُسمِّمُه نَزعَات التّفرقة وإذكاء نـــار القَبَلِيّة والانتماءات المحليّة..واقـــعٌ متـــأزّم تُعفِّنه الأحقاد والضّغائن..واقعٌ مشحون يزيده توتُّرا ضعف الدّولة وغياب السّلطة..واقعٌ مُحبِط تساهــم في تعكيره بعض النّخـــب والقيادات باستقالتها أو بتوظيفها للتحرّكات الجماعيّة لخدمة مصالحها...فماذا ننتظر من الجماهير المُنفلتَة المتحصّنة بقوّة الحشد و المُسَيَّرة بفعل التّحريض والشّحن؟

إنّ مـــا تشهده الملاعب الرياضيّة ومحيطها من مظاهر العنف والتّخريب نتيجة حتمية لتقلُّص البعد التّربويّ والاجتماعيّ للرّياضة أمام تنامي عقليّة انتزاع الانتصارات وتحقيق الأهداف الرّبـــحيّة الشّرســـة للاحتراف. وقد ساهم التّناول الإعلاميّ والاتّصاليّ في ذلك من خلال تصويره للمنافسات بمعجم حربيّ قتاليّ، وإذكــــائه للمشاحنـــات بحثًا عن الإثارة. كما تخلّى المُسيِّرون عـن دورهم التّربويّ ليصبحوا طرفاً في صراعات وهميّة ذات نتائج وخيمة. وضــاعـــت في خضــمّ التّجاذبات الرّوح الأولمبيّة ومبادئ التّربية البدنيّة. ويبقى أصل الدّاء في تجاوز القانون والاستهتار بالقيم.

منجي الزيدي

أستاذ تعليم عال بجامعة تونس

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.