علي بن العربي: سياسات الثّقافة »التي نريد«
«توة جاء دور زينة وعزيزة» جملة يردّدها أصحاب القرار عند مناقشة ميزانية وزارة الثقافة مختزلين النشاط الثقافي، على تنوّعه وتعدّده، في مشهد رقص شعبي وفوركلوري، مقلّلين من شأن هذه الوزارة، مسندين لها ميزانية هزيلة لا تتجاوز الواحد في المائة في كل مرّة.
روى علي بن العربي هذه الطرفة في كتابه: «سياسات الثقافة التي نريد سبعون سنة من تأمّلات وتصوّرات أجيال المثقفين 1946 –2016»، فقد كان شاهد عيان على التجنّي المسلّط على الشأن الثقافي من قبل أصحاب القرار المالي لمّا شغل عدّة مناصب ومسؤوليات وطنية في المجالين الثقافي والإعلامي.
أهل الاختصاص أدرى بشعابها
ناقش علي بن العربي في كتابه المنطلقات الفكرية التي صاغتها النخب التونسية لوضع أسس السياسات العامّة في مجال الثقافة وطرح بعض المقترحات لتخليص الثقافة من براثن الأفكار المغلوطة والمسقطة ولتمكين الثقافة ممّا تستحقّه من دعم لتقوم بدورها الإبداعي والتنموي، وأرجع سبب ضعف السياسات الثقافية الوطنية إلى عدم الاعتماد على أهل الاختصاص علاوة على أنّ السياسات الثقافية المنظمة على مستوى الصيغ الإداراتية والمؤسّساتية والمالية من أجل النهوض بالمنظومة الثقافية لم تنجز من قبل مؤسّسات مختصّة.
وعاب على أصحاب القرار في الشأن الثقافي اعتبارهم الثقافة ترفا وأمرا ثانويا وردّ إهمالهم لهذا القطاع إلى عدم وعيهم بالترابط الوثيق والعضوي بين الثقافة والتنمية الاقتصادية والاجتماعية» وإلى عدم إدراكهم لدور الثقافة في تقدّم الأمم وتحقيق المشروع الوطني، مذكّرا بتجارب سياسيين سابقين كانوا في نفس الوقت مفكّرين ومبدعين أمثال بورقيبة ومحمود المسعدي والشاذلي القليبي ومحمد مزالي وبشير بن سلامة فازدهرت الثقافة في عهدهم وانتعشت.
كما استشهد أيضا بحكومة التكنوقراط التي أثّثت مشهدها السياسي بأهل الاختصاص في حكومة ما بعد الثورة فجمعت بين وزير المالية حكيم بن حمودة ووزير الثقافة مراد الصقلي ممّا أفضى إلى إرساء قانون جبائي يشجّع على الاستثمار في المجال الثقافي.
نستعيد الماضي لنعالج به الحاضر
عاد علي بن العربي في كتابه إلى الماضي لينقد الحاضر فذهب بنا إلى ما بعد الاستقلال وحدّثنا عن الرئيس بورقيبة الذي راهن على الثقافة وعلى الرّأس المال البشري فربط التربية بالثقافة وآمن بقيمة الإبداع والإرث الفني وبضرورة المحافظة على التراث التونسي، فحظيت الثقافة في عهده بميزانية أوفر وتأسّست المنشآت الثقافية وتدفّق الإنتاج الفنّي من مسرح وسينما ومتاحــف ومهرجانات ومعارض ورقص شعبي، حرصا منه على تعميم الثقافة لمحو الفوارق بين المدينة والريف ومقاومة العروشية والقبلية وتوحيد المرجعية الدينية من أجل بعث مواطن تونسي يدين بالولاء للدولة الوطنية.
وتوقّف الكاتب عند الفترة الممتدّة من 1981 إلى 1986 ليُؤكّد لنا أنّ الثقافة تطوّرت وازدهرت لمّا كان محمد مزالي وزيــرا أوّل والبشـــير بن سلامة وزيرا للشؤون الثقافية وقد خصصا للثقافة ميزانية هامة وأنشآ صندوق التنمية الثقافية لتمويل الإنتاج الثقافي. وربط جمود الثقافة في السبعينات والثمانينات بفشل مشروعي التعاضد والتحرر الاقتصادي في المنوال التنموي المعتمد الذي أثّر سلبا في تطوّر المشروع الثقافي.
كما استعرض وضع الثقافة في عهد الرئيس السابق بن علي متحدّثا عن استخدامه الثقافة وتوظيفه لها كسند «للتغيير» فتداول على الوزارة المعنية خلال 23 سنة من حكمه 10 وزراء أي بمعدل سنتي عمل لكل وزير، فعرفت الساحة الثقافية، في رأيه جمودا وفراغا. وأرجع بن العربي سبب تدنّي مستوى الإنتاج الثقافي في عهد التغيير إلى السياسات المعتمدة والتي حصرت الثقافة في قوانين إدارية وتراتيب خانقة أفقدت المبدع حريته وحيويته وهمّشت الطاقات الفنية فانكمشت الثقافة الوطنية وتقوقعت.
الوعي الثّقافي يسبق الوعي السياسي
لام علي بن العربي في كتابه، أصحاب القرار بعد الثّورة على تراخيهم أمام ضياع ثروة فنية هائلة تبعثرت نتيجة تحويلها من متحف الفن الحيّ وتكديسها في دهاليز الوزارة لتعبث بها الرطوبة في حين هي نتاجات لفنانين تشكيليين عبّروا من خلالها عن الهوية التونسية بمرجعية ثقافية لستين سنة. كما عاب على السياسات والتوجهات الثقافية لحكومات ما بعد الثورة تخلّيها عن الفرقة القومية للفنون الشعبية التي مثّلت تونس في المحافل الدولية فعكست تراثا وعادات وتقاليد، أبهرت المتفرّج الأجنبي.
وسرد في الجزء الثالث من كتابه، تجاربه الخاصّة في المجال الثقافي ومساهماته في إدارة الشأن الثقافي والإعلامي ملمّحا إلى كفاءته وتجاربه التي تؤهّله لطرح بعض التصوّرات والمقترحات لبعث سياسة ثقافية مستقبلية جديدة تمكّن المكلّفين برسم السياسات الثقافية من نحت مشهد ثقافي أفضل. فنادى بضرورة تفعيل قانون ملحق ثقافي مجمد منذ عهد الرئيس الســـابق بن علي مـــؤكّدا على ضرورة تكوين إداريين ثقافيين ليتمكّنوا من العمل المتناغم مع أهل الفن والثقافة.
كما شدّد على إلزامية إحداث مجالس عليا في كل القطاعات الثقافية وربطها بمجلس أعلى للثقافة على المستوى الوطني، مقترحا بعث مراكز ثقافية تونسية في العواصم الكبرى في العالم للتعريف بتونس وبمخزونها الثقافي لتكون أفضل مدخل للترويج لبلادنا سياحيا.
هيئة دستورية مستقلّة للحقوق الثّقافية
تطرق علي بن العربي في كتابه إلى معضلة التمويل التي تواجه رجل الثقافة سواء أكان تمويلا من المال العام أو من مال الخواصّ، مبرزا انعدام المبادرات وقلّة الاعتمادات المالية والمعنوية التي يحتاجها المبدع والفنان ويستحقها الإنتاج الثقافي لما يكتسيه من صبغة اقتصادية تقوم على العرض والطلب. واقترح إحداث وكالة لتشجيع الاستثمار الثقافي لتكون بمثابة الإطار القانوني الذي يحثّ رؤوس الأموال على الاستثمار في المجال الثقافي.
واختتم كتابه بعرضه للمشروع الثقافي المقترح من الوزير السابق للشؤون الثقافية الأســتاذ البشير بن سلامة الذي أشعر أصحـاب القــرار بوجـــوب إضافة هيئة دستورية مستقلّة للقيـم والحقـــوق الثقافية.
واعتبر أنّ تفويت الشعب التونسي على نفسه فرصا عديدة لتحقيق توازنه أثناء خوضه منجزات مخططاته التنمـــوية يعـود إلى سبـب ثقـــافي بحت، إذ لا يمكن الحديث عن وعي سياسي ووطني بمعزل عن وعي ثقافي لذلك لا بدّ من تشجيع مطّرد للإبداع الوطني حتّى لا نبقى خارج التاريخ.
منية كوّاش
- اكتب تعليق
- تعليق