كأس العالم بين الرياضة والسياسة: مقاطعة وحرب باردة وتسويق لصورة روسيا
الرياضة والسياسة من المتلازمات التي لا تستطيع لفصلها سبيلا رغم ما يقال، من باب النّفاق أو الإفراط في حسن النيّة، عن ضرورة إبعاد الرياضة عن تأثيرات السياسيين وعدم إقحامها في الخلافات السياسية والصراعات الإيديولوجية. وتأتي دورات كأس العالم لكرة القدم لتثبت كلّ مرّة تقريبا هذا التداخل بين السياسة والرياضة، سواء على مستوى الاستغلال السياسي لهذه التظاهرة داخليا وخارجيا أو على مستوى ما يخيّم على المنافسات من دورة إلى أخرى، من خلال الصراعات بين الدّول أو الأقطاب.
الحقيقة التي لا يمكن أن تنكر هو أنّ مسابقة كأس العالم ولدت سياسية، رغم المعاني الإنسانية الســـامية التي رغــب جول ريمي، مؤسّس المسابقة، أن يضفيها على هذه التّظاهرة.فمنذ الدّورات الأولى أطلّت السياسة برأسها، وتحوّلت كأس العالم بسرعة إلى فضاء تنعكس فيه صراعات السياسة فتلقي بظلالها على الملاعب بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر، كما يبيّنه هذا العرض الموجز لما اخترق عددا من دورات كأس العالم من أحداث ذات صبغة سياسية:
- روما 1934: كانت هذه الدورة مناسبة لموسوليني لإقامة دعاية سافرة لنظامه الفاشي وللفاشية، كما سيفعل بعده بالنسبة إلى النازية أدولف هتلر في الألعاب الأولمبية لعام 1936 ببرلين.
- فرنسا 1938: بطلب من هتلر، حرم المنتخب النمساوي من المشاركة بسبب ضمّ النمسا إلى ألمانيا النازية عنوة.
- البرازيل 1950: منعت ألمانيا والبرازيل من المشاركة في التّصفيات بسبب ماضيهما في الحرب العالمية الثانية (1939-1945). لكنّ الألمان سيثأرون لأنفسهم في دورة 1954 (سويسرا) ويرفعون الكأس، معيدين الاعتبار إلى ألمانيا المهزومة.
- المكسيك 1970: رفضت كوريا الشمالية مقابلة إسرائيل وانسحبت من التصفيات الأوّلية.
- ألمانيا 1974: رفض الاتحاد السوفياتي التباري مع الشيلي على أرضه في مقابلة الإياب من دور «الباراج» المؤهّل للنّهائيات، وذلك لمعارضتها لنظام الجنرال «بينوشي» الذي أطاح بحليف الاتّحاد السوفياتي، «سالفادور أليندي». وفي دورة المانيا 1974 كذلك، شكّل الانتصار المفاجئ لألمانيا الشرقية على جارتها الغربية في برلين (1-0) نوعا من انتصار المعسكر الشرقي على المعسكر الغربي في نظر حكّام المانيا الشّرقية وحلفائها.
- الأرجنتين 1978: استغلّ الجنرال فيديلا هذه الدورة وانتصار المنتخب الأرجنتيني لتلميع صورة نظامه الدكتاتوري الدموي.وفي المقابل قامت دعوات إلى مقاطعة الدّورة لكن دون جدوى.وقد رفض اللاعبون الهولنديون الصّعود إلى المنصّة الرسمية لمصافحة فيديلا بعد انتهاء المقابلة،علما بأنّ نجم المنتخب الهولندي ، يوهان كرويف لم يتحوّل إلى الأرجنتين،وكان يعتقد أنّ ذلك كان من باب المقاطعة، لكن تبيّن بعد ذلك بوقت طويل أنّ المانع كان تلقيّه تهديدا له ولعائلته.
- المكسيك 1986: رأى الأرجنتينيون في انتصارهم على إنقلترا (2 - 1 هدفا ما رادونا) نوعا من الثأر من بريطانيا بعد هزيمتهم أمام هذا البلد في حرب المالوين.
- فرنسا 1998: خيّم على مقابلة الولايات المتّحدة وايران شبح الصراع الدائر بين البلدين على امتداد سنوات عديدة، وقد عدّ حكام طهران انتصار المنتخب الإيراني على الميدان (2 - 1) فوزا سياسيا على « الشيطان الأكبر».
الصّورة .... وما أدراك ما الصّورة!
ولم تسلم دورة روسيا 2018 من لعنة السياسة، وذلك بسبب قضيّة تسميم الجاسوس الرّوسي السّابق، سارغاي سكريبال، في لندن، وقرار الحكومة البريطانية عدم مشاركة أي بعثة رسمية وأيّ فرد من العائلة المالكة في كأس العام 2018، بعد اقتناعها بأنّ روسيا هي التي تقف وراء هذه الجريمة. ورغم دعوة بعض الصّحف إلى المقاطعة الرياضية ورغم حملة بعض البرلمانيين الذين شبّهوا دورة «روسيا 2018» بالألعاب الأولمبية لعام 1936 التي نظّمت في ظلّ النازية الصّاعدة وقتها، إلا أنّ الردّ البريطاني الرّسمي وقف عند حدود المقاطعة الدبلوماسية.
على أنّ الأجواء العامّة للعلاقات بين روسيا وبلدان أوروبا الغربية لن تكون على أحسن حال، ليس بسبب هذه الحادثة فقط، ولكن كذلك بسبب العودة القويّة للدبّ الروسي إلى السّاحة الدولية، سواء بتدخّله إلى جانب سوريا ضدّ «داعش» أو بضمّه شبه جزيرة القرم الأوكرانية تحت سيطرته. والمطالع للصحف الغربية يشعر بعودة نوع من أجواء «الحرب الباردة» لدى الكثير منها، وهي تتحدّث عن كأس العالم 2018،. لكن لا يُتوقّع أن تؤثّر هذه الأجواء تأثيرا مباشرا على سير الدّورة، بل أن البعض يرى أن بوتين سيلعب ورقة «الإغواء» وسوف يمدّ يده، بهذه المناسبة، إلى دول أوروبا الغربية، تيسيرا لحوار معها يذيب الجليد بين الطرفين. وبشكل أعمّ، فإنّ روسيا ستعمل، من خلال هذه التظاهرة الرياضية التي تحتضنها، على تلميع صورتها في جميع المستويات، بدءا بإظهار قوّتها الجديدة وعودة عظمتها. وليس كالرياضة (وهي أفضل أنواع «القوّة النّاعمة») سبيلا لرسم تلك الصورة وإيصالها الى زائري روسيا ومئات الملايين الجالسين أمـــام تلفــزاتهــم. والرّوس لا يخفــون هذه النيّة، على غرار ما صرّح به أليكسي سوروكين، مدير لجنة تنظيم كأس العالم 2018: «إنّها لفرصة عظيمة من أن نتمكّن من تقديم بلدنا في أحسن صورة للعالم بأسره».
وضمن هذا الاهتمام بالصّورة يندرج إقدام روسيا على تنظيم خمس دورات رياضية دولية في ظرف خمس سنوات: بطولة العالم لألعاب القوى (2013)، الألعاب الأولمبية الشتوية بسوتشي (2014)، البطولة العالمية للسباحة (2015)، البطولة العالمية للهوكاي (2016) وكأس الكنفديراليات لكرة القدم (2017)، وكانت هذه الأخيرة شبه «بروفة» إعدادا لكأس العالم 2018. وموضوع الصّورة وتسويقها خلال التّظاهرات الرياضية لا تختصّ به روسيا وحدها، بل هو الاسم المشترك فيما تجنيه الدول المنظّمة لهذه التّظاهرات من عوائد سياسية تخدم إشعاع البلد وتسوّق لما يريد أن يسوّقه من رسائل الى العالم وحتّى إلى الداخل. ويذكر في هذا العدد مثال فرنسا عام 1998، حيث تمّ التّأكيد، بعد فوز المنتخب الفرنسي بكأس العالم، على الوحدة الوطنية في إطار تعدّد الأجناس، وذلك تحت شعار «سود وبيض وعرب».
وفي غياب الرّبح المالي غير المضمون من تنظيم الدورات الرياضية الضخمة، تبقى الصورة أفضل استثمار وأحسن مكسب.
عادل الأحمر
قراءة المزيد
كأس العالم بين الرياضة والسياسة: مقاطعة وحرب باردة وتسويق لصورة روسيا
اقتصاديات كأس العالم 2018 في ستّة أسئلة: المموّلون والرّابحون والخاسرون والبزنس الصّغير
في تونس؟ كأس العالم »يدوّر الزيرو«؟
بــورصـة اللاعبيـن: مليـارات تجـــري علــى العــشـــب!
الإرهاب و«الهوليغان»: ثـنــائي الــرّعــب فــي كـأس العالم
كأس العالم 2018: بين زابيفاكا وياشين
- اكتب تعليق
- تعليق