نصــف قــرن على انتــفــاضة مـــاي 68 الـطــلابــيـــة
1968 - 2018. نصف قرن مضى على اندلاع أهمّ حركة احتجاج شبابية عرفها القرن العشرون. في أوج قوّة رئيس يملك كاريزما استثنائية، هو الجنرال شارل ديغول (1890-1970)، تحدّاه الشبان في جامعة السوربون وحوّلوها إلى قلعة تمرّد شبيهة بكومونة باريس (1870). انطلقت الحركة من الحيّ اللاتيني، ثم انتشرت في عدّة جامعات أوروبية وعربية، من بينها تونس والمغرب. بدأت تحديدا من كلية نانتير التي أنشئت قبل أربع سنوات فقط، لكي تخفّف من الاكتظاظ والضّغط على جامعة السوربون. اعتصم حوالي 100 طالب، يقودهم الزعيم الطلابي اليساري دانيال كوهن بنديت، الحامل للجنسية الألمانية.
اعتصمت المجموعــة في مكاتب الكلية، قبل أن تتدخّل قوّات مكافحة الشّغـــب المعــروفة بالـCRS لإخراجهم بالقــوّة. وبعـد قرار الجامعــة إحالة ثمانية طلاب على مجلس التأديب، احتلّ الطلبة جامعة السوربون ومسرح الـODEON. ويمكن القول إنّ المنعرج في هذه الانتفاضة حدث بعد أربعة أيام فقط، لمّا انطلقت إضرابات عمّالية هذه المرّة، رغم أنّ المركزية النقابية الشيوعية CGT لم تكن مؤيّدة للإضرابات. وفي يوم 21 ماي وصل عدد العمال المضربين إلى 10 ملايين عامل في فرنسا بأسرها. وبعد عشرة أيام مــن الاضطرابات الاجتماعية، اضطرّ رئيس الحكومة جورج بومبيدو إلى تقديم استقالته للرئيس ديغــول، غير أنّ الأخير رفضها.
بعد مـــدّة قصيرة أصيبت خلالها فرنسا بالشّلل تـوصّلت الحكومة والنّقابات إلى اتّفاق على زيادة عامّة في الأجور بـ10 في المئة، بينما زاد الأجر الأدني المضمون بـ35 في المئة. في الشهر الموالي أجريت انتخابات تشريعية، وفازت بها القـــوى الديغـولية. وتلاشــت الحركة الطلابية، التي سيطرت عليها مجمـــوعات أقصى اليسار الماوية والتروتسكية. وقضـت الأدلجـة المفرطة على نكهة تلك الحركة المُجدّدة والطّريفة، التي لم يكن لها سابقة. وقد اتّسعت رقعة الانتفاضة الطلابية، فشملت ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا، وقُمعت بشدّة في بولونيا.
دوافع غير سياسية
في تـونس بــدأت الحركة الاحتجاجية الطلّابية قبل فرنسـا، ورغــم أنّ الجامعة التونسية كانت ما تزال فتية آنذاك، ولم يمض على تأسيسها أكثر مــن ثماني سنوات، شهدت الجامعة في شهر مارس أوّل تحرّك طلابي، وإن كــانــت دوافعه غير سياسية، وبرز فيه اليساريون الذين كانوا في صراع مع الطلبة الدستوريين، على قيادة الاتّحاد العام لطلبة تونس، ومن بينهم نور الدين بن خذر وخميس الشماري ورشيد بللونة وسالم رجب. هؤلاء الطلبة كانوا مُنتقدين للرّأي الواحد والخطاب الواحد والزّعيم الأوحد، وبدأوا يتداولـــون في مـــا بينهم أدبيات تعطي رؤية أخرى للتنمية، رؤية تقوم على العدالة الاجتماعية والعدل بين الجهات. وضمَّنوا تلك التحـــاليل الجريئة في كرّاسات وكتيبات أبرزها مجلّة «آفاق»، التي تزايد تداولها في صفوف الطلبة، قبل انطلاق حملة اعتقالات واسعة استهدفت الطلّاب اليساريين تمهيدا لإحالتهم على محكمة أمن الدولة.
قتل الأب
بهذا المعنى كان ماي 1968 بداية للمعارضة الجديدة، التـي لا تمــتّ بصلة للمعارضة في سنـوات الاستقــلال الأولى، والمؤلّفة أساسا مــن التيــار اليوسفي والحزب الحر الدستوري (القديم) والحزب الشيوعي، مع العلم أنّ السّلطات حـظرت جميع الصّحف والمنشورات المعارضة والمستقلّة، في أعقاب المحاولة الانقلابية في ديسمبر 1962. كمــا كان ماي 1968 أيضا تعبيرا عــــن صـــراع أجيال، وبالذّات مع الجيــل الســابق الذي استخفّ بالجيل الذي جــاء بعده، وأبى أن يُنصت إليه أو يحــاول فهمهُ، وبذلك يمكن اعتباره، بمعنى من المعاني، عــمـليّة رمزيّة لقتل الأب. وقد صرّح المرحــوم نور الدين بن خذر بأنّ الشّباب في تلك الفترة انصدم من التّعاطي الأمني معه، بينما كان يعتبر نفسه الابن الشرعي للبورقيبية، فيما كان المُتحلّقون حول بورقيبة في أكثريتهم مـن الانتهازيــــين والمتزلّفين. وهـــذا يدلُّ على أهمية ذلك المفترق في تاريخ تونس المعاصر، الــذي قاد إلى مزيد من التمزّقات اللاحقة، وكانت مؤلمة للطرفين.
لكي لا تتــلاشى هـذه الأجــزاء من الذّاكرة الوطنية ولا تعــود الأجيــال الجديدة إلى مقاطعة الجيــل الســابق مـن السياسيين، وهو ما أماطت عنه اللثام نتائج الانتخابات البلدية، وعـــزوف الشبــاب الــواسع عن المشاركة فيها، ينبغي أن نتعلّــم كيــف نُنصت للشباب، وخاصّة كيــف نعمـل بجدّ لاستنبــاط حلول لمشاكله الاجتماعية ولإخراجه من عالم التّهميش.
رشيد خشانة
- اكتب تعليق
- تعليق