أخبار - 2018.04.10

الثّقـــافة والسّيــاحـــة: أزمة العلاقة الـرّاهنـــة وإشـكاليّــات الـشّــراكة

الثّقـــافة والسّيــاحـــة: أزمة العلاقة الـرّاهنـــة وإشـكاليّــات الـشّـــراكة

تحوّلت السّياحة في العالم المعاصر إلى ظاهرة جماهيريّة وصناعة تستثمر رغبة الإنسان في الخروج مؤقتا من إطاره اليوميّ طلبا للرّاحة أو الاستجمام أو الترحال ليكتشف مناخا بعيدا عن نسق حياته المعتاد. وقد أدّى تنامي ذلك النّمط الاستهلاكيّ منذ الخمسينات من القرن الماضي إلى انفجار سوق السّياحة العالمي. غير أنّ  نجاحاته الاقتصاديّة لم تخل من ظواهر سلبيّة طالت أنماط الحياة التقليديّة وثوابت الهويّات في البلاد المستقبلة وليس أقلّها انشغالها بالتّربّح أوّلا والذّهول عن إيجاد توازن بين الفائدة الماديّة والقيم الحضاريّة بالاستغلال التّجاريّ المشطّ للمواقع والمعالم الأثريّة والإضرار بالمحيط الطّبيعي كما تشير إلى ذلك المنظّمات العالميّة المعنيّة بالسّياحة. ويلاحظ لدى البلدان الأكثر حضورا وعراقة في الميدان،الاتّجاه نحو معالجة ذلك الاختلال في علاقة السّياحة بالثّقافة من خلال إرساء شراكة فعليّة بينهما. فأيّ معنى لذلك الاتّجاه وهل من صدى له في الممارسة السّياحيّة بتونس ؟.

مافتئ واضعو السّياسات الرّسمية والمنظّمات العالميّة المعنيّة مثل المنظّمة العالميّة للسّياحة يؤكّدون في كلّ مناسبة ضرورة اعتبار الثّقافة بعدا هاما في البرامج والمشاريع السياحيّة، وفي هذا السّياق يؤكّد المؤتمر العالمي للسياحة المنتظم في مانيلا (الفيليبين) في العام 1980 «أنّ السّياحة قد اكتسبت بعدا ثقافيّا وأخلاقيّا ينبغي مؤازرته وحمايته من الاعوجاج النّاشئ عن العوامل الاقتصاديّة»، ممّا يعني أنّ للبلدان المستقبلة للسّياح قيما ضمنيّة وذات أفضليّة ينبغي للسّياحة المحافظة عليها والعمل على ازدهارها، وأنّ مكوّنات التّراث والثّقافات لم تعد مجرّد «موادّ أوّليّة» معدّة للاستهلاك، بل قيما ينبغي أنّ توجّه أهداف السّياحة من حيث كونها نشاطًا اقتصاديّا. وفي موضوع احترام الهويّات الثّقافيّة، يلحّ  مجلس التّعاون الثّقافي الأوروبي وفي تقرير نشره  سنة 1964على أنّ السّياحة الثّقافيّة «وسيلة لإبراز العبقريّة الأوروبيّة كظاهرة مستمرّة» و «إمكانيّةً لتشجيع الوعي بثراء حضارة وتنوّعها ووحدتها العميقة واستمرارها».

ماهية علاقة الثّقافة بالسّياحة في تونس

تلك هي مقاربة الشّأن الثّقافي في علاقته بالسّياحة  في البلدان التي تملك قطاعا سياحيّا متطوّرا وتراثا حضاريّا عريقا، فما هي الحال في تونس التي ظلّت سياحتها تعاني  لسنواتٍ ظروفا صعبة بفعل عوامل مختلفة منها التقلّبات السّياسيّة والأحداث الأمنيّة والاضطرابات الاجتماعيّة؟ لقد كان  لتلك العوامل أثر بالغ في تفاقم أزمات القطاع وتأرجح نسب إسهامه في النّاتج الدّاخلي الخام وتقهقره في سلّم التّصنيفات الدّولية منذ العام 2011.

يظلّ المكوّن الثّقافي للنّشاط السّياحي في تونس حبيس نظرة تفضّل الاستثمار في التّرفيه متمثّلا في السّياحة السّاحليّة، مع جهود متواضعة لتطوير منتجات أخرى مثل السّياحة الصّحراويّة والسّياحة الدّاخليّة، خاصّةً في مواسم الرّكود ونقص الوافدين الأجانب. ويكاد ينحصر التّعرّف على التّراث في زيارات سريعة للمواقع الأثريّة والمتاحف والمدن العتيقة، ولا تعدو الفقرات الثّقافيّة في برامج الرّحلات أن تكون وسيلة تسويق ثانويّة وعاملَ جذب تجاريّ لا يستجيب بما فيه الكفاية لتوجّهات المؤسّسات الدوليّة المختصّة التي تعلن الثّقافة أساسا لمشروعيّة النّشاط السّياحي.

معنى السّياحة الثّقافيّة في استعمالاتها السّائدة

كثيرا ما  نطالع في وسائل الإعلام والبحوث وفي المطبوعات الإشهاريّة وصفا لذلك النّشاط الثقافيّ المتواضع بأنّه «سياحة ثقافيّة»، وهي عبارة غائمة الدّلالة تتأرجح بين مثاليّة الرّؤية وتناقضات التّطبيق في الواقع؛ فهل تعني وضع السّياحة في خدمة الثّقافة أم العكس؟ وهل أنّ السّياحة الثقافيّة شأن ثقافيّ فتنهض به وزارة الثّقافة أم أنّه شأن سياحيّ فيُترَكُ لوزارة السّياحة ؟ قد يختزل بعضهم المشكلة في القول إنّ الثّقافيّ والسّياحيّ يتكاملان ويخدم أحدهما الآخر، وهو مجرّد تلاعب بالألفاظ لا يفضي إلى الوعي بضرورة وضع آليات خصوصيّة ومحدّدة لتحقيقه. وفي انتظار ذلك، تظلّ السّياحة محكومة بضروراتها الاقتصاديّة كنشاط يجهد في الحفاظ على أقساطه المتواضعة ضمن سوق عالميّة متقلّبة تشتدّ فيها المنافسة ويكتسب فيها المعطى الثّقافي دورا متزايدا كورقة رابحة في رهان النّموّ.

مسؤوليّة الدّولة في مجال السّياحة الثّقافيّة

يستوجب الخوض في السّياحة الثّقافية كمفهوم قائم بذاته، طرح بعض الملاحظات الأوّليّة، منها أنّ بناءه وتطبيقه رهين بتغيير نظرة الدّولة إلى السّياحة كقطاع يعيش شبه عزلة، ومنها عدم الاكتفاء باحتساب عوائده الماديّة في أرقام ومؤشّرات ضمن المنظومة الشّاملة للاقتصاد الوطني؛ وعلى سلطة الإشراف الانتباه إلى تطوير علاقات القطاع السّياحي بقطاع الثّقافة ضمن شراكة ناجعة وسياسات جادّة تؤمّن لهما معًا حظوظ تنميّة مستدامة. وتجدر الإشارة إلى أنّ سياسة كهذه لا ينبغي أن تستعجل، في خطواتها الأولى، مردودا ماليّا مجزيا، حيث أنّها تتطلّب المرور بمراحل تأسيس وإعداد للبنى التّحتيّة الملائمة وتأهيل الكوادر وبناء الشّراكات بين المؤسّسات السّياحيّة والثّقافيّة وسبر إمكانات السّوق الدّاخليّة والخارجيّة مع ما يستلزم ذلك من خطط اتّصاليّة وآليات تسويق؛ مع التّأكيد على أنّ عبء تنفيذ تلك السّياسة ينبغي أن تتحمّله الدّولة في مرحلة أولى على الأقلّ ، نظرا لانشغال غالبيّة المهنيين الخواصّ بالمشكلات التي يواجهونها حاليّا للخروج من الأزمة.

تواضع نسبة المادّة الثّقافيّة في النّشاط السّياحي

واليوم وقد بدت في أفق قطاع السّياحة بوادر انتعاشة بعد ركود حسبما أشارت إليه إحصائيّات سنة 2017، وجب التّفكير في إستراتيجية تخرجه إلى أفق أرحب من حدود السّياحة التّرفيهيّة التي تختصر التّعامل مع التّراث المعماري والأثري في عدد من المحطّات على السّبل السّياحيّة وفي صور  إشهاريّة لمعالمه على الملصقات والمطويّات وتعرض نماذج منه ـــ عندما تسنح الفرصة وحسب الرّغبة ـــ كسلعة على الوافدين من أجل السّياحة السّاحليّة. إنّ الحاجة تبدو أكيدة إلى بناء مفهوم جديد للسّياحة الثّقافيّة يستثمر في ما يتوفرّ لتونس من مخزون حضاريّ عظيم في الآثار والمعمار من كلّ العصور ممّا لا يقلّ قيمة عمّا تمتلكه الوجهات السّياحيّة الأجنبيّة ولا نرى له أثرا ذا قيمة فعليّة في البرامج السّياحيّة الحاليّة سوى ما يُعرض من فولكلور مستهلك على الوافدين ومن كليشيهات مجترّة عن الخصوصيّة التّونسيّة. ولعلّ ما يعرقل نموّ السّياحة الثّقافيّة استمرارُ النّظر إلى الاستثمار فيها كغاية طوباويّة تتّسم بالنّخبويّة وتواضع المردود المادّي . وقد يكون ذلك صحيحــا إذا ما نظرنا إليها من زاوية الرّبح الآنيّ؛ أمّا إذا أردنا استشراف المستقبل فلا بدّ من أن ننظر إلى الثّقافة في علاقتها بالسّياحة كرهان لا بدّ من كسبه لكونها تنتج قيمة مضافة ماديّة ومعنويّة من فوائدها تلميع صورة تونس في الظّروف العصيبة التي تمرّ بها، بما في ذلك تجديد المنتجات السّياحية وإثرائها وتحسين نٍسَبِ عودة الزّائرين.

مقترحات للنّهوض بالسّياحة الثّقافيّة

من الأهداف العامة التي يحسن وضعها للسيّاحة الثّقافيّة : تعريف الزّائر بالمسار التّاريخي للحضارة التّونسيّة وبالقيم العلميّة والمعرفيّة  والفنيّة قديمها وحديثها وإرشاده إلى اكتشاف ثقافة البلاد في معناها الأنثربولوجي الشّامل وفي أبعادها الماديّة واللاّماديّة والتّجوال في أطرها الطّبيعيّة. وتحقيقا لذلك، يمكن العمل في الاتّجاهات التّالية :

  • توجيه الاهتمام إلى زيارة المواقع الأثريّة والمعالم الشّهيرة كوجهة رئيسيّة للوافدين الذين لا يرضون من إقامتهم بثلاثيّة « الشّاطئ ـــ الملهى ـــ حوض السّباحة».
  • إنتاج مشهديّات «الصّوت والضّوء» (Sons et Lumières) على نطاق واسع في المعالم والمواقع لعرض التّاريخ الحضاري التّونسيّ على نحو دقيق التّوثيق وبمضامين مُحَكَّمَة عِلميّا.
  • تطوير سياحة المؤتمرات واللّقاءات الفكريّة الدّوليّة وتنظيم التّظاهرات حول الفنون من نوع بيناليات الفنون التّشكيليّة (Biennales d’art) ومهرجانات الموسيقى والفنون الشّعبيّة ذات المستوى والهادفة لخدمة التّراث التّونسي.
  • تشجيع التّظاهرات العلميّة والتّرفيهية للسّياح الشّباب من الأجانب، في شكل دورات تدريبيّة على مدى أسبوع أو أسبوعين، تنتقل بين المواقع الأثريّة لتعريفهم بتقنيات البحث عن الآثار مع محطّات ثقافيّة تستغلّ المسارح الرّومانيّة، في المناطق الأقلّ حظّا من التّنشيط السّياحي مثل غرب البلاد. والسّبب في استهداف الشّباب كشريحة دون غيرهم في هذا المجال، تواضع كلفة إيوائهم حيث يدفعهم حبّ المغامرة إلى الرضا بالسّكن صيفًا في إقامات الخيام (Villages de toiles). ولئن كان مردود هذا النّوع من السّياحة الثّقافيّة محدودا ولن يحظى باهتمام المهنيين الخواصّ فإنّ على الدّولة أن تدعمه كاستثمار بعيد المدى لأنّ فائدته الآجلة لا يستهان بها، حيث أنّ من خاض مغامرة سياحيّة في بلاد ما، يحدّث بها غيره ويظلّ محتفظا منها بذكرى قد تدفعه إلى الرّجوع إلى تلك البلاد ثانية، ممّا يشكّل رصيدا مستقبليّا هامّا للقطاع السّياحي وينهض بنِسَبِ العودة التي لا تزال متدنيّة في الوقت الرّاهن.
  • تأهيل القصور الصّحراويّة الكثيرة وترميم ما درس منها ودمجها في إطار حديقة وطنيّة تعرض الثراء الحضاري والفنّي للجنوب التّونسيّ مع إمكانيّة تسهيل استغلالها كديكورات للسّينما العالميّة، على غرار شريط «حرب النّجوم»، وهي من التّجارب التي لم يكتب لها الاستمرار لعدم التّفطّن إلى أهمّيتها وتشجيعها، واستفادت منها دول أخرى.
  • تشجيع السّياحة الدّاخليّة ذات المضمون الثّقافي للتّقريب بين الجهات ونسج علاقات إنسانية متجدّدة بين مكوّنات الوطن الواحد بما يخدم معاني المواطنة والتّضامن والسّلم الاجتماعيّة والعمل على تنميّة الخصائص الثّقافيّة الجهويّة والتّعريف بها. كما ينبغي بذل مجهود اتّصاليّ خاصّ لتشجيع المواطنين على الاهتمام بتراثهم التّاريخي والأثريّ والفنّي بإنتاج وسائل تعريف وإيضاح مكتوبة ومصوّرة تعتمد اللّغة العربيّة التي لا تكاد تُستعمل في المطبوعات المعروضة في المواقع والمعالم.

وختاما، لو بحثنا في أصول ظاهرة السّياحة منذ أقدم العصور لوجدنا أنّ الحافز الأساسي عليها هو الهاجس الثّقافيّ  متمثّلا في حبّ المعرفة والاستقصاء العلمي أو التّعرّف على أحوال أقوام الآفاق القصيّة وطرق حياتهم وأنماط تفكيرهم،  ولنا على ذلك أمثلة في تجارب علماء ورحّالة وسيّاح من أمثال هيرودوت وماركو بولو وأبي الرّيحان البيروني وابن بطوطة والحسن الوزّان الشّهير بليون الإفريقي وغيرهم ممّن أسّسوا ثقافة التّواصل بين الحضارات وساهموا في مدّ الجسور بين البشر. فعسى تنير تلك الرّوح الحضاريّة الطّريق نحو سياحة أفضل..

علي اللواتي


 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.