د. وفاء عبد الغفار: اﻷفكار المسبقة حول اﻷمراض النفسية
لاحظت خلال عملي كطبيبة نفسية أنّ الكثير من الناس لديهم تصورات خاطئة تجاه اﻷمراض النفسية. وهذا ما يخلق لديهم نظرة سلبية تجاه الأشخاص الذين يعانون من مثل هذه اﻷمراض. هذه التصورات تؤثر سلبا على المرضى, وقد تعيق تماثلهم للشفاء وإعادة اندماجهم في المجتمع. وهي معتقدات نابعة من سوء فهم للأمراض النفسية ومسبباتها وتداعياتها. لكلّ هذه اﻷسباب فكّرت في كتابة هذا المقال للتعريف بأهّم اﻷمراض النفسية بطريقة مبسطة ومفهومة من قبل الجميع.
السبب اﻷول الذي يجعل ميدان اﻷمراض النفسية مبهما وغير مألوف للعديد من الناس هو أنّه ميدان شاسع جدّا قد تختلط فيه المفاهيم بالنسبة إلى من لم يحظ بتكوين في هذا الميدان. فهو يمتدّ من الاضطرابات في الشخصية إلى الانفصام مرورا باضطرابات المزاج و الإكتئاب. كل هذه اﻷمراض لا تمّت لبعضها بصلة ولكنّها رغم ذلك تعالج جميعها من طرف الطبيب النفسي.
إذن إليكم بعض التعريفات البسيطة التي ستمكننا من التعرف أكثر على أهمّ اﻷمراض وقد تساهم بذلك في دحض اﻷفكار المسبقة السلبية عن هذه اﻷمراض.
ما هي أسباب اﻷمراض النفسية؟
بصفة عامة، يمكن للاضطرابات النفسية، كغيرها من اﻷمراض، أن تصيب أي شخص منا أو من عائلاتنا، لا قدر الله. لا يوجد سبب واحد للأمراض النفسية، إنما مجموعة متداخلة من العوامل نذكر منها:عوامل جينية ووراثية، المحيط الخارجي و ما يحمله من تجارب وضغوطات، الأرضية النفسية المهيأة لدى البعض، وعوامل البيولوجيا.
مرض الانفصام
لعل أكثر اﻷمراض شهرة وغموضا في نفس الوقت هو مرض الانفصام أو ما يعبر عنه بالفرنسية والانجليزية بالسكيزوفرينيا (schizophrénie). هذه الكلمة لا تعني وجود شخصيتين مختلفتين كما تصورها بعض اﻷفلام السينمائية بل هي ترمز إلى التغيير الذي يحدث في كيان الشخص المصاب وسلوكه، والذي قد يصل به إلى حد فقدان الصلة مع الواقع. إذ قد تصدر عنه بعض اﻷقوال واﻷفعال الغريبة والغير مفهومة بالنسبة إلى المحيطين به أو قد تتولد لديه قناعات خاطئة يتشبث بها رغم محاولات الجميع بإقناعه بعدم صحتها وهذا ما يعبر عنه بالذهان(délire). أو قد تتراءى له صور أو يتهيأ له أنه يسمع أصواتا غير موجودة في الواقع. وهذه التهيؤات ناتجة عن اختلال في نسب بعض الهرمونات الدماغية مثل الدوبامين. ونظرا لغرابة كل هذه الأعراض، كان المصابون بهذا المرض في الماضي ينعتون بالجنون. أحيانا يأخذ أفراد العائلة المريض إلى المشعوذين والدجالين الذين يوهمونهم أن المريض "مسحور" أو "مسكون" عوض أخذه إلى الطبيب النفسي لتلقي العلاج المناسب.
مرض الانفصام هو مرض مزمن يتطلّب متابعة طبية دورية وتناول منتظم للأدوية التي تمكن من تعديل الاختلال في نسب الهرمونات الدماغية. وكلّما كان التشخيص والعلاج مبكّرا كلما زادت فرص الشفاء. في السنوات الماضية، برزت عدّة أدوية وطرق علاجية حديثة تمكّن من التغلب على هذه الأعراض وتهدف إلى تمكين المرء من المضي في حياته قدما. وهنا تجدر الإشارة إلى أهمية العلاج النفسي والمساعدة على الاندماج في العائلة والمجتمع ضمن الطرق العلاجية الحديثة، إذ أنّ هذه العوامل هي ركيزة أساسية تساعد المريض على التماثل للشفاء.
مرض الاكتئاب
تتمثّل أهم أعراض هذا المرض في الإحساس بالحزن الشديد بصفة مطوّلة وفقدان القدرة على الإحساس بالسعادة والمتعة ممّا يجعل المريض سريع التعب، قليل النشاط كثير الانزواء، تنتابه أفكار سوداء ومتشائمة حول المستقبل وحول الحياة بصفة عامة وقد يصل به اﻷمر إلى التفكير في الانتحار. يمكن أن يشتكي المرء كذلك من نقص في شاهية اﻷكل و اضطرابات في النوم و في التركيز و أوجاع معممة و اضطرابات جنسية. إذا تمت مداواة هذا المرض بصفة مبكرة و ناجعة, فإنّ فرص الشفاء تكون كبيرة ويمكن للمريض أن يتعافى ويواصل حياته بصفة عادية. يتم العلاج باستعمال الأدوية المضادّة للاكتئاب و حصص العلاج النفسي والمساعدة على إعادة الاندماج في المجتمع والعمل. وفي بعض الحالات، و خصوصا في حال وجود أرضية وراثية أو ضغوطات نفسية كبيرة، قد تتطور حالة الاكتئاب بشكل مزمن يستوجب مواصلة العلاج والمتابعة بصفة دورية حتى لو تحسنت حالة المريض في الظاهر، و ذلك للوقاية من حدوث انتكاسات أو تعقيدات إضافية.
الاضطراب الثنائي القطب
يمكن أن تتخذ اضطرابات المزاج أشكالا أخرى. قد تبرز أعراض معاكسة تماما لما يحدث في حالة الإكتاب، فتجد المريض يمر بفترات يحس فيها بنشاط مفرط و حماسة كبيرة قد تصل إلى حد الهيجان و قد يصل به الحال إلى ارتكاب أعمال يندم عليها فيما بعد .وهذا يندرج غالبا في ما يسمى بالاضطراب الثنائي القطب للمزاج(trouble bipolaire de l’humeur). وهذا الاضطراب المزمن، مثله مثل باقي الأمراض النفسية يمكن أن يتم التحكم فيه باتباع الطرق العلاجية المناسبة وبصفة مبكرة.
هذا ما يؤكد على أهمية التقصي المبكر لهذه اﻷمراض والمداواة في أوّل مراحل المرض قبل استفحاله.
أمراض القلق و الخوف
هذه مجموعة من اﻷمراض التي تسبب حالات من الخوف والقلق لأسباب مختلفة لا يسعنا هنا أن نطيل شرحها، منها أمراض الخوف الخصوصي (phobie spécifique) والقلق الشامل (anxiété généralisée) و الوسواس القهري (trouble obsessionnel compulsif) واﻷعراض التي تتجرعن آثار الصدمات النفسية أو الاعتداءات. كلّ هذه اﻷمراض يجب أن يتمّ تشخيصها وعلاجها بصفة مبكرة لتحسين فرص الشفاء.
و تنبغي الإشارة هنا إلى أنّ الخوف هو شعور طبيعي يمكن أن ينتاب أي شخص كان ولكنه يتحول إلى حالة مرضية إذا بلغ درجة عالية من الحدَة، من غير مبرر، و تسبّب في تراجع واضح في المردود والأداء في جوانب حياتية مهمة.
الطرق العلاجية
كما سبق و أشرنا، توجد ثلاث ركائز أساسية لعلاج الأمراض النفسية بصفة عامة ألا وهي الأدوية وحصص العلاج النفسي، والمساعدة على إعادة الإدماج في العائلة والمجتمع.
تعاني الأدوية المستعملة في ميدان الطب النفسي من سمعة سيئة وعديد الأفكار المسبقة الخالية من الدقة. بعض الناس يسمّونها "دوايات اﻷعصاب" بينما أنّ اختصاص أمراض الأعصاب هو اختصاص مختلف عن الطب النفسي والبعض الآخر يتّهمها بالتسبب في الإدمان أو في "الفشلة" كما يقال باللغة التونسية الدارجة أو. كل هذه المعتقدات هي مجرد أفكار مسبقة طبعا. فالأدوية النفسية عديدة ومختلفة لا يمكن جمعها في صنف واحد. يتم إعطاؤها للمريض حسب حالته والأعراض التي يعاني منها. وكغيرها من الأدوية، يمكن أن تنجرّ عنها بعض الأعراض الجانبية لذا وجب التقيد بالوصفة الطبية وأخذ الدواء على الوجه المناسب لتجنّب هذه الأعراض. الهدف من هذه الأدوية هو تماثل المريض للشفاء و رجوعه إلى سالف عهده واندماجه بشكل فاعل في المجتمع.
بالنسبة إلى العلاج النفسي أو ما يعبّر عنه المواطنون أحيانا بـ"العلاج بالكلام" فهو ينقسم إلى عدّة أنواع تتمّ في شكل حصص علاجية دورية. أهمّها العلاج السلوكي والمعرفي (thérapie cognitive et comportementale) الذي ثبتت نجاعته في تحسين حالة المرضى في جلّ الأمراض النفسية. وهذا الصنف من العلاج لا يقتصر على الكلام فحسب وإنما هو يتم بطريقة تفاعلية بين الطبيب والمريض ويعتمد على عدة طرق منها التثقيف الصحي و المحاورة مع مقارعة الحجج والتمارين المعرفية والسلوكية ثم التطبيق العملي في الحياة اليومية ممّا يساعد المرء على مغالبة الصعوبات التي تعترضه وحل إشكالياته اليومية والتعايش مع وضعيته على أحسن وجه ممكن.
الركيزة الثالثة كما أسلفنا هي مساعدة الشخص على إعادة الاندماج في محيطه العائلي والاجتماعي وعمله. وهنا يبرز دور العائلة والمجتمع كافة إلى جانب دور الطبيب.إذ أن المرضى الذين يتمتّعون بدعم قوي من طرف عائلتهم و تتسنّى لهم فرصة الشغل المنتظم في أماكن عمل متناسبة و حالة كل منهم, يتمتعون بفرص أكبر للشفاء على عكس المرضى اللذين يعانون من النبذ والتهميش. وفي هذا السياق و بصفة أشمل, فإنّ المجتمعات التي تنتهج سياسة التهميش تجاه المرضى النفسيين تساهم في استفحال هذه الأمراض ولا توفر أرضية ملائمة لتساعدهم على تحسّن حالتهم رغم وجود أدوية ناجعة.
د. وفاء عبد الغفار
طبيبة استشفائية جامعية
مختصة في الطب النفسي
- اكتب تعليق
- تعليق