احميده النيفر: الحريات الفردية, هل هي نهايـة الإقصاء؟
1 - تتوالى الأخبار والتصريحات مفيدة أن أعمال لجنة الحريات الفردية والمساواة التي أعلن عن تكوينهـا في 13 أوت 2017 تسير حثيثة وأنّها توشك أن تتوصّل إلى صياغة المقترحات التي ستقدّم إلى رئيس الجمهورية. ما يُفهم من عموم هذه الأعمال أنّ اللجنة في اجتماعاتها الخاصّة والموسّعة تبنَّت «استراتيجية تفاعلية» جمعتها بأطراف مختلفة وكفاءات متنوّعة تشمل أكاديميين وباحثين وسياسيين وفاعلين مدنيين فضلا عن الحقوقيين. الهدف من هذا التوجه التفاعلي هو «الاستئناس» بآراء الجميع في موضوع مُهمٍّ لا بد أن «يشمل الجميع دون إقصاء».
2 - هذا ما أعلن عنه الأستاذ عبد المجيد الشرفي، عضو اللجنة ورئيس المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون «بيت الحكمة»، في تصريح أخير أوضح فيه أنّ التوجه الذي تنحو اللجنة للاحتكام إليه في صياغة المقترحات المتعلّقة بالحريات الفردية والمساواة سيسمح للمرأة بأن تتمتّع «بنظام آخــر غير نظام المســاواة إذا ما رغبت في ذلك كما يتيح لها الانتفاع بنظام المساواة الذي يضمنه لها القانون المدني الوضعي». في سياق متّصل حرص الأستاذ الشرفي على أن يوضّح أنّ المساواة «حقٌ من الحقوق وليست مفـروضة لا بالقانون ولا بأيّ إطار آخر». دلالة هذه العبارات من الجامعي المعروف لافتة لا يخطئها كل من اهتمّ بمسار الحياة السياسية التونسية وما اخترقها من خطاب استقواء وإقصاء إيديولوجي ساد المجالات الفكرية والأكاديمية والثقافية والقانونية طوال عقود في تونس المعاصرة. لا شكّ أنّ في النبرة الموزونة لرئيس بيت الحكمة صدى لما جاء في الخطاب الرئاسي الذي أُلقي بمناسبة العيد الوطني للمرأة في 13 أوت الماضي من روح حداثية مُقِرَّة للعدالة والمساواة تريد أن تنأى بنفسها عن مشاعر الاستعلاء والعداء للتديّن وعن مصادمة للاعتقادات والمواقف المحافظة لدى قطاعات واسعة من عموم الشعب. ما صرّح به الأستاذ الشرفي يستحضر بشكل أكيد ما شددّ عليه رئيس الجمهورية من أنّ تونس، وفق دستورها الجديد، دولةٌ مدنيّة لشعب مسلم وأنّ العقل القانوني التونسي سيجد الصيغ الملائمة التي لا تتعارض مع الدين والقانون.
3 - في خطّ مغاير لنبرة الشرفي الموزونة وللتوجه الرئاسي الإِلافِيِّ يتنزّل تصريح عنصر ثان من أعضاء اللجنة هي الجامعية سلوى الحمروني. عمل اللجنة، وفق رؤية الأستاذة المختصة في القانون العام، يهتمّ باقتراح جملة من النصوص القانونية والتنقيحات الجديدة بعد جرد ما يتوفّر حاليا من قوانين ومناشير وأوامر صارت غير ملائمة للدستور الجديد ولمقتضيات التطور. المطلوب، حسب الأستاذة الحمروني، حريةٌ أكبر ومساواةٌ تامّة بالنسبة إلى الحريات الفردية باعتبار أنّ المرجعية تقتصر على عنصري دستور 2014 والاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها تونس في مجال المساواة والحريات. مؤدّى هذا أكّدته الأستاذة بوضوح في أكثر من مناسبة وخاصّة في نصّ لها منشور في أوت 2017 بمناسبة العيد الوطني للمرأة تحت عنوان: «لا، لا أحتفـل بعيد المــرأة» (Non, je ne fête pas le 13 août). تبيّن قراءة النص أنّ الكاتبة لا ترى مسوغا للاحتفال بهذا العيد لكون قضيّة المساواة بين الرجل والمرأة ما تزال تراوح مكانها لم تتقدّم بصورة حقيقية صوب الوجهة الحاسمة. ذلك أنّها لا تجد فيما نصّت عليه مجلة الأحوال الشخصية ما يفي بالمكانة التي تستحقّها المرأة إنسانيا لما حافظت عليه المجلة من اعتبارات تراها استتباعا مهينا للمرأة (المهر والنفقة وما شابههما).4 - اللافت في موقف الأستاذة اعترافها بما حقّقته المجلة من مكاسب كمنع تعدّد الزوجات وجعل الطلاق إجراء مدنيا تحت رقابة الدولة مع الإصرار على أنّ خيبة أملها عريضة لتوقّف مسيرة مكاسب المساواة والحرية. يحصل هذا رغم معرفتها بأنّ نساء أخريات في مجتمعات مجاورة مازلن يعانين من القهر واللامساواة وأنّ «الصديقات الأوروبيات» مازلن هنّ أيضا يناضلن من أجل المساواة في الأجر عند القيام بنفس العمل، كلّ هذا لم يُثْنِ عزيمة الأستاذة برفض الاحتفال بعيد المرأة التونسية.
4- السؤال الذي ينبغي معالجته هو: لماذا تتجاهل الأستاذة دلالات التغييرات الكبرى وآثار السياق السياسي الوطني والإقليمي والدولي على قضيّة الحريات والمساواة؟ وكيف تتاح المطالبة بمواصلة توسيع المكاسب التحررية ضمن برنامج حداثوي تفرضه الدولة رغم كل ما اعترى هذه الأخيرة من تحوّلات جليّة؟ ثم كيف نفهم موقفها الجذري في ضوء ما صدر عن البرلمان الأوروبي في 14 سبتمبر 2016 من قرار خاصّ بتونس وما تتطلّبه أوضاعها من «إصلاحات سياسية ومؤسّساتية» ينبغي أن تشمل مجلة الأحوال الشخصية في خصوص نظام الإرث وزواج التونسية بغير المسلم (الأمر الذي عاد وأكّده سفير الاتحاد الأوروبي في تونس السيد «برغاميني» لاحقا في 8 مارس 2017)؟
5 - عند استجلاء طبيعة عمل اللجنة الرئاسية وجوهر اهتماماتها فيما ستقدّمه من توصيات ومقترحات ركّز الأستاذ صلاح الدين الجورشي، عضو اللجنة الثالث الذي حاورناه على جوانب أخرى حريّة بالاهتمام. كان من أهمّها عنصران أوّلهما يتعلّق بالحريات الفردية التي لم يقع دعمها بصورة شاملة وكافية في منظومتنا القانونية في ضوء ما عرفته بلادنا من تحوّلات نوعية شهدتها العقود الأخيرة وخاصّة ما تأكّد بعد الثورة. لقد ظلّ الاهتمام بالفرد وحقوقه وحريته رهين مصلحة المجموعة واستقرار الدولة. ما يقتضيه الوعي السياسي الاجتماعي المتجدّد اليوم هو دعم جهود المجتمع المدني بالخروج بحقوق ثابتة ومصانة للفرد من المنطقة الحُرِجَة لإكسابه قيمة قانونية مميّزة. تتولّد عن الرهان على الحريات الفردية قضيةٌ ثانية متّصلة بحرية الضمير المنصوص عليها دستوريا.
إجابة الأستاذ الجورشي عن توجّس جانب من التونسيين ممّا يمكن أن تؤدّي إليه حرية الضمير في السياق الانتقالي الحالي هــامّة. ما يعتري الشأن العام من مخاطر وما يمكن أن تؤدي إليه حرية الضمير من تحلّل في مستويي التدين والتخلق تعتبر، في رأيه، تحدّيا إيجابيا يُمكُّن المجتمع من التوصل إلى معالجات ومؤسّسات اجتهادية وإبداعية يفتقدها الآن الشأنُ الديني بصورة فاجعة.
معنى هذا أنّ أفضل ما توفّره الحريات الفردية، بما فيها حرية الضمير، يتيح مغادرةَ أسوء ما حصل في القديم بخصوص المسألة الدينية في تونس لأنّ التديّن المتمدّن لا ينمو ولا يرتقي إلاّ في إطار الحرية والتعدد والقانون.
6 - استكمالا لهـذه الجــولة تبــدو مبادرة الأستاذتين «بشرى بالحاج حميده» و«إقبال الغربي» بعيدة الدلالة. لقد أقامتا يوما دراسيا (9 -12- 2017) في قصــر الضيــافة بقرطاج جمع اللجنة الرئاسية بثلّة من أساتذة جامعة الزيتونة للحوار في شأن الحريات الفردية والمساواة خاصّة ما تعلّق بنظام الإرث. تتعيّن أهمية ما أفضت إليه هذه المبادرة في التخلص من جزء من المخاوف والظنون المتبادلة بين التيار التحديثي والمؤسسة الزيتونية خاصّة. أيّا كان تقييم ما انتهى إليه هذا اليوم فقد أتاح التعبير عن فكرة كبرى مُغَيَّبة فيها دحض لمقولة عداء مفتعل بين الإسلام والحداثة. ظهر هذا بفضل الابتعاد عن سياسات التوظيف القديم والاقتناع بضرورة الخروج من المواقع الهامشية التي كثيرا ما انساق إليها الزيتونيون إراديا بما لم يسمح لمن يخالفهم الرأي أن يكتشف جانبا من معقوليتهم ومشروعيتهم.
بناء على جملة هذه المعطيات، هل سيكون اختلاف مقاربات أعضاء اللجنة الرئاسية مؤدّيا إلى رجوع منطق الاستقواء بالدولة أم أنّه سيعلن عن ديناميكيات حوار تكون إيذانا بنهاية الإقصاء؟ وهل ستتواصل الوصاية على قوى المجتمع باسم التقدم والعالمية أم ستجرأ مقاربات جديدة تؤدّي إلى إقرار التعددية القانونية في تونس بشكل رسمي؟
7 - في انتـظار نتيجة أعمال اللجنة الرئاسية للحــريات الفردية والمســاواة مـن المفيــد استـضـار ما كتبه المفكـــر «آرثر كــوستــلـر» «Arthur Koestler» في خــصــوص هذا الموضوع. نقرأ في كتابه الصادر سنة 1947 Le Yogi et le commissaire، يمكن أن يُعَرَّب بـ: الصّوفي (اليوغي) والمفوَّض (وفق استعمال التجربة السوفياتية) أو السياسي الثوري أنّه إذا كان هدف السياسي- الثوري تغيير الاستغلال بقرارات وتشريعات، فإنّ الصّوفي يريد الوصول إلى نفس الأهداف عن طريق التربية وتكوين الفرد روحيا. يعقّب «كوستلر» على ذلك بما يواجه الصّوفي والثّوري من فشل نتيجة وقوعهما في كلّ مرّة في إخضاع الغاية للوسائل واستبعاد جانب التشريعات على حساب التربية أو العكس. مردّ فشل كلا الرمزين إلى ما يسميه «كوستلر» «انتقام العضو المبتور». ذلك أن النظرة التبسيطية التي تُقصي جانبا من الكيان الإنساني –الثقافي- الاجتماعي على حساب جانب آخر إنما تُلغي عنصرا من كامل المنظومة بما يوقع في تشويهها وإفشال مشروعها. ذلك هو المقصود من انتقام العضو المبتور الذي يتساوى فيه الصّوفي والثّوري رغم أنّهما على طرفي نقيض.
احميده النيفر
رئيس رابطة تونس للثقافة والتعدّد
- اكتب تعليق
- تعليق