أخبار - 2018.01.16

رشيد خشانة: شبابُنا وقـودٌ للغـوغائيين

رشيد خشانة: شبابُنا وقـودٌ للغـوغائيين

 مضت سنة ونصف السنة على الاجتماع الأخير للموقّعين على وثيقة قرطاج، قبل الاجتماع المنعقد يوم الجمعة 5 جانفي الجاري، وهذه أمارة على أنّ مرجعية «حكومة الوحدة الوطنية» لا تقوم بوظيفتها، وأنّ العلاقات بين مكوّناتها ليست على ما يُرام. وهذا سببٌ كاف لكي يتعثّر مسار الإصلاح ويفقد البوصلة. من الواضح أنّ أطراف «وثيقة قرطاج» هم رُبّان السفينة، وأنّ الرُبّان غير منسجمين، لا بل هم يتدافعون منذ أن اكتُشفت هذه الصيغة السحرية، التي تمثّل الهدفُ الأول منها، والحقّ يُقال، في تسويغ الإطاحة برئيس الحكومة السابق الحبيب الصيد.

على هذه الخلفية استأثر الندائيون بالمراكز المفتاحية الثلاثة للسلطة، مما جعل الخلافات الداخلية لـ»النداء» تنعكس سلبا في مرآة الأداء الحكومي، وهذا ما أكّده التعديل الوزاري الأخير، وكذلك في العلاقات بين المكونات السياسية لحكومة الوحدة، التي سرعان ما أصبحت حكومة الفرقة بإعلان «الجمهوري» ثمّ «آفاق تونس» انسحابهما منها، واهتزاز العلاقات مع مُكوّنات أخرى. وشكّل التقارب العجيب بين الحزبين الأوّلين من جهة و«الاتحاد الوطني الحر» من جهة ثانية (بعدما أقدم زعيمُه سابقا على تمزيق وثيقة قرطاج)، علامة على غياب المنطق وتذبذب الرؤية. لذلك هزّت تلك الخطوة الثقة مجدّدا بين المكوّنات الحزبية، وحتّى مع منظمتي الأعراف والعمال. والأرجح أنّ الاجتماع المقبل للموقّعين على «وثيقة قرطاج»سيكشف عن المزيد من الثقوب في مركب «الوحدة الوطنية» بالنظر للاحتقان الذي تشعر به بعض المُكوّنات، والتي لم تعد تقبل بإخفائه. ويُعزى هذا الشعور بالضيم والإقصاء إلى أنّ القاعدة التي بُنيت عليها حكومة الوحدة الوطنية لم تكن منطلقة من برنامج شامل للإنقاذ، مع تحديد الكفاءات القادرة على تنفيذه، وإنّما من إصرار على ترجمة النتائج الرقمية لانتخابات 2014 إلى حصص في الحكومة، تُوزّع بإرادة الحزبين. لذا رأينا ومازلنا نرى من هو أكفأ مُستبعدا من الموقع الذي يمكن أن يُعطي منه الكثير للبلاد، ومن ليست لديه كفاءة يُدير قطاعا ليست له به معرفة كبيرة. من هذه الزاوية ليست هناك من حاجة إلى أن يكون الاجتماع المقبل للموقّعين على الوثيقة مُخصّصا لوضع تقويم لعمل الحكومة، فموطن الخلل بيِّنٌ لا يحتاج إلى تشخيص جديد أو شروح.

تبـريـــر التجـاوزات

في المقابل يتحوّل الاختلاف في الرأي مع الحزبين الحاكمين لدى بعض المعارضة إلى خطّ تبريري لجميع التجاوزات، أيّا كانت خطورتها، طالما أنّها تُساهم في إضعاف الحكومة. وتجلى ذلك في المواقف المُحرّضة على الاحتجاجات الشارعية والمُبرّرة لأعمال العنف والسطو التي استهدفت الملك العام والخاصّ، وقد سقط العديد من ضحاياها سواء بين المتظاهرين أو من رجال الأمن. واعتمدت تلك التحركات، والسياسيون المُبررون لها، على منطق غريب يُشرّعُ الاحتجاج الليلي، مع أنّ الجماهير التي يُراد إيقاظها وتوعيتها نيامٌ لا تشعر بما يدور حولها. الأخطر من ذلك أنّ تلك «الاحتجاجات» سرعان ما استُخدمت غطاء لأعمال إجرامية تمثّلت في حرق مقرّات رسمية ومؤسّسات خاصة، واقتحام اخرى تحت جنح الظلام من أجل السلب والنهب والاعتداء على الأمنيين. وعلى هذا الأساس فإنّ المنتظر من الذين حرّضّوا في وسائل الإعلام على الاحتجاجات الشارعيّة أن يُوضّحوا موقفهم من العنف، ويتباينوا مع أعمال الحرق والنهب، التي لا صلة لها  بالاحتجاج السياسي السلمي، ولا بممارسة حرية التظاهر المكفولة دستوريا في نطاق ضوابط قانونية واضحة. لذا فإنّ تلك الأعمال الفوضوية مشبوهة المصدر والرسالة، وليس أدلّ على ذلك من أن مكوّنات هامّة من المجتمع المدني مارست الاحتجاج على ارتفاع الأسعار، لكن بوسائل لم تترك مجالا للانزلاق نحو العنف والهدم، من ذلك على سبيل المثال المسيرة الكبيرة التي قادها اتحاد الشغل مؤخّرا في سيدي بوزيد، احتجاجا على الترفيع في الأسعار، والتي انطلقت من مقر الاتحاد الجهوي للشغل نحو مقرّ الولاية، من دون تسجيل أيّ حادث.

الخـط البياني للمجتمــع المـدني

وإذا كانت التجاوزات العنيفة حظيت بنوع من غضّ الطرف قبل 14 جانفي 2011 لانسداد الآفاق ومصادرة وسائل التعبير السياسي السلمي، فإن ذلك لا يمكن أن يُبرّر اليوم، لأنّ مجالات التعبير مُتاحة بجميع الوسائط، وهي في متناول الجميع تقريبا. من هنا فإنّ أيّ عمل خارج ضوابط القانون هو عمل ضدّ تونس وليس ضدّ الحكومة. وخلافا لما يدّعيه بعضهم من أنّه يمثّل صوت المجتمع المدني، فإنّ قراءة الخط البياني لحركة المجتمع المدني تاريخيا في تونس، تُظهر تشبّثا بالعمل القانوني والتزاما بسلمية المبادرات والاحتجاجات، ممّا شكّل دوما علامة على نضج المجتمع المدني في بلادنا منذ بواكيره الأولى في سبعينات القرن الماضي. وإذا ما رصدنا تطوّر مسار المجتمع المدني التونسي، خلال نصف قرن، مُقارنة ببلدان منطقتنا، سنلمح أنّه اكتسى خطّا تصاعديا تراكميا، وظلّ يجنح دوما للوسائل السلمية، حتى لو كان مفعولها محدودا في كثير من الأحيان.

ويُعزى ذلك إلى أنّ مسار المجتمع المدني أتى امتدادا للفكر السياسي في تونس، الذي توخّى المنهج الإصلاحي السلمي في غالبيته، حتّى لدى الكفاح من أجل التحرر من نير الاستعمار. وتجلّى ذلك مجدّدا في الدور البارز الذي لعبه المجتمع المدني في الانعطافات الكبرى بعد الثورة، من اعتصام الرحيل إلى الحوار الوطني إلى المعركة مع الإرهاب. في هذا السياق تبدو كلّ محاولات التلبيس التي تسعى لوضع أعمال العنف الأخيرة في سلة المجتمع المدني، افتئاتا عليه وخلطا للألوان وتشويها لمساره السلمي. غير أنّ هذه الأحداث المتلاحقة في عدة مناطق من البلاد تُعمّق من الرهانات والتحدّيات التي يواجهها المسار الانتقالي، وهي رهانات اقتصادية واجتماعية بالدرجة الأولى، فسوق العمل يعجُ بالشباب المُعطّلين الذين يشكّلون وقودا لأيّ تمرّد أو تحدٍّ للدولة، لأنّهم يرون أنّها لا تهتمّ بقضيتهم. وتشير تقديرات المعهد الوطني للإحصاء إلى أن نسبة البطالة مازالت تفوق 15 في المئة،غير أنّ هذا الرقم يكون مُضلّلا لأنّ النسبة في الولايات الداخلية أعلى من ذلك بكثير، فهي تفوق 25 في المئة في ولايات الجنوب الشرقي و24 في المئة في الجنوب الشرقي، وهي غير بعيدة عنها في ولايات الوسط الغربي والشمال الغربي.

ثــلاثة خيـارات

وإزاء انسداد الآفــاق أمام الشبـــاب المُعطّل لا تبقى أمامه سوى ثلاثة خيارات:

  • إما ركوب البحر بما يحمله من مفاجآت ومخاطر نحو الجنّة الوهمية
  • أو الانخراط في شبكات الجريمة بمختلف أنواعها، ومنها الجماعات الإرهابية
  • أو إفناء شبابه في المقاهي، والقهر يحرق فؤاده

في مثل هذا المستوى من الإحباط واليأس يغدو شبابُنا حطبا للعدميين والشعبويين الذين لا رصيد لديهم سوى بيع الوهم. واللافت أن الذين يُعتقلون ويُضربون ويُحاكمون هم من ذاك الشباب البريء بينما يُفلتُ المُهيّجون والغوغائيون من المحاسبة. الأخطر من ذلك أنّ الهرم الشبابي يتآكل من القاعدة والرأس في الوقت نفسه: من القاعدة بفعل تورّط بعض الشبان في «الحرقة» والجريمة، ومن الرأس بفعل الهجرة المنظّمة للكفاءات، فالإحصاءات تشير إلى هجرة 100 ألف عقل تونسي في السنوات الستّ الأخيرة، وعلى كلّ عشرة مهاجرين هناك واحدٌ على الأقلّ من العلماء أو الأساتذة الجامعيين أو الأطبّاء. وقد توجّه 60 في المئة من هؤلاء إلى المقاصد التقليدية أي دول أوروبا، وما بين 25 و30 في المئة اتجهوا إلى كندا وأمريكا، فيما تمّ انتداب الـ15 في المئة المتبقية في بلدان الخليج.

شبابٌ هذه مصائرُه المحزنة يحتاج منّا اليوم أن نوليه أقصى العناية وندرس أوضاعه جديا، وألا نبيعه العناوين الفضفاضة (حوار وطني، ندوة دراسية...) لكي نصون أهمّ ثروة لدينا، قبل أن تكفر بنا وتلعن بلدها.

رشيد خشانة

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.