فيلم «الجايدة» صفحة من نضال المرأة التونسية ضدّ الإذلال والاضطهاد
بعد فترة غياب طويلة عن الساحة السينمائية، تعود سلمى بكار المخرجة المخضرمة والناشطة السياسية لتطلّ علينا بفيلم جديد من كتابتها وإخراجها، واصلت من خلاله رحلة البحث في تاريخ المرأة التونسية والانتهاكات الجسيمة التي تعرضت إليها في فترة ما قبل الاستقلال وقبل صدور مجلة الأحوال الشخصية.
«الجايدة» هو العنوان الذي اختارته سلمى بكار لرابع الأفلام الروائية الطويلة التي أنتجتها خلال مسيرتها السينمائية الحافلة بالكثير من الأعمال الراقية، حيث تمّ تقديمه لأول مرّة ضمن فعاليات الدورة الأخيرة لأيام قرطاج السينمائية، خارج المسابقة الرسمية، ولا تتجاوز مدة عرضه الساعتين (110 دقائق).
جرأة في طرح الموضوع
في البداية، لابدّ أن نثني على جرأة مخرجة العمل التي تتجلّى في إثارة موضوع يساعد على استعادة جزء من تاريخ تونس ويساهم في تغذية الذاكرة الجماعية في إطار تعزيز الدفاع عن حقوق المرأة وإذكاء الوعي بهذه القضية. ومن المؤكد أنّ سلمى بكار تلتزم بهذا الاختيار وتؤمن به، لدرجة أنّ فيلمها الجديد نجح في جلب اهتمام الجمهور العريض، وعشّاق الفن السابع على اختلاف اعمارهم وانتماءاتهم الاجتماعية. لأنّ هذا الفيلم، وبكلّ بساطة، يمتلك مقوّمات العمل الإبداعي السينمائي المتماسك: معالجة درامية مميّزة، لغة سينمائية راقية وبليغة، أداء تمثيلي متقن ومحترف إضافة إلى إيقاع تصاعدي مشوّق نجح في شدّ انتباه المتفرّج. وكعادتها ظلّت سلمى بكار وفيّة لمسيرتها السينمائية النضالية ولمبادئها السياسيّة التقدميّة، إذ حاولت من خلال فيلمها الجديد الكشف عن فصل، غير معروف لدى الأجيال الجديدة، من فصول الاضطهاد الذي كان مسلّطا على المرأة التونسية قبل الاستقلال. الأمر يتعلق «بدار الجواد» المعروفة في تلك الفترة بدورها التأهيلي والإصلاحي للمرأة المتمرّدة وغير الملتزمة بالعادات والأعراف الاجتماعية؛ ولكن في حقيقة الأمر هي دار للعقاب تتعرّض فيها النساء لأشكال عدّة من التعذيب الجسدي والنفسي.
أربع شخصيات نسائية من زمن آخر
تدور أحداث الفيلم في منتصف الخمسينات من القرن الماضي، قبيل الاستقلال، في سياق عام مفعم بالمشاعر القومية والروح النضالية واختارت مخرجة العمل أزقّة المدينة العتيقة لتصوير فيلمها وقامت من خلاله بتسليط الضوء على الحياة اليومية لأربع شخصيات نسائية من أوساط اجتماعية وثقافية متباينة، لكل واحدة منهنّ قصّتها، حيث نجد شخصية «بهجة» (وجيهة الجندوبي) المرأة المثقفة والمتحرّرة التي ترفض خيانة زوجها لها وتستميت في المطالبة بالطلاق، و»آمال» (نجوى زهير) أمّ البنات المقهورة والمغلوبة على أمرها التي ترفض غطرسة وظلم حماتها لها نتيجة عدم قدرتها على إنجاب ذكر. كما نجد شخصية “حسينة» (سلمى محجوب) المراهقة المتعلمة والعاشقة التي تتحدّى عائلتها البورجوازية لتقع في غرام شاب ثوري ومندفع قادم من الريف، إضافة إلى شخصية «ليلى» (سهير بن عمارة) الزوجة المحرومة من إشباع رغبتها العاطفية والجسدية والتي ترفض عجز زوجها وتضطر إلى خيانته، دون أن ننسى بالطبع بقية الشخصيات النسائية الثانوية الأخرى.
اختارت سلمى بكّار أن تقدّم شخصياتها الأربع الرئيسية بطريقة ذكيّة، من خلال إعادة نفس اللقطة السينمائية لكلّ منهن على حدة، وذلك بالتركيز على صورة مقرّبة لأقدام حافية تحاول التسلّل على أطراف الأصابع ببطء وتردّد، في مشهد يترجم الشعور بالخوف والقلق من المجهول، ليبدأن جنبا إلى جنب رحلة كفاح وتحدّ لدفاع عن الحقوق والكرامة التي سلبت منهن باسم العادات والأعراف الاجتماعية.
رحلة كفاح من أجل الكرامة
تجد بطلات الفيلم أنفسهن ضحايا في نهاية المطاف أمام «حاكم الدريبة» أو القاضي الشرعي (جمال مداني) الذي يعتمد في أحكامه على مساعدة شيخين يمثّل كل واحد منهما المذهبين المالكي والحنفي. ما يلفت النظر هنا حنكة المخرجة في الاعتماد على صورة كاريكاتورية لتقديم هيئة القضاة الشرعيين وذلك في إشارة إلى بعض رجال الدين الذين يكيّفون النصوص الدينية حسب أهواء بعض المتنفّذين والمتسلّطين لبلوغ غاياتهم الرخيصة وإشباع رغبات نفوسهم الضعيفة. كما جعلت سلمى بكّار من مشهد المحاكمة صورة متواترة في الجزء الأول من الفيلم، حيث اختارت في كل مرة أن تغيّب عن قصد صوت شيخ المالكيّة بخفض صوته مقابل إعطاء مساحة أكبر لشيخ الحنفيّة الذي كان يظهر التزامه بالتفاسير القطعية للقانون الإسلامي وينادي بتطبيقها، ولعلّ في ذلك تعبيرا عن التمسّك بالمذهب المالكي المعتمد منذ قرون في تونس، باعتباره أكثر المذاهب اعتدالا ووسطية، خاصّة بعد أن ارتفعت عدة أصوات في السنوات الأخيرة تنادي باتّباع مذاهب أكثر تشدّدا.
ستستمرّ رحلة كفاح النساء الأربع بعد إدانتهن، وهنّ يواجهن «الجايدة»، وقد أدّت دورها ببراعة فائقة الفنّانة القديرة «فاطمة بن سعيدان» التي ظهرت في أغلب فترات الفيلم كشخصية قوية وصارمة في التعامل مع نزيلات الدار. والجدير بالذكر أنّ شخصيات سلمى بكار ليست ثابتة بل هي مُتغيَّرة وديناميكية، إذ تتحوّل العلاقة فيما بينها من العزلة والانغلاق إلى تضامن واصطفاف في مواجهة الرجعية والاستبداد المسلّط عليهنّ، لتكون نقطة التحوّل الهامّة في مسار الأحداث عندما تقرّر إحدى البطلات وضع حدّ لحياتها في نهاية الفيلم بعد أن رامت التحرّر بدلا من الخضوع للإذلال. مشهد الانتحار صُوّر بطريقة غير تقليدية وجريئة، إذ وظّفت المخرجة بعض المؤثّرات الصوتية والبصرية لتزيد من حدّة الواقعة، وآثرت التدرّج في الكشف عن مصير شخصيتها بإطالة بعض اللقطات للإبقاء على المتفرّج في حالة إثارة دائمة وإصرارها على توريط شخصيّة الزوج الذي كان يبحث عن إشباع رغباته الجنسية إلى أن اكتشف أنّه يتلمّس جثّة هامدة. تتسارع الأحداث وتتطوّر مع اندلاع الانتفاضة الشعبية ضدّ المستعمر وتحرص المخرجة على التركيز على شخصياتها الأربع الرئيسية التي كانت تراقب وترصد الأحداث من وراء الجدران المغلقة، لينتقل بنا شريط الصور مباشرة إلى مشهد عودة الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة من منفاه الفرنسي في غرّة جوان 1955، وقد أبت سلمى بكار إلاّ أن تخلّد بصور حقيقية هذه اللحظة التاريخية على شريطها السينمائي، وهو الحدث الذي أعطى ضربة البداية للحركة النسائية بتونس، لتتحوّل بنا المشاهد فيما بعد من صور بالأبيض والأسود إلى صور بالألوان في دلالة على أنّ زمن قمع المرأة اجتماعيا وجنسيا ودينيا قد ولّى وفات.
مع نهاية الفيلم، ندرك أنّ القصّة هي عبارة عن «فلاش باك» مطوّل (نظرة إلى الوراء) وثّقت من خلالها المخرجة الواقع المرير للمرأة التونسية قبل الاستقلال، لتعود بنا في المشهد الأخير وتركّز من جديد على إقدام إمرأة أنيقة تجوب بهو المجلس التأسيسي بخطوات ثابتة هذه المرّة بعد أن كانت في بداية الفيلم متردّدة وخائفة. هذه المرأة ليست سوى ابنة «بهجة» إحدى الشخصيات الرئيسية لسلمى بكار التي استماتت في الدّفاع عن كرامتها وحريتها، لينتهي الفيلم بخطاب المخرجة في المجلس التأسيسي على إيقاع النشيد الوطني التونسي. فيلم سلمى بكار هو، في تقديرنا، تحفة فنيّة من حيث الحبكة الدرامية والإخراج، غير أنّنا نبدي تحفّظا بشأن اختيار بعض الممثلين الثانويين إضافة إلى بناء بعض المشاهد المستعجل وغير المتقن خاصّة بالنّسبة إلى مقاطع المواجهات بين المستعمر الفرنسي والمقاومين. كما أدّى تجريد أغلب الشخصيات الرجالية من الصّفات الإنسانية وإظهار البعض منها في دور العاجز عن اتخاذ القرارات الصائبة إلى خلق بعض الفجوات في التركيبة الدرامية. فيلم «الجايدة» هو رحلة سينمائية عبر الزمن وصرخة ضدّ ثقافة النسيان من أجل ألاّ تذهب تضحيات المرأة التونسية سدى وحتى تحافظ طفلة اليوم وامرأة الغد على مكتسباتها لمجابهة تحديات الحاضر والمستقبل.
محمد ناظم الوسلاتي
- اكتب تعليق
- تعليق