احميده النيفر: النهضة في تحوّلاتها »المكـتومة«

النهضة في تحوّلاتها »المكـتومة«

1 - في حواره مع «ليدرز العربية» قبيل انعقاد المؤتمر العاشر لحزب النهضة في ماي 2016 أكّد الأستاذ راشد الغنوشي أنّ الحركة حسمت خوض غمار درب جديد عنوانه الأبرز الفصل بين السياسي والدعوي. في هذا الحوار تستوقفنا إجابات فيها جملة من «دقيق الكلام» الذي يسترعي اهتمام المتابع لما يكتسيه اليوم من دلالة خاصّة. ثلاثة مقاطع من الحوار تشتمل على مــؤشّرات تضيئ ما يجري من حراك «مكتوم» داخل النهضة.

2 - عن سؤال: هل تنتظرون من المؤتمر بروز قيادات جديدة؟ قال الأستاذ فيما يمكن اعتباره تجاهلَ العارف: «نأمل أن ينفتح الحزب على الكفاءات التونسية وعلى فئات ثقافية واجتماعية أوسع...». في سؤال لاحق عن وجود صراع أجنحة داخل النهضة أتى الجواب بأنّ «كل حركة كبيرة لها أجنحة كثيرة ومستويات متعدّدة في التفكير وفي الرؤى»وأن الجامع بين عناصر النهضة هو «منظور شامل للإسلام نسميه الإسلام الوسطي...». لاستيضاح ما وراء التعميم واصل السؤال الثالث على نفس الوتيرة مستفهما: «قلتم إنّ من يخرج من النهضة لن يكون له شأن، كان الجواب»: «إن الحزب ليس حديديا وفيه فسحة لاختلاف الرأي... ومن خرج منه أفرادٌ لأنّهم لم يجدوا أنفسهم في هذا الفضاء .. بل هناك عدد منهم عاد».

وفق هذا تكون النهضة المتخصّصة سياسيا غير منزعجة من اختلاف الأفكار داخلها طالما بقي ضمن سياج الإسلام الوسطي ولم يؤدِّ إلى تجاوز ما تعتمده الحركة وتصوغه لمفهوم «السياسة»!

عند التمعن، وبقطع النظر عن دلالة الإسلام الوسطي، فإنّ مفهوم السياسة في هذا المستوى هو الذي يبرز وكأنه من «دقيق الكلام» بمسائله الإجرائية وظواهره المتحركة أساسا. على هذا يكون يؤدي إقرار النهضة بالتوجه الجديد إلى استبعاد ما في السياسة من منظور استراتيجي وتموقع اجتماعي ورهان مؤسساتي والاكتفاء بما تقتضيه من صراع سلمي لحيازة السلطة الرمزية والفعلية في المجتمع والحكم.

3 - لهذا نتساءل إن كان التخصص السياسي للنهضة قد مَيَّز بين العقل السياسي والفعل السياسي؟ وهل اعتبر أن الأول بما يطلبه من فكر ورؤية وحراك وخيارات ينقل الثاني من الاعتباط والممارسة العفوية إلى مجال النظر والعقل والعلم؟ مؤدى هذا أننا حين استعملنا «دقيق الكلام»، ذلك التعبير التراثي، للدلالة على ما يُستفاد من حوارنا مع الأستاذ راشد فإنّنا نريد أن نتبيّن هل يتوفر اليوم «جليل الكلام» لدى رموز نهضوية فيما يميِّز تحركٍهم وما تختص به مواقفهم؟ هل يعتبرون إقامة الدولة أو حفظها هو من قطاع «العمل» والممارسة فحسب أم أنها تستلزم تأسيسا بـ«النظر» والفكر والمبادئ المحددة؟ هل لديهم قول في العقل السياسي الذي على النهضة أن تمتلك ناصيته في وجهتها الجديدة وفيما يستدعيه من قراءة للتاريخ وتحليل للواقع الدولي والمحلي؟

4 - من هذا يبرز سؤالان يُجَلِّيان إشكالية التخصص طرحناهما في حديثنا الاستكشافي مع من قدّرنا أنه، من قياديي النهضة، ويمكنه إنارة الرأي العام الوطني والعربي برؤية تحليلية لقضية «التوافق»: ما هو مفهومه له؟ وماذا يمكن أن تستفيده الدولة والمجتمع من هذا الخيار التوافقي؟

بادر المهندس عبد الحميد الجلاصي الذي صار ينشر ويتحرك باعتباره ناشطا سياسيا أنّ التوافق من مقتضى قبول التعدد وتجميع الكفاءات وأنّه أداةٌٌ لمواجهة إكراهات السياسة ومضايقها خاصة في المرحلة الانتقالية. أضاف أنّ النهضة اعتنت بالموضوع قبل الثورة بسنوات وعبّرت بوضوح  عن ذلك خاصة في بيان الذكرى الخامسة والعشرين الصادر في 8 جوان 2006 عند تحديد منهجها السياسي. بعد الثورة احتدم جدال بين المقتنعين بالتوافق ومقتضاه الفكري والسياسي وبين القائلين بالمغالبة ومراعاة موازين القوى التي أسفرت عنها انتخابات 2011. في صيف 2013 وبمفعول اعتصام الرحيل والانقلاب في مصر انقلبت، حسب الجلاصي، المواقف فصار القائلون بالمغالبة والتشبث بالشرعية أنصارا للتوافق ومنافحين عنه. هكذا غدت النهضةُ، وهي الطرف السياسي المحمول عليه أكثر من غيره مسؤولية التوافق وما يستدعيه من معالجات إصلاحية للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، غدت حركةًً توافقية بالإكراه أكثر من كونها قناعةً مؤسَّسَةٍ فكريا واجتماعيا. ما يخلص إليه محاورنا هو انخراط النهضة في توافق عقيم هو أقرب إلى التحالف وأنه على أيّ حال لن يُمكِّن الحركة ومن ثم البلاد من تغيير نوعي في المشهد السياسي الحزبي. حصيلة تحليل قضية التوافق السياسي أفضت بالقيادي النهضوي إلى تساؤل مرير عن واقع النهضة ومستقبلها: هل هي حزب له مشروع وبرنامج وزعيم أم هو العكس: زعيم له حركة؟

5 - لم يختلف جواب النائب عبد اللطيف المكي بخصوص التوافق عن عموم رؤية زميله فيما تثيره القضية من جدل داخلي حادّ وصادم. مع ذلك حرص على تأكيد أنّه لا خلاف داخل النهضة في ضرورة التوافق باعتباره خيارا مبدئيا وأداة عمل بين المجموعات المختلفة المشترِكة فيه إلا أنّ الإشكال كامن في إدارته. يتعلق السؤال المؤرق بكيفية هذه الإدارة وهل تكون بين أفراد أم بين مؤسسات الأحزاب المنخرطة فيه؟ وهل يتبع التوافق بوصلةً اجتماعية تنموية أم أنه يقتصر على توافق نخبوي لاعتبارات سياسية ظرفية؟

صميم التوافق، حسب النائب المكي، في المساواة بين المشاركين فيه وفي حق الاعتراض (الفيتو) لكل طرف وفي أن مردوديته السياسية على أهميتها بالنسبة إلى المواعيد الدستورية وتركيز الحكم المحلي والهيآت التعديلية وقطاع الإعلام فإنّها لا ترقى لمردوديته الاقتصادية الاجتماعية وقدرتها على توفير السلم الاجتماعي.

أمران هامّان لا يفوت القيادي النهضوي أن ينبّه إليهما يتعلق أولهما بـ «النظام الرئاسي» الداخلي للنهضة. المشكلة في هذا «النظام» أنه، حسب تقديره، مسلك قيادي عاجز عن تَعْبِئَة الذكاء الجماعي للحركة ومن ثم صار عائقا للتوافق الأنسب وللحلول الأنجع.

مصدر الضعف الثاني لمبادرة النهضة التوافقية أنّها تعمل دون سند فكري ثقافي خاص. هي بذلك حسب النائب المكي، خلافا لنظرائها في المجال الوطني، في عَراءٍ أفقدها زخما ثقافيا وفكـريا تستطيـــع أن تغـــادر به المـــواقع الدفــاعية لتوافق عاجز عن التميّز.

6 - ثالث المحاورين في قضية التوافق كان القياديُّ لطفي زيتون. اختلف حواره، كما توقّعنا من المستشار السياسي لرئيس النهضة، عن السابقَيْن في حفريته العلاجية لقضية التوافق متجاوزا الأفق الحركي التنظيمي للنهضة وناقدا له بقوة. صميم رؤيته للتوافق السياسي تتحدّد في رباعية: المعطى المنهجي وفي تقييم حصاد التنظيمات الإسلامية العربية وفي معنى التوافق السياسي ضمن تمثل لطبيعة الدولة وفيما تعنيه الثورة بالنسبة إلى النخب السياسية. 

تتركز المعطيات الأربعة في ضرورة التخلي عن المقاربة المثالية للشأن السياسي التي أودت بجهود مناضلين وقياديين إسلاميين في وهم القدرة على مغالبة الدولة واستتباعها وفي الشروط المتعذر تحققها فيما تسعى لإقامته من انتظام سياسي. في مستوى ثان لا مفرّ من الوعي بحجم الانهيار الذي انتهت إليه تجارب الحركات الإسلامية العربية منذ «ثورة الإنقاذ» السودانية في الثمانينات وما أدت إليه من أخطاء قاتلة مرورا بما جرى في الجزائر وتونس في التسعينات وصولا إلى ما حصل في مصر باعتلاء الإخوان سدّة الحكم وما انجرّ عن ذلك من دمار. على هذين المعطيين تتأسّس السياسات التوافقية التي انخرطت فيها النهضة لمغادرة موقع التصادم مع الدولة الناشئ عن شمولية البديل وانغلاق الفكر الذي يعتقد أن شرعية الحركات تُستمدّ من داخلها لكونها ترى في نفسها البديل عن الدولة والمجتمع.

على هذا يُضحي التوافق، وفق المستشار زيتون، أبعد ما يكون عن التكتيك الذي اقتضته الضرورة وموازين القوى ليكون تأسيسا لنمط جديد من علاقة الإسلاميين بالدولة في فهم طبيعتها ومقتضياتها.

التوافق بذلك هو خروج النهضويين من موقع الهامشيين الذين يريدون تقويض الدولة إلى موقع قوّة رئيسية عادية تعمل للمشاركة في إعادة بناء الدولة بالانخراط في الصراع السياسي المدني.

7 - بربط مضمون المحاورين الثلاثة بإجابات رئيس النهضة يتبيّن أنّه يعتمل داخل النهضة اليوم مخاض صعب لكنه واعد. هو كذلك نتيجة ما تواجهه الحركة من تحدّيات متنوّعة ومصاعب مركّبة مع ما تتطلبه من إصلاحات نوعية. لكنه واعد بفضل الكفاءات وخبرة التجربة التي يمكن أن تفضي إلى حزب توافقي ممتلك لوعي جديد متمثّل لدينميكيات المرحلة وأوليات السياق. خارج هذا التغيير تتوفّر سبل أخرى يعسر عليها مقاومة الاندثار.

السؤال المطروح عن هذه التحولات «المكتومة» والمحتومة هو أنّها كيف ستُحسم ومتى؟ وهل سيُسهم الأب المؤسس في تيسير المرور بها إلى المرحلة الجديدة بإيلاف عناصر قوّتها المتشربة لمستلزمات التوافق والتعدد؟

احميده النيفر

رئيس رابطة تونس للثقافة والتعدّد

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.