أخبار - 2017.11.15

أيّام قرطاج السينمائية 2017 العودة إلى الثوابت والأصول

أيّام قرطاج  السينمائية 2017 العودة إلى الثوابت والأصول

على الرغم من مرور خمسة عقود من الزمن على تأسيسه (1966)، لا يزال مهرجان أيام قرطاج السينمائية يحتل مكانة بارزة لدى الجمهور ولدى النقاد والمثقفين والفنانين وبعض الجهات الفاعلة في المجال العام في العالمين العربي والإفريقي بالإضافة إلى بعض الأوساط الثقافية الأوروبية.

وقد شهد هذا المهرجان خلال السنوات الأخيرة تراجعا واضحــا على الصعيـدين التنظيمي واللوجستي وضعف جودة بعض الأفلام المنتقاة، إضافة إلى العديد من المشاكل الاتصالية والتقنية، أدّت إلى الزج بهذا المهرجان في حلقة مفرغة من الرتابة المملّة والمألوف المقرف.

على الرغم مـن الظـروف المادية والتنظيمية التي أصبحت أكثر تعقيدا بعـد الثورة، لم تنقطع برمجة أيام قرطاج السينمائية التي أقيمت دورتها الثامنة والعشرين من 4 إلى 11نوفمبر 2017 تحت إدارة المنتج السينمائي نجيب عياد وقد أرادها أن تكون دورة استثنائية من خلال رفع شعار “العودة إلى الثوابت والمبادئ التأسيسية” الذي قام من أجلها المهرجان والداعية بالأساس إلى تعزيز دور السينما باعتبارها فنّا يحمل رسالة اجتماعية وإنسانية تخاطب جميع الشعوب، على اختلاف أعراقهم ولغاتهم وبلدانهم، وليس فقط وسيلة عابرة للترفيه  والتسلية، علاوة على دعم السينما العربية والإفريقية بصفة خاصّة.

في الواقع، لا توجد توصية أو توجيهات خاصّة تحدد المعايير الجمالية لهذه الأيام السينمائية على عكس ما هو معمول به في المهرجانات السينمائية العالمية، كمهرجانات كان وبرلين والبندقية…حيث قامت هذه التظاهرة، منذ تأسيسها على يد المرحوم الطاهر شريعة، بالترويج إلى سينما المؤلف العربية والإفريقية من خلال دعم الفن الملتزم الهادف، وسينما المقاومة الناقدة والساخرة عبر أنواع مختلفة من الأفلام: الروائية والوثائقية والتجريبية. ولئن حاد هذا المهرجان عن أهدافه في السنوات الأخيرة، ليزيد ذلك من تعميق أزمة الهوية السينمائية لهذه التظاهرة الثقافية، فإنّ دورته الثّامنة والعشرين  جاءت لتعلن العودة بأعرق المهرجانات العربية والإفريقية إلى ثوابت التأسيس من خلال برمجة ثرية ومتنوعة أعطت الأولوية المطلقة للإبداع وأعادت النفس النضالي للمهرجان.

ومن اللافت للنظر خلال هذه الدورة عدد الأفلام المشاركة حيث بلغ 180 فيلما على اختلاف أنواعها، وقع الاختيار فقط على 51 منها لتتنافس فيما بينها في المسابقات الأربع الرسمية، وتأتي تونس على رأس قائمة الأفلام المشاركة في جميع المسابقات بـ 78 فيلمًا لتسجّل بذلك رقما قياسيا ملحوظا مقارنة بالدورات السابقة. إلى جانب ذلك، سجّلنا عودة هذه التظاهرة الثقافية إلى فضاءيها الطبيعيين ونعنى بذلك «أم القاعات» قاعة الكوليزي بالعاصمة التي احتضنت هذه السنة عرض الافتتاح بإمضاء الفيلم الفلسطيني «كتابة على الثلج» للمخرج رشيد مشهراوي، والمسرح البلدي بالعاصمة الذي احتضن حفل الاختتام.

وعلى صعيد آخر، فقد تمّت مضاعفة قيمة الجوائز الماليّة المسندة في كل المسابقات الرسمية، كما شهدت هذه الدورة عودة المسابقة الرسميّة للأفلام الوثائقية، إضافة إلى تأسيس مهرجانات جهوية سينمائية، تنظّم بالتناوب في كل دورة، شملت هذه السنة كلّا من القيروان والمنستير ومنزل بورقيبة وجربة. كما تمّ أيضا تركيز ورشات عمل لمناقشة الأفلام بفضاء «نجمة الشمال» حيث التقى عدد كبير من هواة وطلبة معاهد السينما والفنون الجميلة بصانعي الأفلام والمخرجين.

ما استرعى الانتباه خلال هذه الدورة هو أنّ اغلب الأفلام التي عُرضت كانت لها رؤية فنية مختلفة باعتمادها على أشكال تعبيرية غير مألوفة طُرحت من خلاها أسئلة مغايرة بشأن العديد من قضايا الساعة، وقع تناولها من زوايا فنية وجمالية وتقنية جديدة ومبتكرة. وقد لمسنا ذلك بالخصوص في فيلم «قضية رقم 23» للمخرج اللبناني الفرنسي زياد دويري الذي يفتح نافذة للإطلالة على صراع مسكوت عنه في لبنان بين مسيحيي هذا البلد واللاجئين الفلسطينيين المقيمين به من خلال مقاربة بسيطة ومثيرة للجدل في نفس الوقت معتمدا في ذلك على لغة سينمائية جميلة ومتماسكة.

كما تجلّى التجديد في الرؤية الفنية في الفيلم الموزمبيقي المتميّز «قطار الملح والسكر» للمخرج ليسينيو أزيفيدو، الذي يقدّم صورة واقعيّة وصادقة لفترة حالكة من تاريخ بلاده، زمن الحرب الأهلية، حين كان يغامر عدد كبير من الأهالي بالهروب من واقعهم المرير اإلى البلد المجاور بالتسلل خلسة عبر عربات قطار شحن الملح والسكر في رحلة محفوفة بالمخاطر والمصاعب. ورغم أنّ الفيلم إنتاج مشترك بين خمسة بلدان أوروبية إلا أنه حافظ على هويته الإفريقية والتزم بأسلوب سردي مباشر للأحداث بالاعتماد على رؤية فنية جمعت بين الطابعين الروائي والوثائقي. بالإضافة إلى ذلك  نشير إلى الفيلم التونسي المثير للجدل «على كفّ عفريت» للمخرجة كوثر بن هنية الذي يروي حادثة حقيقية هزّت البلاد خلال سنة 2012 بعد تعرّض شابة للاغتصاب من قبل رجال أمن وردود الفعل المتباينة التي أثارتها هذه القضية. وقد اختارت مخرجة العمل تقسيم الفيلم إلى تسعة مشاهد مسترسلة طويلة ومتسلسلة تمّ تصويرها بطريقة سلسة، حيث ركّزت الكاميرا على أداء الممثلين الذين تمّت إدارتهم بشكل جيد تحت إضاءة خافتة ممزوجة بألوان باردة زادت من جوّ التوتر والقلق الذي هيمن على الفيلم. ومن بين الأفلام الجيّدة الأخرى نذكر مطر حمص (سوريا) وشيخ جاكسون (مصر) والمُربع (السويد) وعرق الشتاء (المغرب) وفي ليستي السّينغال...

يمكن القول إنّ هذه الدورة نجحت، إلى حدّ ما، في الاهتمام بالجوهر أكثر من المظهر ويعتبر هذا انتصارا للسينما غير المألوفة التي تعتمد على إيقاع شاعري لسرد الأحداث مع تغليب النزعة الفنية والجمالية على حساب الكليشيهات والقوالب النمطية للسينما التجارية. وبغض النظر عن قائمة الأفلام المتوجة، تبقى الجودة الفنية العالية لبعض الأفلام المعروضة العلامة المضيئة خلال هذه الدورة التي سعت إلى تقديم تجربة مختلفة لبعض المخرجين الشبان مادتها الواقع، وذلك من خلال أعمال جديدة ومختلفة على مستوى الطرح والمزج بين الأجناس الفيلمية، إضافة إلى الاعتماد على الارتجال والتركيز على جودة الأداء سواء من ممثلين محترفين أو غير محترفين. فهل تكون هذه الدورة منعطفا مهمّا في تاريخ هذا المهرجان يزيد في تعميق هويته وتفرّده بين بقية المهرجانات السينمائية العالمية والعربية خاصة؟

محمّد ناظم الوسلاتي

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.