نشأة الفنّ التّشكيلي الغربي بتونس: الخلفية الـسّيـاسـية والمضامين الإيديولـوجيّة
ظهر الفنّ التّشكيلي ذو الأصول الجمالية الغربيّة بتونس خلال القرن التّاسع عشر مع الصّور الشّخصيّة التي كان يرسمها فنّانون أوروبيون للبايات ورجال دولتهم، في سياق تأثّر هؤلاء ومن دار في فلكهم من الطّبقة الميسورة، بأنماط تفكير وسلوك وعادات معيشيّة أوروبيّة. ثم ظهرت ممارسات أخرى لذلك الفنّ في أوساط المستوطنين الأجانب بعد فرض الحماية الفرنسيّة على البلاد التّونسيّة سنة 1881، حيث أقيم أوّل معرض فنيّ تحت اسم «الصّالون التونسي» في العام 1894، بإشراف رسميّ من سلطات الحماية. وقد جاء ثمرةً لجهود أعضاء القسم الفنّي بأكاديميّة «معهد قرطاج» التي تأسّست كواجهة ثقافيّة للحضور الاستعماري.
نظرا لظهور الفنّ الغربي في تلك المرحلة المفصليّة من التاريخ التّونسي وتأثيره اللاّحق في الممارسة الفنّيّة للتّونسيين، رأيت من المفيد ذكر الظّروف التي حفّت بتنظيم أوّل تظاهرة له والإشارة إلى الأرضيّة الإيديولوجيّة والسّياسيّة التي ارتكز عليها والأهداف المباشرة التي رسمت له. وكان تنظيم «الصّالون التونسي» قد استمر سنويّا إلى ما بعد الاستقلال، حتّى آخر دورة له سنة 1984. ولئن شكلت تلك التّظاهرة المنطلق والإطار لتجارب أغلب الفنّانين التونسيين، إلاّ أنّ عددا منهم حاول البحث، طوال تلك الفترة عن هويّة فنيّة متصالحة مع ثقافتهم الأصليّة، تبتعد إن قليلا أو كثيرا عن المنطلقات الإيديولوجيّة والأسلوبيّة التي تأسّس عليها «الصّالون» في دوراته الأولى.
الصّالون التّونسي الأوّل
افتُتِحَ «الصّالون التّونسي» يوم 11 ماي 1894 في مقرّ الجمعيّة العمّالية المالطية بنهج اليونان، وحضر الافتتاح شارل روفييه Charles Rouvier المقيم العام الفرنسي وممثّلون عن بلاط الباي. وقد أعتبر الملاحظون والصّحافة آنذاك تلك التّظاهرة حدثا ثقافيّا عظيما في حياة المستوطنين الفرنسيين يُرجى منه تعزيز الحضور الاستعماريّ ومساعدته في مهمّة نشر القيم الفرنسيّة على أرض طالما عانت ـــ حسب زعمهم ـــ من الجدب الحضاريّ.
اشتمل المعرض على خليط من لوحات بعضها لفنّانين من فرنسا وأخرى لفنّانين من الجاليات الأوروبيّة المحلّية، منهم ب. بريدي (P. Bridet)، عضو قسم الآداب والفنون بـ»معهد قرطاج» والنّحّات تيودور ريفيير (Théodore Rivière) وبول بروست (Paul Proust) وجونيفييف غريغوار (Geneviève Grégoire) وغيرهم كما ضمّ لوحات أعارها خواص من بيوتهم لتعزيز محتوياته. وخُصّص القسم الأكبر منه لأعمال رسّام ونحّات فرنسيّ زائر، يدعى Louis Chalon لوي شالون (1866ــــ1940) ، ينتمي إلى الاتّجاهات الفنيّة المحافظة التي كانت لا تزال تحتضنها وتدعمها المؤسّسات الفرنسيّة الرّسميّة مثل «الصّالون الفرنسي» و«مدرسة الفنون الجميلة»، رغم مرور أكثر من عقدين على انتصار الاتّجاهات الفنّية المجدّدة في باريس مثل الانطباعيّة والرّمزية وما بعد الانطباعيّة.
لوي شالون فنّان ينظر صوب الماضي
تميّزت أعمال لوي شالون بأسلوبها الأكاديميّ واجترارها للمواضيع الأسطوريّة والأدبيّة والتّاريخيّة التي كانت ســـائدة في التيّارين الكلاسيكي المحدث والرّومنطيقي. وقد عرض من تلك الأعمال لوحة عنــوانها «سيـــرسي» (Circé)، السّاحرة التي حاولت الإيقاع بالبطل اليوناني أوديسيوس خلال رحلة عودته إلى بلاده بعد حـــرب طــروادة، حسب ملحمة الأوديسة لهوميروس)، ولوحة أخرى تمثّل آشوربانيبال (Sardanapale)، الملك الذي حـــكــم آشـــور ما بين 627 و 669 ق. م.).وثالثةً تمثّل «سالومي» (Salomé)، الأميرة التي رقصـت، حســب الأنـاجيل، أمام ملك اليهود هيرودس أنتيباس وطلبت منه قتل يوحنّا المعمدان فأجابها إلى ذلك). ويُلاحَظ في أغلب أعمال شالون المعروضة تشبّثا بالأسس الجماليّة الاستشراقيّة والتواضعات الأسلوبيّة القديمة التي جرفتها ثورة الفنّ الحديث بفرنسا قبل نحو ثلاثة عقود، ممّا يعكس الذّهنيّة المحافظة للمنظّمين الذين دعوه للمشاركة في المعرض.
الخلفيّة السّياسيّة للصّالون التّونسي
احتفت النخبة المثقّفة بـ»الصّالون التّونسي» كحدث استثنائي، ورأت فيه لبنة جديدة تُضافُ، بعد مرور ثلاث عشرة سنة من انتصاب الحماية الفرنسيّة، إلى المشروع الاستعماري، تثبيتا لقيمه الثقافيّة في البيئة التّونسيّة وخدمةً للأهداف القريبة والبعيدة التي رسمها لاستكمال تملّك الأرض ونهب خيراتها ومسح الهويّة التّاريخيّة والحضاريّة لأهلها؛ وكانت الفترة السّابقة لظهور «الصّالون» قد مضت في توطيد السّلطة الجديدة من خلال التّنظيمات الإداريّة وتمهيد السّبيل للمعمّرين الفرنسيين والأوروبيين بمقتضى قانون الصّادر سنة 1885 الذي أسّس لِعمليّة سطو واسعة على الأراضي التّونسيّة. وقد رافقت تلك التّنظيمات مشاريع ذات هدف تبشيري خطّط لها الكاردينال لافيجيري (Lavigerie) وفشل في تطبيقها في تونس كما فشل في الجزائر، بهدف إحياء كنيسة إفريقيا القديمة.
وعندما أنشئ الصّالون التّونسيّ سنة 1894، اعتُبِرَ تكملةً للمشروع الاستعماري في بعده الثّقافي من حيث كونه حافزا للفنّانين الفرنسيين على القدوم إلى تونس والمساهمة في ذلك المشروع. وفي هذا السّياق يقول أستاذ الفلسفة أوغيست بافي، Auguste Pavy، عضو معهد قرطاج، في كلمة ألقاها أمام المقيم العام بمناسبة تدشين الصّالون الخامس، سنة 1898: «هل أكشف لكم عن خفايا خواطرنا وعميق طموحاتنا؟ إنّ أملنا هو أن تصبح تونس المركز الحقيقي للفنّ الشّرقي، وأن نجعل شيئا فشيئا من هذا الصّالون التّونسي مكان لقاء ضروري لكلّ ما يدعو في الفنّ إلى الاستشراق».
علاقة الاستشراق بالإيـديـولوجيّة الاستعماريّة
سيـطر تيــّار الاستشـــراق الفنّي (L’orientalisme artistique) على تظاهرات الصّالون السّنويّة حتّى الحرب العالميّة الأولى وبدا متماهيا مع المدّ الاستعماريّ في العالم، بما يحمله من دوافعَ نفسيّة ورغبةٍ في استكشاف مناخات قصيّة وغريبة ومن نزوع إلى رسم صور نمطيّة وسطحيّة للشّعوب الـمُهَيْمَنِ عليها بل وإلى نظرة ازدراء لها وانتقاص لتراثها العريق. غير أنّ احتضان ذلك التيّار في تونس ومحاولة إحيائه في الفنون والآداب لم يكن بوسعه تلميع صورة الاستعمار، إذ كانت مفاهيم الاستشراق ومنجزاته آخذة في الذبول والتّراجع بفرنسا أمام انتشار ممارسات إبداعية جديدة. ومجمل القول إنّ الثّقافة السّائدة في الأوساط الاستعماريّة بتونس ظلّت إلى ما بعد الحرب العالميّة الأولى في عزلة مزدوجة عن المجتمع التّونسي المسلم من جهة ومن جهة أخرى عن الثّورات الفكريّة والأدبيّة والفنيّة في فرنسا وفي أوروبا على وجه العموم.
بعد أفول نجم الاستشراق الفنّي بفرنسا لجأ أتباعه إلى المستعمرات، وعملت سلطة الحماية بتونس على توظيفه في مشروعها الثّقافي ونظّمت له التّظاهرات مثل الصّالون التّونسي الرّابع سنة 1897، الذي ضمّ أعمالا لأعضاء «جمعيّة الفنّانين المستشرقين الفرنسيين» بقيادة ليونس بينيديت (Léonce Bénédite)، محافظ متحف اللّوكسمبورغ بباريس، وجمع فنّانين من فرنسا إضافة إلى بعض المستوطنين الفرنسيين من الجزائر. وظلّ الاستشراق موضة فنيّة في الصّالون التّونسيّ وخارجه إلى ما بعد الحرب العالميّة الأولى حيث ظهرت في السّاحة الفنيّة المحليّة بعض التيّارات التّجديدية الواردة من أوروبا.
موقف الثقافة الاستعمارية من الحضارة العربيّة الإسلاميّة
تنسجم مواضيع الاستشراق الأدبيّة والفنيّة في تلك الفترة مع نظرة الاستنقاص التي يحملها الفكر الاستعماري عن المجتمع «الأهلي» (La société indigène) باحتقار تاريخها الحضاريّ وتشويهه، فتراه يلحّ على اعتبار الحضارة العربيّة الإسلاميّة ظاهرة متخلّفة ويرى في العناية بتاريخ إفريقيّة القديم إحياءً رمزيّا لأمجاد أرض عريقة في المسيحيّة، عانت على مدى قرون من همجيّة العرب والمسلمين.
وتساوقا مع تلك النّظرة كانت أكاديميّة «معهد قرطاج» تولي كلَّ العناية للآثار القديمة البونيقيّة والرّومانية دون الالتفات إلى الآثار الإسلاميّة، واقتصرت عنايتها بالتّراث الثّقافي التّونسي على بعض المظاهر الفولكلوريّة المحلّيّة كالصّناعات الحِرَفيّة والعادات والتّقاليد الشّعبيّة، بهدف إكساب المحميّة الفرنسيّة الجديدة خصوصيّة ثقافيّة مصطنعة تتباهى بها أمام السّلطة المركزيّة بفرنسا وتميّزها إلى حدّ ما عن ثقافة الوطن الأمّ.
وليس أدلّ على تلك النّظرة الدّونيّة ممّا جاء في بعض الكتابات الصّحفيّة عن «الصّالون التّونسي» الأوّل، من تثمين للبادرة كحافز لإيقاظ الإيالة من سباتها الحضاريّ المزعوم، حيث كتب المسمّى «غوان» المحامي في إحدى الصّحف معلّقا عن الحدث بلهجة عنصريّة: «هذه الأرض العقيم منذ قرون والتي يبدو كأنّما كُتِبَ عليها أن تحيا أبدا في إطار عمليّات تجاريّة بدائيّة وأن تبقى محدودة الآفاق تحت تأثير المفاهيم الضيّقة للذّهنيّة السّاميّة (التّجارة والعمولات)، هذه الأرض تستفيق فجأة تحت التّأثير المخصب للعبقريّة الآريّة الخالصة (كذا) الآتيّة من فرنسا».
نظرة الاستشراق الفنّي إلى الإنسان »الأهلي«
صنع الاستعمار السّياسي والثّقافي صورة ثابتة للإنسان التّونسي «الأهلي»، يجتمع فيها الكسل والعجز والكذب والمخاتلة. ولنا مثال على ذلك في ما زخرت به حملات رأس التّيار الاستعماري الرّجعي دي كارنيير (V. De Carnières) على التّونسيين، من خلال جريدته «تونس الفرنسيّة» (La Tunisie Française) في بداية القرن الماضي. غير أنّ المهمّ في موضوعنا الإشارة إلى النّماذج النّمطيّة التي رسمها الفنّ الاستشراقي بتواتر لافت للإنسان في المجتمع المسلم بتونس أو في غيرها. فهو، وإن أسبغ على تلك النّماذج أحيانا ملامح نبل ظاهري يذكّر بانبهار المستشرقين الأوائل بشاعريّة الشّرق، إلّا أنّه كان يركّز بإلحاح على مظاهر الانهيار المادّي والمعنوي لذلك الإنسان من خلال لوحات ترسم المتسوّلين والعميان والفقراء، كما نراه يغرق في الاستيهامات الجنسيّة برسم المرأة الشّرقيّة الشّهوانيّة في خدرها أو في بيوت الدّعارة. وفي أغلب الحالات يبدو الإنسان «الأهلي» نموذجا عامّا فاقدا للخصوصيّة فهو: «السّقّاء» أو بائع الفطائر» أو «البدويّة»، دون ملامح ذاتيّة مميّزة.ونجد آثارًا لتلك النّماذج في المنحوتات والبطاقات البريديّة وفي القصائد الشّعريّة، بحيث تشكّل رؤية عامّة مميّزة للاستشراق في مرحلته الاستعماريّة.
يضيق المجال، هنا، دون التوسّـع في ذكــر الكمّ الكبير للأمثلة على ازدراء الثّقافة الأصيلة للمجتمع التّونسي؛ والثّابت أنّ الرّسّامين التونسيين لم يكن لهم حضور يذكر في «الصّالون» منذ تأسيسه إلى الحرب العالميّة الأولى، ما عدا مشاركات بسيطة من عبد الوهّاب الجيلاني (شهر عبدول) سنة 1912 بأعمال مقلّدة في مواضيعها وتقنياتها لأساتذته الفرنسيين ومنهم إيميل بنشار (Emile Pinchart). وظلّ الوضع كذلك حتّى ظهور جيل جديد من التّونسيين دأبوا على المشاركة في «الصّالون» بعد الحرب العالميّة الأولى أمثال يحي التّركي وعلي بن سالم، إلاّ أنّهم حاولوا التّخلّص إلى حدّ ما من تواضعات الفنّ الغربي ومواضيع الاستشراق، باحثين عن سمات في الأسلوب والمواضيع تربطهم ببيئتهم الأصليّة.
علي اللواتي
- اكتب تعليق
- تعليق