أخبار - 2017.10.20

مباشرة من الموصل: ما بعد التّحرير المدينة الجريحة تستعيد عافيتها تدريجيّا

مباشرة من الموصل: ما بعد التّحرير المدينة الجريحة تستعيد عافيتها تدريجيّا

طابور طويل من الناس أمام مكتب صغير في أرض جرداء على حافة الطريق في منطقة تدعى بازقرتان في محور الخازر (37 كلم عن الموصل). رجال من مختلف الأعمار والقوميات، تبدو على وجوههم علامات التعب من طول الوقوف وحرارة شمس الصيف، بعضهم قادمون من أربيل وآخرون من مناطق أخرى من الإقليم يرغبون في الحصول على إذن للتوجه إلى الموصل، وقد بدأت تدبّ فيها الحياة شيئا فشيئا. قسم منهم تجار، والقسم الآخر مجرد زائرين يريدون الالتقاء أخيرا بأقربائهم الذين لم يروهم منذ ثلاث سنوات. تتناثر من هنا وهناك سيارات عدّة يحاول سوّاقها التوقف للتوجه نحو هذا المكتب قبل عبور نقطة تفتيش البشمركة. بعض الأطفال الآتين من مخيم الخازر القريب يحاولون كسب رزقهم من بيع قوارير الماء البارد للواقفين في الطابور وقد أحرقتهم شمس شهر أوت وأنهكت قواهم. شرطي ينتقل بين السيارات للتأكد من الموجودين فيها قبل أن يختم إذن الدخول.

جلبة في المكان الذي تلفّه غيمة من الغبار وحركة لا تتوقّف كامل اليوم. أخيرا أصبح من الممكن زيارة ثاني أكبر مدينة في العراق وعاصمتها الاقتصادية بعد ثلاث سنوات من احتلال داعش لها!

تتجاوز السيارة حاجز البشمركة تليه حواجز أخرى للجيش العراقي وللحشد الشعبي لتذكّرنا بكل القوى العسكرية التي شاركت في تحرير سهل نينوى و مدينة الموصل. على طول الطريق تتناثر القرى المهجورة التي لم تسترجع بعد سكانها. بيوت فارغة وقد تدمّر جزء منها أو تدمّرت كليا. آثار حرائق على الجدران من أثر القصف، بقايا سيارات محترقة. ماكينة الحرب مرّت من هنا!

تتجاوز السيارة شيئا فشيئا القرى المسيحية ثمّ القرى الشبكية (التي يسكنها الشبك) في سهل نينوى لتصل إلى مشارف الموصل حيث يعترضنا سورها الآشوري الذي لم يدمّره داعش لحسن الحظ! تترائ الملامح الأولى للمدينة، مجموعة كبيرة من محلات الميكانيك على الجهتين، سيارات قديمة، وكأنك في ورشة ميكانيك ضخمة بدون سقف! لهذا المكان رمزية خصوصية إذ أنّ تنظيم القاعدة عندما سيطر على الموصل ما بعد 2003، بدأ بتهديد العاملين في هذه المحلات وتصفيتهم لإجبارهم على تركها لأنّه كان يستعملها لإعداد السيارات المفخخة التي من خلالها يقوم بعملياته الإرهابية. بعد تجاوز محلات الميكانيك، تتجلّى للزائر البنايات الأولى والأحياء في الساحل الأيسر للموصل. لا يبدو أن الدمار قد شملها فبالكاد أضرّ بها القصف. ولا يرى الناظر إلا بعض آثار الرصاص التي حُفرت في جدران بعض البيوت. فالساحل الأيسر للمدينة لم يتضرّر كثيرا من الحرب لأنّ مقاتلي داعش سرعان ماعبروا نهر دجلة عند دخول القوات العراقية ليحتموا بجدران المدينة القديمة المتشعبة في الساحل الأيمن حيث تصعُب ملاحقتهم.

تتوغّل السيارة أكثر في عمق المدينة، المحلات مفتوحة، الأسواق مكتضة بالباعة يبيعون الخضار والغلال والإقبال عليهم كبير، المقاهي والمطاعم تشهد حركية لا تتوقف والشوارع تمتلأ بالسيارات. إيقاع الحياة يبدو سريعا في مدينة يشتغل أغلب أهلها في التجارة.

قصص مؤلمة تحتاج أن تُروى

عبثا أبحث عن آثار داعش، عن راياته، أو كتاباته، أو أي شيء يدلّ على احتلاله للموصل، ولكن لاشيء! لقد مسح أهلها آثاره بالكامل وكأنهم يريدون إخفاء عار لوّثهم! ولكنك حين تسألهم يهمسون لك أنّ هذا المكان كان مقر «الحسبة» وهذه البناية كانت مقرهم أثناء معركة التحرير. كبيرة هي رغبتهم في تجاوز ما عاشوه خلال ثلاث سنوات من الاحتلال واستئناف حياة عادية ولكن أكبر منها حاجتهم إلى الحديث عن مآسيهم وكيف تحرّروا من التنظيم. كل واحد التقيته هناك روى لي مأساة عاشها، كزينب، الأرملة ذات الخمسة وعشرين عاما ،التي حجزها أحد مقاتلي داعش الشيشانيين في بيت، مع أطفالها الأربعة لمدة ثلاثة أيام دون طعام أو شراب. «عبثا حاولت إقناعه بأن يتركني أرحل أو أن يعطيني طعاما لأطفالي وكان أحدهم رضيعا ولكنه رفض بشدة وضربني على رأسي بأسفل سلاحه حتى أغمي عليّ!». ولم ينقذها من قبضته سوى قصف طيران التحالف للبيت المجاور، فاستغلت فرصة انشغال المقاتل لتهرب مع عائلتها.

قصة أخرى مؤلمة رواها لي أهل الموصل وظلوا يتناقلونها طويلا عن رجل ضرب قصف الطيران بيته حينما كان يهمّ بالهروب مع زوجته وولديه، فأصاب هذه الأخيرة وتوفيت. رجع الرجل مسرعا للبيت ودفنها ثم لفّ ولديه في بطانية وأخذهما مسرعا ولكن في الطريق أصابت رصاصة قناص أحدهما فمات. عاد الرجل من جديد إلى البيت ليدفنه على عجل بجانب زوجته ثم هرول مسرعا مع ابنه الباقي الذي كان ملفوفا في البطانية، وعندما أدرك مكان وجود الجيش العراقي وتخلص من خطر داعش، فتح البطانية ليكتشف أنه دفن الابن الحيّ وأخذ معه الابن الميت. بقي هذا الرجل مذهولا لأيام من هول ما عاشه ولم يستطع أن ينطق بكلمة...

مثل هذه القصص وغيرها تعدّ بالآلاف ولا يضجر راووها من إعادتها ولكن ما يريدونه اليوم هو النسيان وبدء حياة مغايرة. من أجل ذلك سارعوا برفع ركام البنايات وتنظيف الشوارع وإعادة فتحها كي يستعيدوا من جديد مدينتهم المسلوبة.

فرق تطوّعيّة لإعادة إعمار المدينة

مباشرة بعد التحرير، تكوّنت فرق تطوعيّة من شباب وشابات من الموصل عملت بمساعدة الجيش، على تنظيم حملات نظافة ومساعدة السكان في إبعاد الحطام وإعادة تهيئة منازلهم وبناء ما تدمّر من المدارس وصبغ الشوارع. ومن أهم ما قاموا به هو إعادة تأهيل جامعة الموصل وإنقاذ ما بقي من الكتب بعد أن دمّر القصف جزءا كبيرا من البناية وتسبب في حرق عدد كبير من الكتب. بفضل جهد هذه الفرق التطوعيّة، تم إنقاذ 40 ألف كتاب من جملة 130 ألف كتاب كانت موجودة في المكتبة. وللاحتفال بهذا الإنجاز نظم شباب الفرق التطوعيّة في شهر سبتمبر الماضي مهرجانا للقراءة عملوا خلاله على تحفيز سكان المدينة خاصّة من الشباب على المطالعة من خلال إهداء كتب لهم  وتنظيم  مسابقات في إلقاء الشعر والغناء.

ياسمين، فتاة في العشرين من عمرها، تطوعت في العديد من الفرق التطوعيّة وشاركت في عملية إنقاذ الكتب تقول: «نريد أن نساعد الشباب على التخلّص من الفكر الداعشي وإخراجهم من الجو البائس الذي عاشوا فيها تحت حكم داعش وأثناء عمليات التحرير». لذلك تعمل ياسمين مع أصدقائها على تنظيم دورات تكوينية لهؤلاء الشباب في الإعلام والتصوير والإسعافات الأولية والحلاقة، في محاولة لتعليمهم مهننا ممكن أن تساعدهم في كسب رزقهم وتجاوز آثار الحرب.

عن آلية بعث هذه الفرق، أخبرتنا ياسمين أنّه يتم استعمال وسائل التواصل الاجتماعي عبر خلق صفحات يتم من خلالها جمع المتطوعين. ومن بين هذه الصفحات هناك «فريق فجر الحدباء» وفريق طلبة جامعة الموصل» و»فريق لنا الحياة» وفريق عطاء بلا حدود» و»فريق شباب نينوى للتآخي» و»فريق أمل الحياة». ويتم من خلال هذه الصفحات تحديد النشاط الذي سينظم في هذا اليوم أو ذاك مثل جمع التبرعات لمساعدة الأرامل والأيتام أو تنظيف الشوارع أو استقبال النازحين.

تسلّط التنظيم

خلال جولتي في المدينة، تأخذني السيارة إلى حي الملايين، وهي منطقة زراعية تم تحويلها إلى منطقة سكنية بنيت فيها فيلات فخمة، هناك التقيت بنجاة وزوجها في بيتهم الذي استماتا في الحفاظ عليه حتى لا يقع في قبضة داعش. نجاة، تركمانية، في الثلاثينات من عمرها، تُدرّس الإنقليزية، رفضت ترك منزلها خلال حكم التنظيم الذي كان يترصدها ليستولي عليه. تقول: «وضع داعش يده على كل البيوت المحيطة بنا بعد أن تركها أهلها وكان مقاتلوه ينتظرون أن نقوم أنا وزوجي بنفس الشيء لكننا رفضنا وبقينا فيه حتى أيام القصف إلى أن جاء الجيش العراقي وحرّرنا». وتضيف: «عندما رأيت أول جندي عراقي لم أصدق عينيّ وظللت أبكي لمدة ساعات، فلمدة ثلاث سنوات لم أر من يمثّل الدولة العراقية!».

تتذكر نجاة كيف كان التنظيم يفرض على المدرّسات مناهج تعليمية خاصة به ويُلزمهن بارتداء اللباس الشرعي حتى أنّ إحدى زميلاتها تم تهديديها بالجلد لأنّ ثوبها ارتفع قليلا من الأسفل عندما كانت تهم بالنزول من السيارة واكتفى أعوان «الحسبة» بتغريمها.

آية، طالبة عشرينية، تعرضت هي أيضا إلى مضايقات من أعوان «الحسبة» حيث استوقفوها أكثر من مرة لنهرها لأنها لم تكن تضع الطبقة الثانية من النقاب على وجهها. عن هذه التجربة تروي: «عندما كنت أضعها لم أكن أرى شيئا وأتعثر في طريقي وكنت أخاف دائما من الوقوع!». وفي أحد المرات أرسلوها لتمثل أمام القاضي لأنّها «تجرّأت وركبت لوحدها في سيارة أجرة بدون محرم!»

السكان يستعيدون نمط حياتهم

رغم تسلّط التنظيم على السكان وتحكّمه في كل صغيرة وكبيرة في حياتهم، فإنّ أهل الموصل المعروفين بتمدنهم وعراقتهم حافظوا على نمط حياتهم ولم يستسلموا لهرسلة داعش. يقول أحمد، ناشط موصلي، «عندما دخلت القوات العراقية لتحرير المدينة توقعت أن تجد أناسا متوحشين لأننا عشنا تحت سيطرة التنظيم كل هذه المدة»، مضيفا: «ما أنقذنا من الاندماج مع التنظيم، هو أننا عشنا منغلقين على أنفسنا وكنا نتجنّب أيّ احتكاك مع عناصره».

وبالفعل، فما إن تمّ القضاء على داعش، حتى عاد أهل المدينة إلى نمط حياتهم الأول، يخرجون ويتسوقون ويذهبون إلى المطاعم والمقاهي مع عائلاتهم وحتى إلى المنتزهات. ففي منطقة الغابات على ضفاف دجلة والمعروفة بنواديها العائلية، تنتشر السيارات والعائلات التي جاءت لتغيير الجو والاستمتاع بأوقات طيبة على ضفاف النهر. الموصليّون يحبّون التّنزه بطبعهم ولهم حياة اجتماعية رغم كل المآسي والحروب التي مرت بها مدينتهم، كما أن تركيبة الموصل نفسها ليست تركيبة قبلية عشائرية على خلاف العديد من المدن العراقية الاخرى وإنما تقوم التركيبة الإجتماعية على العائلات التي تُنسب إلى المهن التي اشتهرت بها.

تشتهر الموصل أيضا بأكلها اللذيذ حيث يتفنّن سكانها في إعداد أصناف الطعام والحلويات وهم معروفون على مستوى كامل العراق.

لذلك لم أفاجأ كثيرا عندما دخلت إلى أحد المطاعم الموصلية ويدعى «بيت الطين» ووجدته مطعما فخما، ديكوره جميل، فيه تكييف، ويعج بالعائلات الموصلية التي جـاءت لتناول وجبة الغـــداء. لفت انتباهي المستوى الــــراقي للخدمة والتعــامل مــــع الحـــرفاء الذي ينمّ عن صنعة ودراية بمجال الخـــدمات. للموصليين ارتباط كبير بمدينتهم فمن رحل منها أثناء وقوعها في يد التنظيم، سارع اليوم إلى العودة إليها والإستقرر فيها من جديد، رغم أنّ جزءا كبيرا منها قد تدمّر. وكل يوم تقريبا تتوافد العائلات النازحة لتعود إلى مناطقها في محاولة لاستعادة بيوتها. كما أنّ هناك حركة أخرى للسكان تنشط بين ضفتي دجلة، فأهالي الساحل الأيمن حيث توجد المدينة القديمة التي تدمرت كليا، يعبرون يوميــا الجسـر الوحيد الذي صنعـــه الجيــش العراقي بعد أن تحطمت الجسور الخمسة للموصل، للوصول إلى الساحل الأيمن، هربا من الخراب وبحثا عن ظروف عيش أفضل.

عند مغادرة المدينة في آخر اليوم، بدأت كانّها وحش رابض جريح يلعق جروحه في انتظار أن يستعيد قوته من جديد. لكن لا أحد يعرف ماذا يخبئ المستقبل لهذه المدينة التي لا تنفك تُسيل لعاب الطامعين من تنظيم القاعدة إلى داعش ولا يُعرف من سيأتي بعدهم...

حنان زبيس

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.