أدب وفنون - 2017.10.04

المدرسة التّونسيّة في النّقد الأدبي: الموجود والمنشود

المدرسة التّونسيّة في النّقد الأدبي الموجود والمنشود

برحيل الدكتور محمد الباردي، فقدت السّاحة الثقافية والجامعية علما آخر صرف حياته كلّها للنقد الأدبي، فالمتأمّل في سيرة هذا الرجل الذي اقترن اسمه بملتقى الرّواية العربية في قابس ينتبه إلى أنّه كان يسير بإخلاص في درب الرّاحل توفيق بكّار، يقول الباردي: «عن طريق بكّار استقدمنا محمود أمين العالم ويمنى العيد وعبد الرحمان منيف ونبيل سليمان وثلّة من المنشغلين بالرّواية في تونس، عن طريقه عرفت قابس أثرى أيّامها الثّقافيّة إذ استقبلت أبرز الكتّاب العرب وتحوّلت إلى عاصمة ثقافيّة تستقطب المنشغلين بقضايا الأدب من مدن الجنوب».

يمكّننا هذا الشاهد من الوقوف على المشترك في تجربة ناقدين ينتميان إلى جيلين مختلفين، فقد جمعا بين الدّرس الأكاديمي والعمل الثقافي خارج إطار الجامعة، ولطالما كانت المسافة بعيدة بين البحث العلمي بضوابطه الأكاديمية والتّجارب الإبداعية النابضة بإيقاع لحظتها الجارية. ويتنزّل هذا التجاذب بين العالمين في صميم الجدل حول واقع النقد الأدبي في تونس ومجاله الحيوي، ففي ضوء المنجزات المعرفية للجامعة التونسية في حقل الآداب والعلوم الانسانية وما تتّسم به من تشبّث بقيم الحداثة والعقلانيّة والانفتاح نتساءل عمّا إذا كان النّقد الأدبي في تونس قد اكتسب خصائص متفرّدة في التّنظير والممارسة ترقى به إلى مستوى «المدرسة»، أم إن الأمر لا يعدو أن يكون تجارب متفرّقة في مراحل مختلفة من السّياق الثقافي على غرار تجربة توفيق بكار في رعاية الأدب التونسي واحتضانه نقديا؟ هذه التساؤلات طرحناها على أربعة أساتذة من أجيال مختلفة مُتخصّصين في النّقد الأدبي.

العقل النّقدي أساس الحداثة

يقارب الدكتور نزار شقرون المتخصص في نظريات الفن المسألةَ من وجهة نظر تاريخية أوّلا فيؤكّد أنّ العلاقة الوطيدة التي استطاعت الجامعة التونسيّة أن ترسيها مع ما يستجدّ من أسئلة في المشهد الغربي والفرنسي تخصيصا قد سمحت بمحايثة كبيرة للتيارات والمناهج النقديّة، ومن البديهي القول بأنّ الجامعة التونسية استفادت أيما استفادة من الحراك النقدي الفرنسي وتمكّنت بفضل أساتذة أجلاء من بثّ هذه الاستفادة سواء في المقررات الدراسيّة أو في مسار الدروس نفسها داخل الجامعة ممّا أدّى إلى ظهور أجيال من المتعلّمين الحاملين لنسغ النقد. يرى شقرون أن الجامعة التونسيّة قد راهنت على الدرس النقدي باعتبار أنّ العقل النقدي هو أساس التحديث، ولذلك نشطت الترجمة في المقام الأوّل وظهرت الجامعة التونسية سبّاقة في الأخذ بالنصوص النقدية المؤسّسة سواء في اللسانيات أو المناهج النقدية، وهو ما جعلها تتلمّس قبل غيرها من الجامعات، وبشكل جوهري مسألة المصطلح النقدي وعكف الأساتذة على تناول إشكالياته باعتبار أنّ المصطلح هو مفتاح المعرفة. وتزامن هذا الاهتمام مع ظهور شخصيات أدبيّة حوّلت كرسيّ الجامعة إلى منبر للتأسيس النقدي وللتجريب المنهجي، وهو ما جعل الأعمال النقديّة التطبيقيّة تجد طريقها إلى المقرّرات الدراسيّة، وتجد إقبالا متزايدا من الطلاب، ولعلّ الإسهام النقدي التونسي نجح في استدعاء المناهج النقديّة الحديثة لمقاربة النصوص الأدبيّة التراثيّة قبل الحديثة وهو ما خلق ديناميكيّة في مستوى القراءة والتلقي عموما.

ويرجح نزار شقرون إمكانية القول بوجود نشاط نقدي متواتر ومتعلّق بأسماء دون غيرها أكثر من الإعلان الصريح بوجود مدرسة نقدية، كما يعتبر أن في بعض الرموز النقدية ومن بينها الراحل الأستاذ توفيق بكار علامات لبذور مدرسة تونسية في النقد تحتاج إلى البناء النظري، حيثُ نتلمّس ميولا ونزوعا إلى استخدام المناهج بمقاربة «تونسيّة» فيها من روح الناقد التونسي ومن انفتاحه وقدرته على الهضم وتطـــويـــع المنهج دون اتباع صارم للمنهـــــج الأصلي، وربما كانت تجربة بكار منعطفا، ومن بعده عــــدد من مريديه، تأسيسيا لهذا المنزع لكنها ستحتــاج في المستقبل إلى إعادة قراءة ونظر لتأسيس إطار نقدي. ويختتم الدكتور نزار شقرون مقاربته بالتساؤل عن أثر هذه الإسهامات في الساحة النقديّة التونسيـة نفسهـــا، فالجـامعة التونسية على حدّ قوله ليست المجال الأوحد للمقاربة النقديّة بل هي مجرّد ينبوع لنشاط نقدي غير أكاديمي في المشهد الأدبي عموما، وهو موضوع على غاية الأهمية، فلا معنى للدرس النقدي إن ظلّ أسيرا للجامعة.

هذا الموقف يؤكّده الدكتور محمد نجيب العمامي الأستاذ المحاضر في النقد الأدبي الحديث الذي يرى أنّ مصطلح مدرسة تونسيّة في النقد الأدبي لا يخلو من مبالغة، فالتونسيّون لا ينتجون المعرفة النقديّة، وأفضلهم من تمثّل المنتج النظري الغربي وأجراه على الإنتاج الأدبي العربي، لكنه يقرّ أنّ للمنجز النقدي التونسي خصائص هي مواكبة المنجز النظري الغربي والاستنارة به في تحليل النصوص العربيّة بكيفيّة تجعل المحكَّم في الممارسة النقديّة النصَّ لا النظريّة. فضلا عن الصرامة المنهجيّة والسعي قدر الإمكان إلى الدقّة والعمق. ولكن رغم وجود وحدات بحث نشطة في الجامعة، فإنّ الطابع الفردي هو المستبدّ بالإنتاج النقدي في تونس، فأغلب دارسي الأدب التونسيّين تتلمذوا على أساتذة بعينهم وهؤلاء كوّنوا تلاميذ واصلوا جهدهم، وفي هذا الإطار يبدو دور الأستاذ توفيق بكّار مهمّا جدّا، فهو من فتح الجامعة التونسيّة على المناهج الغربيّة ومن علّم طلبته التعامل الذكي مع هذه المناهج وجعل النظريّة في خدمة النصّ العربي.

في الحاجة إلى تأسيس مفهوم النّقد

يعتبر الدكتور منصف الوهايبي أستاذ التعليم العالي بجامعة سوسة ورئيس كرسي الأدب التونسي بها أنّ مردّ الإشكال في الكلام على «مدرسة تونسيّة» في النقد يعود إلى أنّنا نكاد لا نميّز بين الناقد والباحث، وهو يرى أنّ النّقد من المفاهيم غير المؤسّسة في ثقافتنا، والأخذ بمفهـوم لم يتأسّس بعد، لا يخلو من بعض مجازفة، ومن قدر غير يسير من المغامرة، بل هو يمكن أن يفضي إلى خلل منهجيّ بسبب الخلط، دون سند من اختبار النصوص والاستئناس بها. وها هنـــا تكمن على حدّ قوله إضــافة أستــــاذنا توفيق بكّار الذي أرسى أسس النّقـد «النصّي».

يقول الوهايبي: «بكار هو الذي كان ينبّهنا (وقد أشرف على رسالتين لي) إلى أنّ «النموذج» النّقدي حجاب على أوجه الاختلاف بين النصوص، بل قد يوهمــــنا بوحدة ائتلاف لا سند لها من النص الذي ينبني هو أيضا على أكثر من شكل. الناقد يستأنس برؤية، فيما الباحـث  يعتمد عادة  زمنيّة خطية أو تكاد، في ما نسمّيه l’état de la question  أي «جوانب المسألة» أو «المسألة راهنا»، تتوزّع إلى ماض وحاضر ومستقبل، لا يجوز فيها الرّجوع إلى الوراء إلاّ على سبيل الدّراسة والتّحقيق، فيما زمنيّة الشّعر مثلا على ما نرجّح حاضـــر أبــــديّ، ولا يحتــــاج الشّعراء بموجبها إلى أن يعيدوا إحيــاء «الموتى» فهم حاضرون في قصائدهم وهم يحاورونهم باستمرار. وضمن الوعي بأنّ النصّ الإبداعي قائم على نوع من الوصف أو التصوّر أو البناء خاصّ به، يكون النصّ النّقدي منشدّا إلى نفسه مثلما هو منشدّ إلى لاحقه، بل ليس للنقد من غاية أو من هدف يتراءى في عقب قراءة النصّ، وهو لا يتأتّى من نسق أدبيّ أو فكريّ أو من منظومة عقديّة، إنّما النّقــــد في تقـــديــــري رؤيــة  هي حصيلة خبرة ومـــراس، ومثلما لا يســــلك شاعــــران في طـــريق واحـــدة أبدا، وحظ هذا ليس حظ ذاك، كذلك هو الناقد.

(..) وإذا كان ثمّة مشكل فقد يكون مردّه إلى  خلط بين دلالة «المصطلح» ودلالة «المفهوم» الذي هو من عــمـل الفكر عــامّة، أو عمل الفكر الفلسفيّ حصرا فيما المصطلح من عمل التّواضع الجمعيّ وربّما أيضا إلى نوع من التّجميع، تجميع المناهج وهو أقرب ما يكون إلى «تهجين» نقديّ ما يجعل الخطاب النّقدي مثار جدل وخلاف، خاصّة أنّه سمة مفارقة فيه وأمارة على تفاوت قيمته بسبب من مؤثّرات شتّى، قد تكون أجنبيّة (انجليزيّة وفرنسيّة خاصّة)، ولعلّ في هذا ما يسوّغ القول بأنّ الخطاب النّقدي عندنا، خطاب قلق لا يكاد يجري على وتيرة حتّى يحرفها على أخرى، بل لعلّه بدأ اليوم يصطنع رواسمه الخاصّة كلّما تعلّق الأمر بإعادة استعمال كلمات وصيغ وتراكيب بعينها أو بإطلاقها « رواسم» في فضاء الذّاكرة النصيّة، حتّى تبتعثها وتحمّلها ثانية سلطة جديدة، ولعلّ خير دليل على ذلك هذه البحوث الجامعيّة التي تحوّلت إلى «نسج على المنوال» حيث العناوين هي نفسها، والتصوّر هو نفسه.

النّقد الأدبي مجـــاله السّاحة الثّقافيّة لا الجامعة

يتحفّظ الدكتور محمد صالح بن عمر وهو أحد النقاد الفاعلين بقوة في المشهد الثقافي التونسي منذ أكثر من نصف قرن، على استخدام مصطلح «المدرسة» الذي لم يوجد في النّقد الأدبيّ مطلقا، فما كتبه الشّكلانيّون الرّوس في العشرينات ورولان بارط في السّتينات وكذلك باختين وتودوروف وجيرار جينيت وقريماس قام على تطبيق المنهج البنيّوي الذي وضعه سوسير وقوامه دراسة اللّغة في ذاتها ولذاتها، كما أنّ النّصّانيّة التي طبّقتها جوليا كريستيفا ونظريّة جماليّة التلقّي التي استعملها يوس الألمانيّ ليسا إلاّ تطبيقين من زاويتين متقابلتين  للنظرية التّداوليّة التي نظرت إلى النّصّ على أنّه خطاب وربطت سياقاته بالمقام ووجّهت عنايتها إلى كيفية استعمال المتكلّم للّغة وكيفية تلقّيها من لدن السّامع، هذه النماذج وغيرها يستعرضها الدكتور بن عمر ليخلص إلى القول بأنه «لم توجد قطّ مدارس نقديّة وإنّما يتعلّق الأمر بمناهج لم يضعها نقّاد بل فلاسفة ولغويّون وعلماء في مجالات شتّى»، أما بخصوص «النّقد» فهو يرى أن  ما يمارس في الجامعة ليس نقدا وإنّما هو نوعان: أحدهما البحث العلميّ الأكاديميّ في الأدب وخاصّيته أنّ الذي يمارسه يتوجّه به إلى المتخصّصين دون غيرهم لا سيّما لجان المناقشة ولجان الانتداب والتّرقية واللّجان المشرفة على المجلاّت العلميّة، والنّوع الآخر هو ما يلقيه المدرّس الجامعيّ على الطّلبة  في المدرج من محاضرات وما يقوم به في قاعة الدّرس من تطبيقات، فهذا ينتمي إلى تعليميّة الأدب لا إلى النّقد، والتّعليميّة هي فنّ توصيل المعلومات والمفاهيم إلى  المتّعلّمين، أمّا النّقد الأدبي فيمـــارس في السّاحة الثّقافيّة لا في الجامعة ولا يشتـــرط في ممارسه أن يكــون جــامعيّا مثل عبــــّاس محمود العقّاد وغــالي شكري وادوارد الخرّاط في مصر وعيسى النّاعوري في الأردن ومحمّد الحليوي وبوزيّان السّعديّ وأحمد حاذق العرف في تونس، وخاصّيته أنّ ممارسه يتوجّه بخطابه إلى جمهور الأدب الذي لا يتألّف بالضّرورة من متخصّصين ومتعلّمين، ولا يخفى أنّ نوعيّة المتلقّي تؤثّر تأثيـــرا عميقـا في الخطاب، يقول بن عمر «أنا مثلا حين ألقي محاضرة في دار ثقافة عن الأدب لا أستعمل من المصطلحات إلاّ ما شاع كثيرا وأعوّض  ذكر المصطلح بشرح المفهوم الذي يدلّ عليه باللّغة العامّة أي غير العالمة حتّى أتواصل مع الجمهور».

وبهذا المعنى يفضّل محمد صالح بن عمر ألّا يختزل توفيق بكار في صفة النّاقد بل يشبّهه بلطفي السّيّد في مصر فهو أب من آباء الأدب التّونسيّ لحضوره المكثّف طيلة حياته في السّاحة الثّقافيّة واختلاطه بالأدباء والفنّانين تماما مثل زين العابدين السّنوسي ومنجي الشّملي وأبي القاسم محمّد كرّو ومحمّد العروسي المطوي رحمهم الله، لقـد خـدم هـــؤلاء الأدب التّونسيّ كلّ على طريقتـــه وفي المجـــال الذي يتحرّك فيه وكان تأثيرهم في مسيرة هذا الأدب عظيما.

هكذا إذن تطوّق المُساهمات الأربع التي بنينا عليها مقاربتنا السؤالَ من مختلف جوانبه، فالقول بموجود مدرسة تونسية في النّقد الأدبي ينطوي على مجازفة إذ الأمر أقرب إلى المشروع منه إلى المنجز المتحقّق، هذا المشروع ينطلق من تراكمات معرفية لعبت فيها الجامعة التونسية دورا بارزا منذ تأسيسها، لا سيما فيما يتعلق بتمثل المعرفة النّقدية الغربية وتطبيقها على متون تراثية ومنجزات إبداعية حديثة، وتبدو تجربة توفيق بكار في هذا الصّدد نموذجية، لكنّ هذا الدور لا يمكن أن يكون قويّا ومؤثّرا إلاّ إذا ما استمرّ بأشكال تواصلية شتّى خارج إطار الجامعة وأمام جمهور من العامّة، ليس النّقد الأدبي في هذا التصوّر درسا جامعيّا فحسب بل ممارسة ثقافية تأسيسية، فالعقل النّقدي أساس الحداثة وثقافتنا التي لم يتأسّس فيها مفهوم النّقد هي التي تجعل من الممارسة النّقدية اليوم أكثر من أيّ وقت مضى مغامرة ضرورية تأصيلا لكيان.

عامر بوعزّة

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.