أخبار - 2017.09.08

إن هذا لشيء عجاب: في بؤس المؤسسة الدينية الرسمية... مرة أخرى

إن هذا لشيء عجاب: في بؤس المؤسسة الدينية الرسمية... مرة أخرى

المقال التالي كتبته ونشرته منذ ست سنوات، وعندما تابعت شكاوى حجاج هذا العام من الظروف التي أدوا فيها مناسكهم، وهو ما يؤكد مرة اخرى بؤس المؤسسات المعنية برعاية الشأن الديني عندنا، رأيت أنه قد يكون من المفيد إعادة نشره لأنني لو أحببت أن أعلق على هذه الشكاوى لكتبت نفس الكلام دون زيادة أو نقصان فهل ستكون آذان حكام سنة 2017 أرهف سمعا من آذان حكام 2011؟
آمل ذلك واليكم المقال: 

المعذرة !... المعذرة يا ابن خلدون فنحن لم نفهم مقدمتك بعد !..

بداية، أرجو أن تقرؤوا معي، بتمعّن، الفقرة التالية المقتطفة من الفصل الأربعين من الجزء الثالث من مقدمة ابن خلدون الذي يحمل عنوان "في أن التجارة من السلطان مضرة بالرعايا و مفسدة للجباية":

"...واعلم أن السلطان لا ينمّي ماله ولا يدرّ موجوده إلا الجباية، وإدرارها إنما يكون بالعدل في أهل الأموال، والنظر لهم بذلك، فبذلك تنبسط آمالهم وتنشرح صدورهم للأخذ في تثمير الأموال وتنميتها، فتعظم منها جباية السلطان، وأما غير ذلك من تجارة أو فلح فإنما هو مضرة عاجلة للرعايا، وفساد للجباية، ونقص للعمارة، وقد ينتهي الحال بهؤلاء المنسلخين للتجارة و الفلاحة من الأمراء والمتغلبين في البلدان أنهم يتعرضون لشراء الغلات و السلع من أربابها الواردين على بلدهم ويفرضون لذلك من الثمن ما يشاؤون، ويبيعونها في وقتها لمن تحت أيديهم من الرعايا بما يفرضون من الثمن، وهذه أشد من الأولى وأقرب إلى فساد الرعية واختلال أحوالهم"...

لقد قفزت هذه الفقرة إلى ذاكرتي وأنا أتابع الجدل الذي واكب موسم الحج هذا العام من جراء ما لاقاه الحجيج من عناء وعنت في أداء مناسكهم... وهو ما صدع به الكثيرون منهم، وأكده الإعلاميون الذين رافقوهم، ولم ينكره وزير الشؤون الدينية، وأقرت به شركة الخدمات الوطنية والاقامات التي عاقبت، بسببه، بعض المقصرين من موظفيها...

ورغم أني لم أكن أنوي الدخول في هذا الجدل، فإنني، عندما قرأت البيان التوضيحي الذي اصدرته الشركة بعد انتهاء الموسم، وجدتني مدفوعا إلى كتابة هذه الأسطر، لأني لا أستطيع الصمت على ما تضمّنه من مفارقات صارخة.
تقول الشركة في بيانها: "لا يختلف اثنان في أنّ جميع الخدمات المسداة للحجّاج من سكن ونقل وإحاطة ورعاية، قد بلغت في الموسم الحالي درجة يمكن اعتبارها قد وضعت تنظيم الحجّ التونسي على مسار النقلة النوعية المرجوّة والمرتقبة بعد ما أصاب تنظيم الحجّ ما أصابه سابقا من تهميش وتشويه"...

وأعترف بأنّي شدهت لهذا الكلام "السريالي" الذي تدّعي فيه الشركة بطولة "وضع تنظيم الحج على مسار النقلة النوعية المرجوة"، وتعفي نفسها من التهميش والتشويه اللذين أصاباه، وكأنهما ليسا من  صنعها، حيث أنها ما فتئت، بمشيئة منشئها، النظام المتداعي السابق، تحتكر الحج منذ سنين وسنين... وتستعين بأجهزته للتغطية على جميع ارتكاباتها...

ثم إنها، في محاولة منها للتنصل من مسؤولياتها، لم تتورع عن تحميل وزر الصعوبات التي صادفها الحجاج لعاملين "خارجين عن نطاقها"، أولهما هو مساحة منطقة منى المحدودة، وتزايد الحجاج المتنامي خلال السنوات العشر الاخيرة... وثانيهما هو       "تشنج الحجاج وسلوكياتهم وتصرفاتهم التي لا علاقة لها باخلاقيات الحج"...

ولست أدري كيف لشركة مختصة في تنظيم الحج ألا تقرأ حسابا لضيق مساحة منطقة منى، أو لتزايد أعداد الحجاج كل عام... وكيف لا تحتاط لعدم قدرة المخيم المخصص للحجيج التونسيين على استيعابهم، ولا للنقص في "استعداداتهم النفسية والصحية" وكأنها تتعامل معهم لأول مرة... أو كأن حجيج هذا العام نزلوا من المريخ...

وإذا كان الشيء من مأتاه لا يستغرب، فإن المستغرب حقا هو  أن حكومة ما بعد الثورة أقرت الشركة في نفس المهمة التي أوكلها لها النظام المتداعي السابق، بل عززتها حين ذهبت إلى حد إبرام اتفاقية مع وزارة الحج السعودية تمتنع بموجبها سفارة المملكة بتونس عن منح تاشيرات الحج الا لها...

ولنعد إلى ابن خلدون، فأنا أتصور أنه يتململ الآن في قبره لأن بلاده لم تفهم بعد ستة قرون من كتابة مقدمته أن الدولة لا ينبغي أبدا أن تشتغل بالتجارة والفلاحة./..
 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.