في أربعينية الجنرال مـحمّـــد سَعــيــــــد الكاتب :»قُدْوَتِي بِحَياتي مُعَلِّمِـــــي«
عرفــت الجنــرال محمد سعيد الكاتب في أكتــوبر مـــن سنة 1972 عندما كان برتبة مقدّم مديرا للأكادمية العسكرية بفنــدق الجديد وقد غادرها للقيام بتربّــص خـارج أرض الوطن في نهاية شهر ديسمبر من السنة نفسها. كنت أزاول مرحلة التكوين الأساسي لتكوين الضباط. ورغم قصر المدّة فإن عديد الذكريات مازالت تلـــوح في مخيّلتي كبــاقي الوشم في ظاهر اليد ولم تمح بعد كل هذه السنين ويحصل هذا في اختصاصات عديدة عندما يتأثّر الطالب بمعلّمه. ومنذ ذلك الحين لم ألتق به إلا عنـدمــا عُيّنت في خطــــة آمــر مجمـوعة المهـاري في استعــراض 20 مـــارس 1989 الذي نُظّم بشارع 2 مارس بباردو..
مجموعة المهــاري والخيّالة تتدرّبـان معـــا في ثكنـــــة منّوبة وكان الجنرال يتفقّد تدريبــاتنـــا كلّ يـــوم إلى أن نُفّذ الاستعراض. وبعـدما تمّ تعييني آمــر فــوج في صيف 1989 وحتّى 24 جـــوان 1991 كانــت لي معـــه لقاءات عمل عديـــــدة لقطــت منهــا شـذرات ثمينــة منـهــا مـــا تزوّدت به في أوّل حياتي المهنية وبعضها صغت منها عقودا نفيسة لأعمالي الميدانية ومنها ما ادّخرته لمآرب أخرى وكلّها ذات فوائد جمّة في المهنــة القيـادية العسكرية. وسأكتفـــي بعــــرض عــــقــد واحــد مــن هــذه الشــذرات لما يـضفيـــــه من بهاء ومن نقاء على أسلوب القيادة العسكرية. وأعني بذلك القيادة بالقدوة وعملا بمقولة «قدوتي بحياتي معلّمي».
الجنرال الكاتب قائد عسكري ميداني تميّز بأسلوب قيادة طبيعي خال من التكلّف اعتمد في جانب كبير منـــه على القيـــادة بالقدوة. وهذا الأسلوب القيادي في ظاهره سهل المنال حيث يعتقد البعض أنّ القائد يكتفي بالإشارة أو بأمر جنوده بأن يفعلوا مثله حتى يستقيم عملهم وينفّذوا المهمة الموكولة إليهم على أحسن وجه. ولكن الأمر غير ذلك لأنّ العرض وحده لا يكفي للتلقين وإنّما يتجاوزه إلى جـــودة الحركة في العمــل الميداني وحــسن التصــرّف في الاتصال بالمرؤوسين والارتقاء بهم إلى أرفع درجات الشـــرف في حياتهم المهنية. وهذا كلّه يتطلّب مـــــن الآمر القــدوة والتحلّي بهذه الصفات والخصـــال حتــى يمرّرهــا ويلقّنها لمرؤوسيه بصفـــة طبيعية بعيدة عن التكلّف، عملا بقوله تعالى «وما أنا من المتكلّفين».
كان الجنرال راميـــا مُجيدا وفارسا مــاهرا وقائدا شريفا وهــي خصــال لا يملكها إلا القائد الحاذق. وقد سعــى طـــوال حياته العسكرية إلى تلقين هذه المهارات والحرص على حيازتها من قبل كل الجنود. فالرمي براعة فردية أساسيــــة وضرورية للعمل الميداني. والحرب هي الرمي. تبدأ الحرب برمي الأهــداف الحيويــة للعدو بتحطيم مراكز القيادة والاتصال ثم يتواصل الرمي مستهدفا الاحتياط العملياتي إلى أن تحين الفرصة لرمـي وحـــدات العدو المباشرة. وعـــادة ما يُحســـم القتال بسرعة الرمي ودقته وحجمـــه وفي كلمـــة فإن القتال يحسمه الــــرمــاة الماهرون. والقائد الفذ هو الذي يربّي نشئا يحــذق الرماية. ولن يتيسّـــر له ذلك إلا إذا كان ماهرا في هذا المجال بالذات. وكما يقول الجنرال الكاتب «Tout converge vers le tir» فأفضل تربية عسكرية تبدأ بحذق الرمي.
وإن كانـــت للرمايـــة فــوائد كبيرة فإنّ الفروسية تصقل مواهــــب القيـــادة عند الضابط الناشئ. وركوب الخيــل أو قـيادة الفـــرس تدريـــب على التواصل بالإشارة والصوت والحــركة. وهي لا تختلف كثيرا في معانيها عن قيادة على الميدان للأفراد الذين يأتمرون برموز متّفق عليها أو بأوامر صوتية أو بآليات مبسّطة أو ميكانسمات. ومن ضـــروب الفـروسية الركـوب والقفز على الحواجز وسباق التحمّل وهي معاني التدريب الأساسي للمقـــاتل. فالــــركوب رياضـــة وفنّ قيادة والقفز على الحواجز يعلّم مكابدة الشدّة وتخــطّي الصعــاب وسباق التحمّل على مسافات طويلة يوطّد الصـــبر في القتــال وتحمّل مشقّته. وكأنّ الجنرال بحرصه الدائم على التــدريب على الرماية والفروسية عمل بالحديث النبوي: «علّموا أبناءكم الرماية والسباحة وركوب الخيل» ليضمن لجنوده أفضل تربية وأنبل تكوين يؤهلهــم لحمــاية التراب الوطني بكل حزم وأمانة.
وإن كانـــت مهــــارة الـــرمي والفروسية تحصـــل بالتكويــــن الصحيح وبالتدريب المتواصل -وهي خصال ضرورية يطالب القائد الميداني بامتلاكها- إلا أنّها لا تكتمل إلّا عندما يؤسّس لنفسه أسلوب القيادة بالقدوة. وما ينقصــه في هـــذه الحال إنّما هي الخصال الحميدة بل نقول إنّ خصلة وحيــدة تغني عــن كل الفضائل الأخرى وهي الشرف. والشرف قيمة معنوية إذا غابــت عن الضابط والقائد فلن يُقبل منه فرض ولا تطوّع كما تقول العرب. والشرف هو التعالي عن كلّ تصرّف لا يستقيم إلاّ باعتدال السلوك وثبات الأخلاق الحميدة والسيرة الحسنة. والجنرال الكاتب ينحدر من عائلة ميســورة ســاعــده نسبــه على التحلّي بقيمة الشـــرف فأضافت لخصاله القيادية وصقلت أسلــوب قيادته بالقدوة الحسنة. نقول للجنرال الفــارس الشــريف كما قال الكميت بن زيد الأسدي :
سبقت إلى الخيرات كل مناضل
وأحرزت بالعشر الولاء خصالها.
رحم الله قائــدا شريفــا ومعلّمـــا مــاهرا وفارسا نبيلا..
محمّد النّفطي
- اكتب تعليق
- تعليق