الشيـخ المختـار بـن محمــود (1904 - 1973)
مِن بين شيوخ عصره المرموقين، يحتلّ الشيخ المختــار بــن محمـود مكانة متميّزة، تجعل الرغبة شديدة في الاتصــال به، ومصاحبته، والاستماع إليه. وأوّل مَــن اشتهر بمعـاشرته واستأثر بلطيف صحبته، ذو القيادتين، في الوسط الزيتوني – الكلـّية والإفتاء – زميلــه الشيخ الفاضل ابن عاشور. ومن أهمّ خِصال شيخنا المختار أنّه لم يكن – مثل الكثيرين من زملائه – يعيش على هامش المجتمع الشعبي. فقد كان حريصــا على مشاهدة كلّ ما يمكن مشاهدته، في المدينة، ما عظـُم شأنه، وما كان من صغار الأمور.
فكان لا يتعالى عن معرفـة الوقائع بنفسه، معرفة العين والمشاهدة؛ مع دائـم «التقييد» فورا، في كنـّشه، بنفس المكان، ونفس الأوان، لا على التراخي.
لذلك فإنّ تقييدات الشيــخ المختار تكتسي، اليــوم، مـــن الدقـّة والمصداقيّة، ما قلّ مثله، ممّا سُجِّل بعــد حيـن، مع إمكان اضطراب الذاكرة، وتداخل المعلومات.
وأقــدّر أنّ مجموع هذه التقييدات، بكمّها الضخم، يُمثل مخزونا لا يجوز أن يُستهان به؛ إنّه جدير بالعـــرض على نظر التاريخ الاجتماعي، لِما فيه من تصوير دقيق لأحوال خاصّة بالمجتمع التونسي، على مدى حقبة طويلة من القرن العشرين. وحبّذا لو تتولّى النظر فيه معاهد البحث، في الكلـيّات المختصّة بالدراسات التاريخيّة، والاجتماعيّة، وربّما أيضا، الاقتصاديّة.
ثمّ إنّ حــديــث الرَجُل ذو طرافة نادرة في الوسط الزيتوني ؛ فهو يتكلـّم بما في خاطره، وحسب ما يعنّ له ؛ لا بما تفرضه الضوابط الاجتماعيّة– ممّا يتكلّف له، مِـــن «بلـدية» العاصمة، الكثيرون. لكـــن حديثـــــه دوما بسجاف من الدُعـــابة: يتكلم بما يُستمْلح – و«المؤمـــن دَعِبٌ» – وينظر إلى الوقائع من زاوية المُستضحِك منها، لا قصد الازدراء بأحد؛ تغلِب على أحـــاديثه خفّــة روح، وبسمة انشراح، مــع نفـــاذ النظر، ولـَطافة تـُشبــه المرح؛ فلا يُملّ مجلســه، ولا يُعرض عن حديث له – وإن تضايق منه، أحيانا، المتزمّتون. وقصارى القول إنّ الشيخ المختار من ألطف الناس ملاحظة، وأدقهم معرفـــة بأمور في المجتمع، قد تُعتبر هامشيّة.
كانت له، بالمعهد الصادقي، دروس يغلب عليها الحديــث عــن المجتمع، وما شاهده بنفسه، وما يجــدر، في نظره، الاطلاع عليه، أو من رسائل شعريّة يُبعث بها إليه ؛ لا يُعرض عن أكثر الأسئلة غرابة، آتية مِن تلاميذه؛ ولا يستنكــف أن يحــاور السائل، وإن بدا عنه تماجن.
من خصـــاله، النادرة، أيضا، أنه يُقيم وزنا للأعمال الفنيّة والموسيقيّة والمسرحيّة. لا يرى غضاضة في حضورها، ولا يترفّع عن الخوض فيها؛ يعتبرها من توابع الحضارة، ومن لوازم الحياة الاجتماعيّة.
من ذلك، مـــا أتِيح لي أن شهــدتُـه، عند تأبين الفنان الكبير علي الرياحي: فقــد كان هو الوجه الزيتوني الوحيــد الذي – على ما رأيتُ – حضر الجنـــازة. ثمّ أقـــدم على المشاركة في الرثــاء، والدعــاء للميّـــت، والإشـــادة بمـــآثره.
وكانت للشيخ المختار جسارة نادرة من بين زملائه. فقد نظـّمت وزارة الشؤون الثقافيّة، في أوائل الستينات، ندوة ً للنظر في قضيّة الأعياد الإسلاميّة وحساب الاشهُر القمريّة. واستشرتُ في ذلك شيخنا الفاضل ابن عاشور. فقال لي: عليك بـ «الفقيه»– وهو الشيخ المختار.
وحضر «الفقيه» افتتاح الندوة، وألقى فيها كلمة واضحة المعالم، صريحة التوجّه نحو تطوير الصيغ والطرائق، بحسب تطوّر المجتمع– وذاك ما كنّـا نبغي.
انعقدت بيني وبين الشيخ المختار، منذ تلك الايّام، صحبة ومودّة. فلمّا انقلبت الأيّام، وآل الأمر إلى خروجي من الحكومة–أوّل مرّة –فأوّل زائر أتاني، مساء، إلى منزلي، هو الشيخ المختار بن محمود، مرفوقا، على ما أذكر، بأحد أنجاله.
كان متّـقد الذكاء، ودودا لمُحبّيه ؛ له من الظـــرف الطبيعـــي مــا يُعبّر عنه، عندنا، بـ«الضمار» ؛ شغوفا دوما باستقصاء البحث والإمعان في الدراسة.
تغمّـده الله بالرحمــة الواسعة، وبـــارك في نجليـــه، ووفّقهـــما إلى إحيـاء تــراث والــدهما المبرور، بما يتيسّر لهما من إعداد تراثه للنشر.
الشـــــاذلي القليبي
- اكتب تعليق
- تعليق