جـلال عبـد الكـافي: مسيــرة نضـال من أجل التّنظيم العمراني والمحافظة على التّراث

في الثّاني عشر من ماي 2017 افتُتِحَ بمتحف مدينة تونس (قصر خير الدين) معرض عنوانه : لقطات مكبّرة لمواقع عمرانيّة من البلاد التّونسيّة، (GROS PLANS : Paysages urbains de Tunisie)، يقدّم كشفا شاملا عن المسيرة الفكريّة والمهنيّة لجلال عبد الكافي المهندس المعماري ومصمّم الحدائق واختصاصي تخطيط المدن، ويتضمّن مادّة غزيرة من التّخطيطات والأمثلة والصّور والتّصاميم تعطي فكرة ضافية عن منجز الرّجل مهنيّا كرائد للتنّظيم العمراني الحديث، وعن نشاطه  كمفكّر أحاط بمشكلات التّراث المعماري والعمارة القديمة والحديثة.

وضع جلال عبد الكافي  تصوّرات كثيرة لمشاريع عمرانيّة في مناطق كثيرة من البلاد التّونسيّة وأنجز العديد منها فأضحت شهادة غير مسبوقة على مرحلة تأسيسيّة من تاريخ تونس المعاصرة وقد أنجزها بروح الخبير المحنّك في التّعامل والتّفاوض مع الإدارة وغيرها من الشّركاء لإقناعها  بنجاعة مقارباته، مع روح نضاليّة تتجاوز الحدود التّقنيّة الصّرف إلى الدّفاع عن أصالة الأحياز العمرانيّة التّقليديّة وتطويرها لتتلاءم مع ضرورات الحياة المعاصرة؛ بالإضافة  إلى مساهماته القيّمة في المحافل الدّوليّة والعربيّة حيث يُعتبر مرجعا يُؤخذ برأيه في مجالات نشاطاته المتعدّدة.

قراءة تصل الماضي بالحاضر وتستشرف المستقبل

يقدّم المعرض في قسمه التّاريخيّ نحو خمسين مشروعا تمّ اختيارها لقيمتها النّموذجيّة وحجمها وتأثيرها في حياة العاصمة تونس، إذ لم يكتف العارض بتقديم تجربته الخاصّة وإنجازاته الشّخصيّة بل سعى إلى إدراجها ضمن  سياق نموّ المدينة، ممّا يتيح رحلةً منهجيّة في التّاريخ العمراني تُعزّزها النّصوص المرافقة للّوحات مفسّرةً لدقائقها ومُعَرِّفةً بالذين ساهموا في تشكيل صورتها الحاليّة قديما وحديثا.

إنّنا بصدد مادّة توثيقيّة دقيقة لتطوّر البنية العمرانية لحاضرة  تونس  باعتبار تلك البنية من صميم التّراث الجماعي إذ هي تُكيّف حياة المجموعة عبر الزّمن في مختلف أبعادها الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثّقافيّة. وقد حرص العارض على التّذكير بالإنجازات المتعاقبة في المدينة منذ نهايات القرن التّاسع عشر، لأجيال من المتدخّلين في تطوير مرافقها لِتُلائِم ضرورات التحوّل التّاريخي من خلال رؤية تأليفيّة تنطلق من رصد نجاحات ذلك المنجز ورصد نقائصه واستقراء مشكلاته الرّاهنة، وصولا إلى استنباط المشاريع الرّائدة التي تصل ماضي المدينة بحاضرها وتُعِدُّها للمستقبل.

والواقع أنّ الحاجة إلى مثل تلك المعارض جِدُّ أكيدة باعتبار الظّاهرة العمرانيّة واقعا حيّا متحوّلا يكتنف حياة النّاس في الحاضر والمستقبل ؛ لذلك اختار  جلال عبد الكافي في معرضه نسقا «تعليميّا» يهدف إلى توسيع الوعي العام بأهمّية عمران المدن وقراءة تطوّره كجزء من التّاريخ الوطني؛ فنراه يبدأ بالتّعريفات المؤسِّسة لتنظيم المدن منذ نشوئه كمفهوم ومنهج بأوروبا في القرن التّاسع عشر، محاولا لفت الانتباه إلى أهميّته في ترشيد إدارة الواقع العمراني وضمان مصالحة حقيقيّة بين الإنسان وبيئته.

تطوّر البنية العمرانيّة لتونس الحديثة

ومن المعلومات المفيدة التي يقدّمها المعرض ذلك الكشف الموثّق بالأرقام  عن تطوّر التّجمّعات العمرانيّة في البلاد التّونسيّة وعن ساكنيها وخاصّة الحاضرة تونس، مبيّنا خصوصياتها المادّيّة والرّوحيّة ومستعرضا بالأمثلة والخرائط مراحل نموّ نسيجها منذ الفترات السّابقة للرّأسماليّة والثّورة الصّناعيّة والحضور الاستعماري، إلى اليوم  حيث أضحت عاصمة حديثة تمتدّ أحياؤها الجديدة وتنمو حول المدينة العتيقة مركزِها الرّوحي والثّقافيّ.

المشاريع العمرانيّة منذ الاستقلال

لا يسمح ضيق المجال باستعراض  تفصيليّ لكلّ ما يكشف عنه المعرض من مشاريع عمرانيّة شاملة وُضِعت للعاصمة بعد الاستقــلال وجـــاءت بنتـــائج متفاوتة بين النّجـــاح والفشـــل ومنهـــا مشــروع المهندسين  كـــواروني و دي كـــارلو (Quaroni et De Carlo) الاختصاصين في تخطيط المدن مع المهندس المعماري ماسيمو أموداي (Massimo Amodei)  الذين كلّفتهم الإدارة التّونسيّة الجديدة في العام 1962 بإعداد مثال تهيئة لتونس الكبرى، بهدف التّنسيق الإداري للمشروع والمساعدة على اتّخاذ القرار في مجال إعادة تنظيـــم العاصمـــة. غير أنّ الإدارة أهملـــت المشروع بما تضمّن من مبادئ تهيئة، لتكتفــي باتّباع إجراءات قطاعيّة وإنجاز عمليات منفردة وظرفيّة.

وظلّ الأمر على ما هو عليه إلى أنّ ظهرت أفكار جديدة حول الموضوع كان جلال عبد الكافي أوّل من أثارها بعد تخرّجه من دراسته الجامعية بمعهد التّخطيط العمراني (Institut d’urbanisme)التّابع لجامعة الصّربون سنة 1965 ثمّ حصوله على شهادة معماري في اختصاص تصميم الحدائق سنة 1967.

جمعيّة صيانة مدينة تونس، طليعة الدّفاع عن الهويّة المعماريّة والعمرانيّة

ينتقل بنا المعرض إلى سنة 1967 تاريخ تأسيس جمعيّة صيانة مدينة تونس من أجل الحفاظ على التّراث لمعماري والنّسيج العمراني التّقليدي وكان جلال عبد الكافي أحد مؤسّسيها وكانوا نخبة من المهنيين يقفون في خطّ المواجهة بين عالم قديم وآخر حديث مع إحساس بالانتماء إلى العالمين  ورفض التّسليم بحتميّة القطيعة بينهما. وقد آمنوا بإمكان تطوير الموروث إلى صيغ وجود جديدة مع احتفاظه بخصائصه الأكثر أصالة؛ وبتلك الرّوح عمل جلال عبد الكافي مع زملائه على تحويل جمعيّة صيانة المدينة إلى وسيلة دفاع قويّة تقف بروح نضاليّة وكفاءة مهنيّة في وجه تهديدات الإدارة بهدم أجزاء من المدينة وطمس معالمها واختراق نسيجها المتماسك خدمةً لمجد السّلطة السّياسيّة. كانت تلك معركة حقيقيّة خاض غمارها في المواقع الأولى؛ وقد أحرز فيها هو من معه بعض الانتصارات رغم العراقيل النّاجمة عن عادات تفكير إداريّ قاصر يُجابَهُ بأفكار أولئك الشّباب المتحمّسين، فكانت الإدارة تقبلها أحيانا وترفضها أخرى في مواجهات كرّ وفرّ. ولئن لم يتسنّ تطبيق كلّ مشاريع التّهيئة والتّحسين والإحياء التي حلم بها جلال عبد الكافي وصحبه من أجل المدينة العتيقة، خاصّة في مشروع تونس ـــ قرطاج الذي قدّمته جمعيّة صيانة المدينة بدعم من اليونسكو، إلاّ أنّه أمكن تحقيق مشاريع أخرى ـــ وإن كانت جزئيّة ـــ مثل المجمّع العقاري والتّجاري بحيّ الحفصيّة، وإنجازات أخرى.

مسيرة تجمع بين عمق النّظريّة ومهنيّة الإنجاز

أضحى جلال عبد الكافي، خلال عقود حامل لواء الثقافة العمرانيّة الجديدة في تونس، نظريا من خلال كتاباته ومساهماته العلميّة العميقة في الدّاخل والخارج، وعمليّا باعتبار المشاريع العمرانيّة الرّائدة التي وضعها لمناطق في مواقع مختلفة من الجمهوريّة بكفاءة مهنيّة عالية بقابس وصفاقس وسوسة والحمّامات وغيرها، منها ما أنجـــز ومنها ما ينتظر؛ ونذكر خاصّة من المشاريع الكبـــرى التي أسهم فيها  المثال العام لتهيئة ضفاف البحـــيرة. ومن آثــار مسيـــرة الرّجـــل نشـــوء وعي لدى النّخبة بأهمّيّـــة المحـــافظة على التّــــراث والـــذّود عنه ممّــــا شكّـــل رأيا عامّا لصالحـــه مــــا فتئ يتعزّز بالدّور المتنامي للمجتمع المدني بعد الثّورة.

إنّ معرض لقطات مكبّرة لمواقع عمرانيّة من البلاد التّونسيّة بمتحف مدينة تونس هو بمثابة عودة إلى النّبع، ووفاء للمدينة العتيقة التي كانت إطارا لنضالات جلال عبد الكافي الأولى، ضمن جمعيّة صيانة المدينة، وموضوعا لرسالته لنيل  الدّكتوراه وعنوانها (La Médina espace historique de Tunis) من جامعة باريسXII سنة 1987. وقد جاء المعرض بفضل محافظته السّيّدة حوريّة زرقان زوجة العارض في مستوى مهنيّ مرموق من حيث التّنسيق والتّهيئة، إضافة إلى طبع دليل قيّم شامل للمعروضات في إخراج بديع.

علي اللواتي