لم يسبق أن بلغت حرب "التأثير" في تونس هذه الدرجة من الحدّة والخطورة التي أصبحنا نعيش على وقعها منذ سنة 2011. وقد شمل "اللوبينغ" هذا المجالات السياسة والاقتصادية والاجتماعية وحتى الثقافية. وامتدت أطراف الاخطبوط اللوبي إلى كلّ المؤسسات بدون استثناء. ووصلت إلى المجلس الوطني التأسيسي ٲو مجلس نواب الشعب؛ وطالت السلطة التنفيذية في كل من قرطاج والقصبة، وكذلك الوزارات والمجتمع المدني. ونرى على كل هذه المستويات مجموعات الضغط مستمرة في ممارسة نفوذها للتأثير في صناعة القرار.
وبلغ نفوذ اللوبيات في تونس أقصاه خلال السنوات الأولى للتحول الديمقراطي؛ زمن الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي بداية، قبل أن يشْتَدَّ في عهد الترويكا. وأشار إلى ذلك عياض بن عاشور بقوله: "ما عانَيْتُه من ضغوط وما تحملته من محاولات للتأثير عليّ خلال السنة التي قضَّيْتها على رأس الهيئة ليس له أية سابقة طيلة السبعين سنة من حياتي".
لقد أُطْلقَت الألسن بالحديث عن هذه الظاهرة، وشدّت هذه الحرب اهتمام الناس لهوْلها. واتسعت لتستهدف المنتَخَبِين وأصحاب القرار والحكومة والأحزاب والمنظمات الوطنية والمجتمع المدني. عديد الاطراف ضالعة في ذلك من مصادر خارجية في شكل منظمات غير حكومية تعمل لحساب بعض الدول وتنظيماتٌ مهنية تونسية ومجموعات اقتصادية ومنظمات ايديولوجية ودِينية. كُلٌّ يسعى إلى خدمة أغراضه الخاصة ومصالحه وفرض إرادته على نحو مباشر أو حيلةً وتستُّرا.
ولرسم معالم المشهد، وقبل الاستماع لشهود عيان ذي شأن سنورد شهاداتهم على ٲعمدة مجلة ليدرز في أعدادها القادمة، طلبْنا من غازي مبروك، وهو ٲحد أبرز روّاد اللوبينغ، أن يحدثنا بإيجاز عن واقع اللوبينغ في تونس، وذلك من وحي تجربته الطويلة على المستوى الدولي في هذا المجال ودرايتِه الواسعة بمجريات الأمور في تونس على هذا الصعيد. ويتضمن الحديث أفكارا وآراء وجيهة وهامة حول تأطير هذه الظاهرة بطريقة تسمح بالتوقِّي منها واستعمالها كأداة لخدمة مصالحنا.
اللوبيات
لكلمة "لوبيات" التي درجنا على استعمالها في تونس منذ سنة 2011 معنى يختلف تماما عن معنى اللوبينغ بالمفهوم الذي يهُمُّنا في سياق هذا الحديث. كلمة" لوبيات" كلمة مَعيبَة لا تخلو من هجونة كأن نقول "عصابات منظمة"، بخلاف كلمة "لوبينغ" التي يقترن معناها بنشاط مهني حقيقي وهو "الشؤون العامة".
وتتناهَى لمسامعنا أحاديث كثيرة عن "اللوبيات" في تونس وتُتداول على الألسن أسماءٌ قلة من الأشخاص ينشطون في الخفاء، يعرفهم كل الناس، وتُتَناقلُ حاليا أخبارُهم على نطاق واسع. الواقع أن هؤلاء الأشخاص يدورون في فلك آخر غير الفلك الذي يدور فيه ممتهنو اللوبينغ الحقيقيون، فـاللوبينغ مهنة لا تختلف عن باقي المهن.
تُعاني تونس الأمَرَّيْن من غياب هذا "اللوبينغ" المشروع، وتعاظمت معاناتُها خلال الست سنوات الأخيرة بينما كانت في حاجة ماسة له. المسؤولون في البلد على غير دراية بهذا الميدان لأنه خارج عن دائرة اهتماماتهم، ولأنهم على غير معرفة بأهميته ومحتواه وأبعاده الحقيقية. وها نحن ندفع اليوم ثمن كل ذلك.
اللوبيغ في تونس منذ الاستقلال
توفّق الحبيب بورقيبة قبل نصف قرن، بنظرته الثاقبة، إلى إنشاء نوع من اللوبينغ غير المسبوق، وكان رائدا بحق على هذا المستوى. ترى! من هو سيسل حوراني؟ قلة قليلة من الناس يعلمون منْ هو هذا اللبناني الذي شغل منصب مدير المكتب العربي بنيويورك، قبل أن يَحُطَّ الرحال بتونس في بداية الاستقلال، ويتولى منصب مستشار شخصي لبورقيبة. نجح سيسل حوراني في ربط الصلة بين بورقيبة وجلّ شبكات التأثير الغربية. وحاك خيوط اتصال مع هوكر دوليتل، القنصل العام الأمريكي في ذلك الوقت، ومع داغ همرشولد، السكرتير العام لمنظمة الأمم المتحدة الذي تحوّل إلى مدافع عن تونس وعن قضاياها ومصالحها.
وتألقت صورة تونس في عهد بورقيبة بفضل السياسة الخارجية التي توخاها الرئيس الحبيب بورقيبة، وما قام به حبيب بورقيبة الإبن من عمل جبّار في هذا المجال في الولايات المتحدة، والهادي مبروك في فرنسا. واقترنت صورة تونس هذه بقوة بشخصيات ذات شأن، على غرار السيدة منداس فرانس التي سقطت في حبّ تونس، بعد أن سمعت عنها الكثير من روّاد اللوبينغ زمن بورقيبة الذين استخدموا سياسة تأثير ناعمة تُعرف اليوم بـsoft power أي" القوة الناعمة". ولا ننسى ونحن نتكلم عن هذه القوة ما قامت به وسيلة بن عمار،" الموفدة الموقَّرة" (missi diminici) لدى أمراء الشرق الأوسط وملوكه وسلاطينه.
ماذا فعلنا منذ سنة 2011 في مجال التأثير وتلميع الصورة؟
هل كانت صياغة فصول الدستور ووضْعُ مشاريع القوانين حقيقة ثمرة تدخلات وأعمال قامت بها مجموعات اللوبينغ في تونس ما بَعد الثورة، على غرار ما يحدث في عدد من البلدان الغربية ؟ لا مجال لإنكار وجود مجموعات مصالح في تونس نراها تسعى إلى النزول بكل ثقلها للتأثير في القرارات السياسية. ولا يتعلق الٲمر في الواقع بمجموعات ضغط تتعاطى نشاطا بالمعنى المهني للكلمة. غاية ما في الأمر أن في تونس اليوم "احتكاك لصفائح تكتونية" من مجموعات متحزبة تضرب عرض الحائط بأساليب وطرق اللوبينغ السائدة، كما هو الٲمر في أوروبا. فأي حديث عن تقنيات تأثير على أساس اللوبينغ يبقى كلام مجرد من كل موضوعية، وإنما هي محض "لُعْبة قذرة" لا علاقة لها بالديمقراطية، عكس اللوبينغ تماما.
ٲمّا النجاعة فتعني استعمال طرق لا يمكن أن تُرتجل ارتجالا؛ هي طرق تَحْتمل مقاربات عديدة وتبقى من شأن ذوي الخبرة والاختصاص ذلك ٲنّ التأثير فنّ يستعصي على غير أهله.
لقد وُجِد في تونس ما بعد 2011 أناس مارسوا اللوبينغ المهني. وقد أبلى الإخوان المسلمون البلاء الحسن في هذا المجال. فقد نجحوا في كسب وِدّ أحد أعضاء مجلس الشيوخ في الولايات المتحدة الأمريكية وأحد الوزراء في الإدارة الأمريكية، وجرَّا في سياقهما رئيس الولايات المتحدة وذلك قبل أن تتغير الأوضاع في الآونة الأخيرة. واليوم يذهبون بعيدا في تفكيك حزب نداء تونس. أمّا ما عداهم من المسؤولين وأصحاب القرار، فلم يولوا الأمر أهمية تذكر. كما فوًتوا على البلاد فرصة كانت سانحة إبّان انعقاد مؤتمر مجموعة الثمانية في دوفيل في ماي 2011، والحال أنه كان بوسعهم لو شاءوا المبادرة إلى إطلاق عملية لوبينغ حقيقية وحمل الجهات المانحة على تنفيذ وعود بتقديم العون لتونس وفق خطة شبيهة بخطة مارشال ... لكن الفرصة ضاعت.
كيف يتم تأطير اللوبينغ ؟
"كيف يتم تأطير اللوبينغ في تونس اليوم؟" هو سؤال مشروع، لكنه غير مطروح في واقع الحال لسبب بسيط، وهو أنه لا وجود للوبينغ في تونس اليوم. السؤال الجدير بأن يطرح حقيقةً هو: كيف يمكن تأطير اللوبيات ؟ ألم نلمس أهمية هذا السؤال في ماض غير بعيد وبمناسبة التحضير لمؤتمر تونس 2020 ؟ رأينا وقتها كيف أن أحد مصارف الأعمال الفرنسية جال وصال في إحدى الوزارات، ثم رأينا كيف أن مجموعة يقودها وزير اقتصاد فرنسي سابق تفوز بعقد بثمن بخس، رغم ذيوع صيتها، قبل أن تُخْلي المكان لأسباب لا تتعلق باللوبينغ، بل لأسباب " قرارية".
نرجو أن تتوفق تونس ويتوفق التونسيون إلى تجاوز هذه الفترة التي نراها، نقول ذلك من باب التواضع، غير قابلة للتوصيف والتعريف، حتى تنتظم الأمور، وتهدأ بما يخدم المصلحة العامة، وذلك بإيجاد لوبينغ مهني ومُعلَن في مناخ من الديمقراطية، والنأي عن تلك الأعمال التي تجري في الظلام وتغرق في بحور الظلامية.
غازي المبروك