شهادة لطفي زيتــون: السيـرة والمـواقــف
من عناصر الجذب في معرض تونس للكتاب في دورته الأخيرة، مؤلَّف صادر عن دار آفاق -برسبكتيف للنشر بتـونس، عنــوانه «لطفي زيتون، سيرة ابن نقابي «عاشـــوري» أصبح نهضويّا». هو في الواقع كتاب حواري يفتتح سلسلة من الشهادات التاريخية لنشطاء سياسيّين واجتماعيين وثقافيين عن عصرهم الهدف منها «توفير مراجع لكتابة التاريخ المعاصر وتاريخ الزمن الراهن» وفي الآن ذاته المساهمة في «فتح حوار جدّي ومسؤول بين مختلف الفرقاء على قاعدة أفكار من مصدرها».
وقد اختار الناشر الأستاذ عبد الجليل بوقرّة أن تكون البداية مع القيادي من حركة النهضة لطفي زيتون.
يتضمّن الكتاب الذي لا يخلو من أهميّة ثلاثة محاور أساسيّة وهي:
- المسار الشخصي للطفي زيتون ودوافع انضمامه تلميذا إلى حركة الاتّجاه الإسلامي والتي أصبحت تسمّى في ما بعد حركة النهضة،
- مواقف حركة النهضة ونشاطها سواء في تونس أو في المهجر،
- تجربة لطفي زيتون السياسية ورؤاه بشأن القضايا المطروحة داخل حركة النهضة وقراءته الشخصية لتاريخ تونس المعاصر منذ الاستقلال إلى انهيار نظام بن علي في 14 جانفي 2011.
من خلال الحوار تنكشف ملامح شخصية ومواقف هذا القيادي الذي استقرّ في بداية تسعينات القرن الماضي بلندن حيث أصبح ضمن الدائرة المقرّبة لراشد الغنوشي، قبل العودة إلى تونس بعد الثورة. ولا شكّ أنّ أبرز استنتاج يخرج به القارئ بعد مطالعة الكتاب أنّ لطفي زيتون هو من أكبر المتحمّسين للتيّار الداعي إلى «تأسيـــس حــــزب يترجــم أفكار الإسلاميين إلى برنامج سياسي واقتصادي خال من أيّ إشارة للمقدّس». هذا ما يعلنه، على الأقلّ، صراحة وبقوّة.
ولكنّ الإسئلة التي نشترك في طرحها مع عبد الجليل بوقرّة هي التالية : «هل ستتجــرّأ النّهضة على الانخراط في مسار قد يقلب توجّهاتها رأسا على عقب ويغيّر بوصلتها وموقعها؟ وهـل لديهـــا ما يكفي من الكفاءات ضمن قيادييها من هم قادرون على الانتقال بها من عهد رفع راية الهويّة بالفضاءات المسجديّة إلى عهد العمل الحزبي السياسي العصري في فضاءاته التقليدية المعلومة وببرامج اقتصادية واجتماعية معبّرة عن مطامح جزء من المجتمع التونسي يجد فيها ذاته ويندفع لتبنّيها والدفاع عنها»؟
من هذا الكتاب، ننشر ورقات من البابين الأخيرين المتعلّقين بتونس ما بعد الثورة وبفترة حكم الترويكا.
بماذا سأشغل نفسي؟
بخصوص ذكرياته عن يوم 14 جانفي 2011 يقول لطفي زيتون:
«ارتبط يوم 14 جانفي عندي بمفارقة غريبة عشتها ولم أكن أتوقّعها، إذ عندما تمّ الإعلان عن مغادرة بن علي لتونس تبادل الناس التهاني وانتشرت حالة من الفرح لدى الكثير من التوانسة، انتابني إحساس غريب حيث شعرت كأنّي فقدت شخصا ارتبطت به سنوات طويلة من حياتي وكانت متابعة مواقفه وسياسته والتصدّي لها خبزي اليومي بصفتي عضوا في المكتب السياسي والمكتب التنفيذي لحركة النهضة مكلّفا بالإعلام في الخارج. لقد بنيت حياتي على أساس مقاومة بن علي والعمل على إفشال برامجه والمساهمة في إسقاط نظامه، ذلك كان شغلي الشّاغل اليومي، لكن فجأة توقّف كلّ شيء وغادر بن علي الحكم والبلاد، فماذا سأفعل الآن، وبماذا سأشغل نفسي؟ (تساءل ضاحكا)»
الأسلوب القديم لم يعد يستجيب لواقع تونس الجديد وعمّا إذا كان الأستاذ راشد الغنوشي ينوي الرجوع إلى تونس يوم 14 جانفي، يعني قبل حتى خروج بن علي، يجيب لطفي زيتون:
«عندما بدأت الإضرابات العامة الجهوية وما رافقها من مظاهرات جماهيرية ضخمة : صفاقس والقيروان وجهات أخرى، تساءلنا في الخارج عن جدوى بقائنا بعيدين عن بلدنا الذي يعيش ثورة جعلت النظام يفقد السيطرة على الأوضاع، ولكن الصعوبة كانت تكمن في طريقة العودة خاصة وأجهزة النظام تعرفنا جيّدا ويستحيل علينا التسرّب والمشاركة في الثورة، لذلك صرفنا النظر عن الرجوع في انتظار ما تفرزه التطوّرات بتونس. المهمّ عاد الشيخ راشد الغنوشي يوم 30 جانفي بعد حصول نقاشات مطوّلة داخل حركة النهضة محورها: في أيّ صورة نعود إلى النشاط؟ هل نستعيد الشكل القديم والأساليب القديمة من طلب تأشيرة لحركة النهضة وتركيز هيأة سياسية وقيادة وانخراط في ذلك الصراع القديم- الجديد حول الهويّة؟ أم نبتكر أساليب نشاط جديدة، شكلا ومضمونا، تأخذ بعين الاعتبار أن الأوضاع تغيّرت جذريا بفعل الثورة وانفتحت آفاق جديدة للعمل السياسي تتطلّب منّا التأقلم معها؟ اختار الإخوة استئناف العمل على الطريقة القديمة، وشكّل ذلك لي خيبة كبيرة على المستوى الشخصي حيث كنت قد وصلت إلى قناعة أنّ الأسلوب القديم لم يعد يستجيب لواقع تونس الجديد وسيتسبّب لنا في عدّة متاعب ليس أقلّها الانقسامات. كنت متيقّنا أنّ واقع تونس السياسي والاجتماعي لا يحتمل وجود حركة سياسية بمثل شمولية حركة النّهضة، فيها الدعوي والثقافي والسياسي والرياضي والشبابي، وبمثل تراثها وإغراقها الإيديولوجي وتزاحم الشرعيات داخلها، لذا أرى من المنطقي أن تعود الحركة إلى نشاطها دون الحاجة إلى طلب تأشيرة بعد حصول ثورة في البلد، وتترك حرية المبادرة السياسية لمن يرغب في الانخراط في الصراع السياسي بتكوين أحزاب سياسية مختلفة، فنحن متنوّعون سياسيا ولسنا تيّارا واحدا، ونظرياتنا الاقتصادية مختلفة ومنحدراتنا الاجتماعية مختلفة أيضا، بحيث لا معنى أن تطلب من ابن الأحياء الشعبية الانخراط في حزب ليبرالي أو العكس، فكلّ واحد سيدافع في آخر الأمر على مصالح فئته، وهذا هو معنى الصراع الديمقراطي المدني. فالمطلوب في واقع تونس الجديد هو أدوات صراع تقليدية أي أحزاب ببرامج اقتصادية واجتماعية مختلفة، إذ نحن متّفقون جميعا حول حدود تونس ورايتها ودينها ولغتها ومتّفقون أيضا حول المحافظة على المكتسبات في القطاع العام كالنقل الحديدي والصحة والتعليم مثلا، ولكن مختلفون حول وسائل التنمية ونظرتنا للضرائب، من يدفعها وقيمتها... ولكن كان للإخوة في تونس تصوّر آخر، إذ لم يكونوا متأكّدين من تغيّر النظام وكانوا متخوّفين من عودة الدكتاتورية لذلك رغبوا في استعادة سيناريو طلب تأشيرة لعودة الحركة في شكلها القديم مع استبعاد المهجريين، أو تمكينهم من حيّز صغير، على اعتبارهم يشكّلون الجانب الصدامي الذي قاوم بن علي في المنابر الإعلامية بالخارج على امتداد عشريتين وقادوا الصّراع معه، لذلك اعتقدوا أنّ وجودنا في الصّورة قد يشكّل استفزازا، وقد يتسبّب في عودة الاستبداد... كذا... إذن عدنا مع توزّع كبير في الأفكار، بين من عاش في أعرق الديمقراطيات وأكثرها تقدّما وبين من عاش في بلدان تفصلها عدّة سنوات ضوئية عن الديمقراطية، وعدنا مع تاريخنا الذي تتزاحم فيه الشرعيات: شرعية السّجن، وشرعية الأحكام الثقيلة، وشرعية عدم الانسحاب من النّهضة... إضافة إلى تنوّع مصطنع واختلافات شخصيّة ومزاجيّة بفعل المحنة التي ضربت النسيج المجتمعي للنّهضة. صحيح أن النّهضة عرفت خلافات فكرية وسياسية داخلها، وكان ذلك أمرا طبيعيا غير أنّ المحنة التي تعرّض لها أبناؤها تسبّبت في حصول تشويهات واختلافات من نوع جديد، فمثلا لا يمكن أن يحصل انسجام وتماثل كلّي بين من اكتسب المعرفة في المهجر ومن اكتسب الشرعية في السجن، إضافة إلى الازدواجية التي سبق الحديث عنها بين السياسي والتنظيمي، فالنهضة لم تخلق تيّارا دعويّا خالصا والجميع غرق في السياسة».
تمنّيت لو تولّى مورو إمامة جامع الزيتونة
«... الحبيب اللوز لا يتحدّث في الدعوة إلاّ داخل هياكل النّهضة أمّا في الفضاءات الدينية يصبح سياسيّا بامتياز، والصادق شورو سياسي محترف فهو من قاد المواجهة مع الدولة سنة 1992 وتعرّض للسّجن بسبب ذلك، وبعد الثورة لم يتولّ إمامة مسجد بل أصبح نائبا بالمجلس الوطني التأسيسي، وعبدالفتاح مورو الذي يعتبر من أفضل الدّعاة ليس في تونس فحسب بل على مستوى العالم الإسلامي لما يمتلكه من ثقافة واسعة ومتنوّعة ولسماحته وقدرته على الإقناع، وهي خصال لصاحبها القدرة على إبعاد شبابنا عن التطرّف والإرهاب، وكم تمنّيت لو أنّ مورو تولّى إمامة جامع الزيتونة وردّ الاعتبار للمؤسّسة الدينية التي عانت من التهميش «والتهنتيل»، ولكنّه اختار أيضا أن يقوم بدور سياسي هامشي وأصبح نائب رئيس البرلمان ثمّ يستغرب بعضنا من انخراط بعض شبابنا في داعش وتبنّيهم لمنهج التكفير والإرهاب !!! لكلّ هذه الاعتبارات تبقى الحاجة قائمة إلى مؤسّسة دينية تحظى بالاحترام وقادرة على الإقناع.
أغوتنا السّلطة
ويقيّم لطفي زيتون فترة حكم الترويكا قائلا بالخصوص : «لقد أغوتنا السلطة واكتفينا بتشكيل حكومة مع حزبين فقط قبلا التعامل معنا ولم نبذل ما يكفي من الجهد لإقناع الرافضين والمتردّدين، وتخلّينا عن روح 18 أكتوبر، ذلك الميثاق الذي وحّد بين الإسلاميين والديمقراطيين والذي يبقى من أرقى ما أنتجته النخب السياسية بتونس. لا تتحمّل النّهضة وحدها مسؤولية ذلك الانقسام والابتعاد عـــن روح 18 أكتوبر بـل اختار نجيب الشابي طريقا منفردا رغم كونه يعتبر من أهمّ منشّطي حركة 18 أكتوبر شكلا ومضمونا».
التحوّل إلى حزب سياسي
وبشأن الخيارات التي طرحها حتّى «تقدّم التجربة التونسيّة نموذجا للساحة الإسلامية وهي تستأنف حياتها» يضيف لطفي زيتون قوله:
«أن يمضي الإسلاميون في إعادة تاسيس مشروعهم بما يضمن الفصل التّام والصّارم بين الحركة الإسلامية التي تحدّثنا عن مهامّها ... وهي حركة بعيدة عن المنافسة السياسية والصّراع على السّلطة تتوجّه إلى المجتمع لخدمته ورعاية مصالحه تقف على الحياد أو ما يقرب منه بين مختلف التيارات السياسية، وفي المقابل يتأسّس حزب يترجم أفكار الإسلاميين إلى برنامج سياسي واقتصادي خال من أيّ إشارة للمقدّس مؤكدا على أنّه مجرّد اجتهاد بشري كبقيّة الاجتهادات يجتمع حوله كلّ من يؤمن بالبرنامج من مختلف المرجعيات الفكرية ويكون حزبا جامعا مؤهّلا للحكم انعكاسا لتنوع المجتمع التونسي، أو المضي قدما في المسلك الذي انتهجته الحركة إلى الآن وهو التّحوّل إلى حزب سياسي وهذا يقتضي جراحات كبيرة على المستوى الداخلي من مراجعة للخطاب وتوسيع لدائرة الاستقطاب وتعديل للمسلك السياسي وهي مهمّة صعبة وطويلة لا يمكن الحديث عن إنجازات فيها بمجرّد ما نلاحظه من تنوّع في الخطاب السياسي بل يقتضي الأمر صيرورة من الامتحانات العملية من مثل الحملات الانتخابية والمشاركة البرلمانية وفي الحكم وتقتضي كذلك صبرا من كل المختلفين الذين لا يقلون ارتباكا في الواقع عن الإسلاميين.
السياسة الإعلامية كانت تُطبخ بين حمّادي الجبالي ومحيطه القريب وفي ما يخصّ الاغتيالات السياسية التي تمّت في عهد الترويكا يردّ القيادي في حركة النهضة:
«استقلت من الحكومة قبل بداية الاغتيالات لأنّي لاحظت تلبّد سماء تونس بغيوم سوداء منذرة بمخاطر جمّة.
كانت بلادنا آنذاك تعيش في مفترق طرق بين تحقيق أهداف الثّورة وإنجاز انتقال ديمقراطي سلمي وبين انتشار الانفلات الأمني والإداري والإعلامي... الذي سيؤدّي إلى سقوط السقف على الجميع وغرق السّفينة كما حصل في بلدان الربيع العربي الأخرى. بدأ التوتر يتصاعد بداية من شهر جويلية 2012 بالإعلان عن تأسيس نداء تونس وما صاحبه من ارتفاع منسوب التوتر السياسي والإعلامي وإضرابات واسعة في صفوف عملة البلديات ممّا أدّى إلى تراكم القمامة في شوارع تونس بشكل غير مسبوق. ثم جاء شهر أوت ليتمّ اعتقال مالك إحدى القنوات التلفزية [المقصود سامي الفهري، صاحب قناة التونسية] في قرار غامض وقد تمّ تحميلي مسؤولية ذلك وهنا أفتح قوسا لأؤكّد أنّ موقع المستشار المكلّف بالشؤون السياسية وأدائي الإعلامي الموجّه للدفاع عن سياسات الحكومة باعتباره من صلب مهمّتي جعل منّي هدفا سهلا للاتّهامات من كل الجهات المغرضة من داخل الترويكا والنّهضة وخارجها في لعبة كبش الفداء التقليدية. وكمثال على ذلك تحميلي وزر السياسة الإعلامية للترويكا بينما لم تكن لي علاقة بالموضوع البتّة وكانت تلك السياسة تطبخ بين رئيس الحكومة (حمّادي الجبالي) ومحيطه القريب وبعض النّافذين في النّهضة بعيدا عن رئاسة الحكومة وباعتبار مهمّتي وواجب التّضامن الحكومي والحزبي كنت ملزما بالدّفاع عن هذه السياسات أحيانا أو عدم الردّ على الاتّهامات والتشويه»...
- اكتب تعليق
- تعليق