النّخــب والتعدّد واكـتـــــشــاف السّيــــاســـة

النّخــب والتعدّد واكـتـــــشــاف السّيــــاســـة

1 - ماذا لو التقتْ نخبٌ علمانية حداثية وأخرى إسلامية عروبية من توجّهات مختلفة في ورشات عمل ونقاش بعيدا عن ضغوط وسائل الإعلام وإكراهات التنظيمات الحزبية الإيديولوجية وإغواء المال الدافق لتتفاعل بعيدا عن مضائق التشنُّج وتعالج إمكانيات التّعايش السلمي بين الفاعلين السياسيين في عموم المنطقة المغاربية وخصوص البلاد التونسية؟

2 - هل لمثل هذا التوجُّه بصيغه الدراسية الاستقصائية التي قلّما تَجْرُؤ عليها الأطراف البحثية أو التواصلية أو الإعلامية حظوظُ التوصّلِ، ضمن الفضاء التونسي خاصة، إلى بناء حوار جادٍّ يعالج تحديات العمل المشترك بعيدا عن التشكيك في النوايا وتبادل تهم التخوين والظّلامية والاستئصال؟

كيف لمجتمع لم يتعوّد على ممارسةٍ سياسية تعددية، كما هو الشأن في تونس، أن تتحرّر نخبه من مواقع «الإخْوَة المُتعادين»لتؤسس مجالا للاختلاف والتّنافس والتّعايش ضمن دائرة المواطنة المرسخة للدولة «المدنيّة» التي تتعيّن مهمتُها الأساسية من دلالة تسميتِها تلك بما تركّزه من إدارة التمدُّنِ وتيسير صناعة التّقدم؟

هل يُتاح للنخب في تونس أن تغادر المقولة التي تُرجع أسباب الإخفاق والتّخلفّ إما إلى التّصورّات الثّقافية -الدّينية السّائدة لدى العموم باعتبارها التصورات الوحيدة المؤكدة على تناقض المرجعية الدّينيّة مع المقاربة العلميّة ومسعى المعاصرة وإمّا إلى اعتبارات تقنية واختيارات اقتصادية أو أمنية - عسكرية يستدعيها الحضور المكثّف «للغزو الاستعماري الجديد»؟

لماذا لا تتوقّف النّخب بصورة فاحصة، خاصّة بعد التّعثّرات الممتدّة قبل الثّورة وبعدها، عند الأسباب الثقافية - الاجتماعية والسياسية وما يرتبط بها من خلل في التوازن الاجتماعي المُفتَقِـر لقاعدة وَحدَتِه الجامعة العامل في بنائها على مبدأي الحرية والكرامة؟

3 - هذه الأسئلة الموجّهة للنّخب التونسية خاصة والمغاربية عامة وإن بدت أقرب لليوتوبيا البعيدة المنال فإن المؤكد أن بعض الأطراف الأجنبية تبدو مَعنيّة بها وساهرة على تحقيقها ولو جزئيا رغم المصاعب الجَمَّة التي تواجهها. نحن أمام مفارقة مُهِمَّة بما تثيره من قلقٍ وتَوَقُّفٍ إذ أنها تتّصل بحرص قسم من الأجانب،من جهة،على تجسير العلاقة بين النخب المختلفة المشارب لتطوير علاقاتها البَيْنِيّة قصد بناء فكر وممارسة مختلفين وتسعى، من جهة أخرى، للعمل المشترك من أجل ثقافة جديدة للدولة يتركز عمل مؤسساتها على إدارة الاختلاف السياسي والاجتماعي.غير أن هذا المسعى يُقابَل بزهد عموم النخب فيه، صميم مفارقة « الإخوة المُتعادين» تتمثّل في أنهم ما يزالون خاضعين لتوقيتٍ تصوّري يرجع إلى ما قبل سقوط النماذج الشّمولية الكبرى الذي تأكّد بصورة كاملة مع نهاية القرن الميلادي الماضي الموافق لمطلع القرن الخامس عشر الهجري. هي معضلة جعلت عموم النخب المعاصرة تعيش حالة تُشبه فصام الوعي. تظلّ هذه النّخب، من ناحية البناء الثقافي وما يُرسيه من نظرة إلى العالم، مشدودةً إلى إحدى منزلتين أساسيتين: منزلة ُالخطاب التّراثي الذي يعتبر أن الهويّة الثقافية - الدّينية لا صلة لها بمقتضيات العصر وقيمه والتي من أبرزها قيمة «التعدّد» المعبرة عن التمدُّن والمُفضية إلى ديناميكية «التّعارف»في تمثُّلٍ مختلفٍ نوعيا عن مفهوم «الكثرة» المؤدية للسّجال والتّشرذم والتوحُّش. هي في هذه المنزلة منغمسة في علاقة تصادم مع الآخر لا ترى معه، في أفضل الحالات، أكثر مما أقرّه رجال الشّرع من السّلف فيما يتّصل بأهل الذّمّة.

4 - إزاءها تَمْثُــلُ منزلة ثانية، منزلةُ من يرى ضرورة توطين الحضارة الوافدة واستـنبات قيمها تـَوقّـيًّا من خطرِ التّهميش التاريخي واعتبارا لعجز الثّقافة المحلية عن استيعاب مطالب الحضارة العصريّة.

نحن أمام وجهين لبنية ثقافيّة واحدة، بنية «التّمركز على الذّات»، تمركزٌ يصادر كل تنوّع وتعدّد داخل مجتمعه وفي علاقته بما يعتمل في المجتمعات الإنسانية الأخرى.

يكشف هذا التّمركز وهمَ ما يظهر من تباين بين أصحاب المنزلتين، إنه يعرّيه فيُبْدي إعاقته ومحدوديته لكون المنزلتين كلتيهما لا تـُقرّان بأهمية التّعدّد الذي يعتمل في روحية كل ثقافة وفي دينامية كل عصر وفي أعماق كل مجتمع.

في هذا الخصوص يكون المجتمع، في مفهوم النّخب المتشبّثة بالتّمركز على الذّات، وحدةً صمّاء متماثلة لا تعدو أن تكون الخلافات والنزاعات التي تظهر فيها سوى أمور شكلية عارضة لا تغيّر من طبيعتها ومن تضامن مكوّناتها. هو تصوُّر موهوم لأنه يُلغي قيمة الأفراد والفئات والطّبقات والمصالح والجهات تلك العناصر التي تصنع حيويّة المجتمع وحراكه المتواصل والتي تهدّد وحدته إن وقع دوسها والاستهانة بها.

المجتمع على ذلك هو إئْتلافٌ مُهيكَلٌ من الأفراد بواسطة روابط تبعيّة متبادلة وهو قابل للتطور بفضل مشاغله ورغباته ووعيه وأفعاله وبما له من قدرة على رفض أيّ تسلُّط يُفرَض عليه ليُهَنْدِسَ خصائصه ومستقبله.

5 - لكن أخطر ما في التّمركز هو أنّه يُفضي بكلتا المنزلتين، التّراثية والتّحديثية، إلى عدم تقدير أهمية التّاريخ بخطاباته المتعدّدة،لذلك تَقْصُرُ المنزلتان عن فهم دلالاته فضلا عن المساهمة في صناعته مجدّدا

يظهر هذا في ما آل إليه أمر «الإخوة» التراثيين الوثوقيين. لقد ظلّوا ضائقين ذرعا بزمنهم وقيمه وتوجّهاته الفكرية، يسعون إلى عصر ذهبي فلا يعملون إلاّ على إعادة إنتاج أنفسهم معرفيا. من هنا تعذّر بناء فكر معاصر لأن الاستقالة السهلة أو الاحتجاج الدائم لا يعبِّران عن وعي سَوِيٍّ بل يكتفيان بتسجيل موقف لا يفضي في النهاية إلاّ إلى عنف العاجزين. أما «الإخوة» تَحْديثِيو ما قبل نهاية الحرب الباردة ومُنضَوون في مقولة «ليس بالإمكان أفضل مما كان» فلا ينظرون من جهتهم إلى تاريخ الغرب بعقل ناقد ولا يعيدون النظر في حداثته بل يعملون على استنساخها على اعتبارها مكتسبات إنسانية واكتشافات عقلية نهائية. ذلك ما شوهد في عموم التّحديث العربي في العقود الماضية في أكثر من قُطر: تحديثٌ هشّ وجزئي صاحبَتْه مصادرةٌ للتنوّع وقمعٌ للاختلاف ممّا جعل الجهود الفكرية والسياسية حسيرةً وغير مبدعة

في تقويم حصاد منزلتي «الإخوة المُتعادين» يمكن القول بأنه ليس هناك بينهما فرق في الجوهر لأنهما في تمركزهما يُهْدِران قيمة الاختلاف فلا يراهنان عليها بل يضاعفان من هــامشية مجتمعاتهم وقابليتها للاحتراب.

6 - ثم إن للتاريخ وجهاً آخر لا يوليه «الإخوةُ المُتعادون» العناية التي يستحقّ بما يؤكّد إعراضهم عن أيّ مسعى حواري نوعي مع المختلف المغاير. الأمر موصول بمعاداة المعتقدات والأفكار التي يحملها كل طرف دون النظر إلى دينميتها الاجتماعية التي أفرزتها والتي تَمُدُّها بالتّمكين.هي معاداة للمعتقدات والأفكار في ذاتها دون دلالتها الاجتماعية والتاريخية. هو فصلٌ بين المبدأ والفكرة وبين مجراهما السياقي وهو نظرٌ للتاريخ الفكري والثقافي من زاوية إيديولوجية خالصة.الأساس المنهجي لهذا الفصل يسمح بمقارنةٍ مجرّدة بين المعارف والقيم بناء على أن الوعي السياسي والاجتماعي لكل طرف إنما هو بناء عقلي ثابت في شكله ومضمونه وليس حصيلة حيّة ومركّبة لجملة الممارسات الاجتماعية وما تعتمده من بنية ثقافية ورؤية للإنسان والعالم.هذا ما يوقع عموم النّخب في أفهام ذاتية وتأويلات إيديولوجية عاجزة عن التكامل الواعي بتاريخية الأفكار وقوانين فاعليتها بما يغلق الباب على إمكان تفعيلها وتجديدها.

هذا الغياب للمنهج الاجتماعي التّاريخي في فهم المعتقدات  والأفكار وإمكانيات تطورها وطاقة تأثيرها في حراك المجتمع هو الذي يحصر النّخب في دائرة الوثوقية الناقدة والمغلقة التي تعزلها عن الفعل التاريخي وعن تواصلها المجتمعي.

7 - ما نعاينه اليوم في السياق التونسي من عزوف عن المشاركة في العمل السياسي السلمي والمدني خاصّة عند الشباب الذي ينخرط في المقاطعة المقصودة للاستحقاقات الانتخابية المختلفة يؤكّد أن الأمر ليس نتيجة فقر معرفي أو سياسي.

أهمّ دلالة لهذا العزوف هي خيبة الأمل الكاسحة في طبقة سياسية لا يميّزها مشروع وطنيّ وهي لذلك لا تستطيع أن تفي بوعودها مما يضاعف من المناكفات الحزبية الفاضحة ويجعل قابلية لقاء الكفاءات السياسية على صعيد عملي واحد أمرا متعذّرا.

الخروج من هذا المأزق، في تونس خاصّة، يبدأ،من جهة، بإعادة اكتشاف السياسة باعتبارها وعيا بضرورة التّعامل مع التّناقضات. هذا يمكّن من ترسيم معالم وحدود مساهمةِ كل طرف من أطراف الفاعلية السياسية وما يعضدها من الكفاءات الأكادمية والفكرية والمثقفة والإعلامية في بلورة القواسم التي تتعارف عليها أطراف الطيف السياسي الاجتماعي والتشارك فيها تفعيلا وإثراء. من جهة ثانية يتطلّب بناءُ حياة سياسية عصرية وفاعلة للنهوض بالرأي العام وإعادة بناء العلاقة بين المجتمع والدولة التحررَ من الأوهام الكبرى الثلاثة: وهم «نهاية التاريخ» ووهم أن «السياسة فنّ الممكن» وأخيرا وهم امتلاك طرف أو تيّار من الأطراف السياسية البديلَ الفكريَّ السّياسيّ الجاهز.

احميده النيفر

رئيس رابطة تونس للثقافة والتعدّد

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.