عبد الحفيظ الهرقام: جيل جديد لسياسة مغايرة
من الغريب أن تبدو جهات أجنبية، في بعض الحالات، أكثر حرصا من مسؤولين تونسيين على متابعة تنفيذ برامج ومشاريع، رُصدت لها اعتمادات في نطاق التعاون الثنائي ومتعدّد الأطراف أو أطلقت بشأنها وعود بالتمويل!
والأغرب من ذلك أن تولي هذه الجهات اهتماما للشؤون الوطنية، السياسية منها والاقتصادية والاجتماعية، يتجاوز أحيانا اهتمام التونسيين أنفسهم بهذه الشؤون، وقد انتابها شعور بالحيرة والقلق، إزاء مخاطر تفكّك الدولة وانفراط عقد الوحدة الوطنية وانزلاق البلاد في متاهات الفتنة والاحتراب!!
بل إنّ دوائر دبلوماسية غربية لا تخفي سعيها إلى الإسهام في ردم الهوّة بين فاعلين سياسيين من مشارب واتجاهات مختلفة بغية تطوير علاقاتهم البينية وإرساء قواعد ممارسة سياسية جديدة.
ومردّ هذه "الرعاية"، في تقديرنا، إمّا رغبة في التأثير في الساحة التونسية في إطار لعبة المصالح والنفوذ أو انشغال بمدى قدرة تونس على الخروج من نفق أزمتها الاقتصادية والاجتماعية الخانقة والنجاح في توطيد أركان ديمقراطيتها الناشئة لتكون مثالا يحتذى في منطقتها ودرعا حصينا ضدّ رياح الفوضى والانفلات الأمني في محيطها الجغرافي، كما يمكن أن يكون منطلقُ هذه الرعاية" العامليْن المذكوريْن مجتمعيْن.
ومهما يكن من أمر، فإنّ أهليّة الطبقة السياسية في تونس لقيادة المرحلة الراهنة بكلّ ما يعتمل فيها من إشكالات عويصة تبقى موضع تساؤل دائم في الداخل والخارج.
لا يتردّد كثيرون في القول إنّ مأساة تونس تكمن في ساستها، معتبرين أنّ هؤلاء يفتقرون، في معظمهم، إلى الجرأة والخيال المبدع وتعوزهم التجربة الكافية وسعة الأفق الفكري للتعامل مع قضايا معقّدة تستدعي حلولا مجدِّدة تقطع مع المسالك المألوفة والقوالب الجاهزة.
اختار عدد من الساسة العزف على أوتار الجهويّة المقيتة قصد إثارة الفتن والقلاقل لأتفه الأسباب معتقدين أنّ تحريك الشارع هو الطريق إلى السلطة، وبرع البعض الأخر في فنون الخداع والمخاتلة والشعبوية فابتدع منها تيّارا يتاجر بآلام المستضعفين ويطلق المناطيد لتحلّق براكبيها في سماء الأوهام، ومن الساسة من تضخّم عنده "الأنا" وتملّكه الغرور فأضحى مؤمنا بمستقبله السياسي، منقذا لتونس..
وجد جميعهم في منابر إذاعية وتلفزية تبحث عن الإثارة وتوسيع دائرة انتشارها مجالا لتقديم عروض هي أقرب إلى الفرجة الإعلامية من الطرح السياسي الجادّ والعميق.
في المقابل، لم تقدر حكومة يوسف الشاهد إلى الآن على التقدّم بخطوات واثقة في تنفيذ ما وعدت به منذ تشكيلها في أوت الماضي، ولا سيّما فرض سلطان القانون ومحاربة الفساد ومحاصرة التهريب وإنجاز الإصلاحات الكبرى في المجالات الاقتصادية والمالية والاجتماعية، فصارت نتيجة ذلك هدفا لسهام معارضيها و"مسانديها" على حدّ سواء، وتحوّلت الوحدة الوطنية التي انبنت عليها إلى مجرّد شعار أجوف.
ولعلّ من بين أسباب ذلك ما يعرفه الميدان السياسي من فورة بعد إعلان موعد الانتخابات البلدية وانتصاف المدّة الرئاسيّة الحاليّة، ممّا حمل عددا من الفاعلين السياسيين إلى التموقع من الآن في المشهد الوطني، استعدادا لهذه الانتخابات وكذلك لانتخابات 2019 الرئاسية والتشريعية.
بات جليّا أنّ عددا من الوجوه منهم محسن مرزوق وياسين براهيم والمهدي جمعة وسليم الرياحي أقرّوا العزم على لعب الأدوار الأولى، وعدم ترك الساحة ليوسف الشاهد، في حين لا يُستبعد أن تدفع حركة النهضة وأحزاب أخرى بقيادات شابّة إلى واجهة العمل السياسي في المستقبل القريب. هل هي بداية الصراع بين المنتمين إلى جيل أصحاب الأربعين والخمسين عاما؟ ما عساهم يقدّمون إلى الحياة السياسية من إضافات في الأشهر والأعوام المقبلة أم أنّ دار لقمان ستظلّ على حالها؟ هل ستساهم الانتخابات البلدية القادمة في بروز كفاءات في المدن والقرى التونسية تعطي نفسا جديدا للممارسة السياسية وتُدخل تغييرا جذريا على ملامح المشهد العام؟
أملنا أن تولد من رحم العبقرية التونسية التي استطاعت بفضلها البلاد أن تتخطّى في مراحل عدّة من تاريخها أحلك الفترات وأشدّ الأزمات نخبةٌ واعية، قادرة على الاضطلاع بأعباء الحكم وإدارة الاختلاف في إطار وطني صرف وتعمل بجدّ على إعادة بناء العلاقة بين الدولة والمجتمع وتجتهد في صياغة مشروع وطني جامع يصون وحدة التونسيين ويضع البلاد على درب الخلاص.
عبد الحفيظ الهرقام
- اكتب تعليق
- تعليق