الصحبي الوهايبي: فــي أفضـال الحــذاء
هناك المنتعِلَ وهو حافٍ؛ وهناك الحافي وهو منتعِل؛ وهناك الرَّجُل المنتعِل والرَّجُل المنتعَل، بكسر العين ونصبها؛ وهناك حافي الجيب وحافي الرّأس؛ ولو أنّ أفضال الحذاء على الإنسان لا نزاع فيها ولا جدال، فهو يردّ عنه وعرَ الطّريق، وما أطول وعر الطّريق في هذه الأيّام الوعرة؛ وفيه مآرب أخرى كثيرة، فهو رَمِيَّةُ الرّامي، حين لا يجد ما يرمي في وجه كذّاب أو دجّـال أو منافق؛ وما أحسب يبقى للصّحافيين، من سلاح، إذا أفلحت طغمةٌ في كسر أقلامهم وقطع ألسنتهم، إلاّ أحذيتهم، على سنّة زميلهم منتظر الزّيدي؛ والحذاء هو أيضا القاصم، الماحق، السّاحق للحشرات بكلّ أصنافها، ما زحف منها وما طار وحطّ؛ ورغم تلك الفضائل والمزايا، فإنّ الحذاء لا يرتبط في حديث العامّة والخاصّة إلاّ بما هو وضيع وحقير، كقولهم «فلان أجهل من صبّاطو»، والفرق بين العامّة والخاصّة كالفرق بين قبقاب الحمّام، ينتعله من هبّ ودبّ، وحذاء سندريلاّ، لا يستوي إلاّ في قَدَمَيْ صاحبته؛ وهناك أقدام لا تستريح في حذاء أبدا، ولا يناسبها مقاس، مهما صغُر أو كبُر؛ والأحذية أنواع وأصناف، لا عدّ لها ولا حصرَ، بدءا بالكعب العالي والكعب المنبسط، واحد يزيد صاحبته طولا على طول، وواحد يكاد يخسف بها الأرض خسفا؛ وهناك الحذاء الذي لا يُشدّ إلاّ بوثاق.
وهناك الذي لا يوثق وثاقَه أحد؛ ولصنعة الحذاء شروط لا غِنًى عنها، حتّى ترتاح القدم في نعلها، فلا تركب إصبع على إصبع، ولا يدخل ظفر في ظفر، ولا تنفذ رائحة مكروهة أو ريح؛ ويبدو أنّ كثيرا من أهل السّياسة يضعون أقَدَامهم في حذاء غير مريح، أكبرَ منها مقاسا، ولا بدّ لهم من مُرافق «يدادشهم» ويأخذ بأيدهم، عساهم يخطون خطواتهم الأولى دون أن يكبوا، ولكنّهم يستكبرون ويعاندون، كحال الصّبيان أوّلَ عهدهم بالمشي؛ ويُقال فلان «ضربو الصّبّاط» إذا استعصى عليه المشي في نعاله، وصارت كلّ خطوة محسوبةً بأوجاعها؛ وقد يضـرب الصّبّاط حكومةً بطمّ طميمها، بوزرائها ومديريها؛ وجمْـع السّلطات في يـد واحدة كجمْع القدميْن في فرْدة حـذاء واحدة؛ وأحيانا يكون المشي حافيا أفضل منه منتعلا؛ وفضل الحافي على المنتعِل كفضل المـاشي إلى المسجـد على الرّاكب إليه؛ أو كفضل القـائم إلى الصّلاة منتعـلا، على القـائم إليها حافيا؛ ورغم أنّ الحفاة في الوطن العـربي أكثر عددا من المنتعلين، فإنّ تاريخ النّعال عندنا ضارب في القِدَم، بدءًا بخُفّيْ حنين، مرورا بحذاء أبي القاسم الطّنبوري وصولا إلى حذاء منتظر الزّيدي؛ وقصّة أبي القاسم الطّنبوري مع حذائه كقصّة تلك الحكومة مع الجماعة السّلفيّة الجهاديّة؛ فقـد كان للطّنبـوري حذاء يعزّ عليه، انتعله حتّى بلي، وكلّما انقطع منه موضع رقّعه، حتّى شاع بين النّاس واشتهر؛ فلمّا اشتدّ عليه الغمز واللّمز، رأى أن يتخلّص منه، وفي القلب غصّة، فكان إذا رماه رجع إليه أو أعادوه، ظنّا منهم أنّ صاحبه أضاعه ولم يفرّط فيه؛ وكان إذا دفنه في الأرض أخرجـوه إليه حيّا يسعى؛ فلم يَجْنِ منه إلاّ المشاكـل والمصاعب ووجع الرّأس؛ وثبت بالبرهان القاطع أنّ أبا القاسم الطّنبوري عَدَمٌ دون حذائه، وأنّ الحذاء عدمٌ دونه؛ فكأنّهما روحان في جسدٍ واحد، أو روح واحد في جسديْن...
شركة عالميّة للأحذية، كسدت تجارتها، فأرسلت خبيرين اثنين من خيرة رجالها يستطلعان أحوال السّوق في بلد عربيّ، فمازالا يجوبان البلاد بالطّول والعرض، فأمّا الخبير الأوّل فكتــب إلى الشّركة يبشّرها:» هيّؤوا ملايين الأحذية! هذه سوق واعدة! كلّ النّاس حفاة في هذا البلد!»؛ وأمّا الخبير الثّاني فكتب:»هذه سوق كاسدة! لا ترسلوا حذاء واحدا! كلّ النّاس يسيرون حفاة في هذا البلد!».
الصحبي الوهايبي
- اكتب تعليق
- تعليق