أم المـعـارك, تـرامـب وأبـاطرة الإعـــلام
الحرب المفتوحة بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والإعلام، خطيرة.. غير مسبوقة.. وجديرة بالاهتمام.. منذ إعلان عزمه على الترشح للانتخابات الرئاسية، أشهرت قنوات تلفزية كبيرة مثل CNN, NBC News, CBS,ABC وصحف مهمة في حجم The New York Times حربها الإعلامية عليه. قبل ترامب بالتّحـدّي، وهــاجم الجميـــع باستثنـاء أتبـــاعه في قنــاة، ومـــوقع Fox ..News Breitbart News.
فاز في الانتخابات.. ثم شرع في هجومه المعاكس.. وهذه المرة من داخل مصنع القرار..
لا يكاد ترامب يوفّر أيّ مناسبة إلا وزاد في حربه مع أعدائه واقعة أخرى.. وحرب ترامب هذه لا سابق لها في التاريخ الأمريكي، على الأقل، بهذا الحجم، وهاته الشراسة..
سبق أن وجد رؤساء سابقون أنفسهم في معارك محدودة مع الإعلام.. حصل ذلك بداية السبعينات مع ريتشارد نيكسون في فضيحة ووترغيت، ومع بيل كلينتون نهاية التسعينات، عندما ذاب في دباديب متدرّبة لعوب اسمها مونكا ليونسكي.. لكن الأمر لم يذهب أبعد من معارك خاطفة، سرعان ما انتهت بسقوط الأول، وأفول نجم الثاني..
لكن الأمر مع ترامب يبدو مختلفا للغاية..قد يكون هذا الملياردير المتحدّي بصدد إحداث تغيير عميق في قواعد اللعبة من جذورها.. إنها حرب كسر عظم ضد صحافيين كبار، ومؤسسات عريقة، ومراكز نفوذ تقليدية، وعرف أمريكي جار منذ عصور المؤسّسين الأوائل..
والمسألة ليست مزاحا، بالنظر إلى تقليد أمريكي عريق، قبلت فيه الحياة السياسية دائما بوجود صحافة قوية ومؤثّرة، سلطة رابعة حقيقية ذات أنياب ومخالب.. سلطة يريد ترامب بما أوتي من قوّة وعزم ومال أن يدكّ قلاعها.. وهو في ذلك يستخدم لازمة تتكرّر في كل خطاب: اعتبار القنوات والصحف والمواقع المعادية له (موقع
Buzzfeed) بالأساس وسائل إعلام كاذبة.. وكاذبة جدا، كما يلحّ في قوله.. واعتبار هذه الوسائل عدوة للشعب.. ومن المثير أن هذا الوصف الثاني يجد دائما عاصفة من التّصفيق في الخطابات العامّة للرئيس الأمريكي الجديد..
أما الأخطر من كل ذلك، فهو أن ترامب بصدد سابقة أخرى قلّ نظيرها في التاريخ الأمريكي: الهجوم المستمر على سلفه باراك أوباما، وعلى منافسته في الانتخابات هيلاري كلينتون.. عداء متأصل ومفهوم بين حزبين متنافسين.. لكنه أيضا عداء عرقي لا يخفى بين أول رئيس مغادر أسود، ورئيس قادم يعتبر نفسه أول ممثل حقيقي للبيض الأصليين الذين أسسوا الحلم الأمريكي!
وهكذا، يوحي ترامب في خطاباته بأن أوباما لم يرحل.. بل هو باق، ويتمدد، ويتآمر.. وهذا مستجدّ مثير في التقاليد السياسية الأمريكية.. فالرئيس الذي يغادر البيت الابيض عادة ما تطفأ الأضواء من حوله في هدوء، ويتحوّل إلى جزء من تاريخ، ولكن بكثير من الاحترام والتقدير..
هذه المرّة، ترامب يريد أن يقنع أنصاره بأن هناك مؤامرة مستمرّة ضدّه، أطرافها: باراك أوباما، وهيلاري كلينتون، والإعلام الليبيرالي وعلى رأسه، قناة CNN التي يطلق عليها ترامب اسم Clinton News Network بدل اسمها الأصلي Cable News Network وهذا أمر له دلالات عميقة.. وخطيرة!
في برامج الكوميديا السياسية، يتمّ تشريح «جثة» ترامب بمنتهى السّخرية والقسوة كل مساء.. وهي إحدى آخر الأسلحة المتبقية لوسائل الإعلام الأمريكية لمقاومة عدوّها الجامح.. ومستشارو ترامب لا يغفلون عن هذه البرامج، بل إنهم يجعلون تهكّمها مادّة يطعّمون بها خطابات ترامب لينقضّ عليهم.. ويهدّدهم.. لكن حتى الان، على الأقل، مايزال أصحاب هذه البرامج يبلون بلاء حسنا في معركة لا أحد يتجرّأ على توقّع مآلاتها ونتائجها..
قبل أيّام، لوّح ترامب بأن لا شيء يمنع من إعادة تفعيل قانون التشهير «the libel law».. وكرأسمالي حتى النّخاع، قال ترامب إنّ رفع قضايا بالقذف والتشهير ضد وسائل الإعلام «الكاذبة» سيحقّق له عائدا ماليا وفيرا، بفضل الخطايا!!
لكنّ الأخطر من ذلك هو أنّ هذا القانون، وفي حال تطبيقه الكامل، سيجعل الميديا المعادية للرئيس الجديد في حيص بيص.. إذ أن أبواب المعلومة بدأت توصد بالفعل أمام وسائل الإعلام المعادية لترامب، ولم يعد بوسعها إلا الاعتماد على كفاءتها في التّحليل والاستنتاج، وهو ما قد يوقعها في مطبّات، ستكون بلا شك لصالح عدوّها الشّرس..
هل يمكن لترامب أن يدكّ حصون الإعلام وأباطرته الكبار؟
هل هـي حـرب مليارديـــر ينتقــم مـــن أثرياء منافسين، أم هي لعبة خطيرة ستحترق فيها أصـابع الكثيـــرين، وأوّلهم الرئيس الزوبعة؟
والأهمّ: هل يصل الأمر حد وقوف الصحفيين أمام المحاكم، ولم لا، وراءالقضبان؟ وهل يمكن أن نسمع يوما بقرار إغلاق قناة في حجـم CNN أو صحيفة مثل The New York Times
لا تهّم الأجوبة.. بقدر ما على البقيّة أن يستوعبوا هذه المرحلة الأمريكية المضطربة.. وأن يفهموا بأنّ عاصفة ترامب لا توقفها حتى الآن الجدران الأمريكية السّميكة، فما بالك بهذه الكيانات التي بناؤها من طوب.. وتبن.
عبد الدايم الصماري
- اكتب تعليق
- تعليق