عز الدّين المدني: الإبـــداع الأدبــي وإشكـاليات الزّمـن الــرّاهن
لقد كتبـــتُ مسرحيّـــة جديدة عنوانها «بيّاع الِّلحَى» من جنس الكوميديا، أيّام كان فيه علي الَعرَيّضْ رئيس الحكومة التّونسيّة، وأيّامًا طويلة متوالية بلا نهاية كان فيها الباعة أمام جامع الفتح، على شارع الحريّة بالعاصمة، يعرضون بضاعتهم المغشوشة من عطورات فاسدة، وكولونيات «صينية» خطيرة، وسبحات بالعنبر لا رائحة لها إلاّ أنفاس خبيثة، و حتّى ملابـــس شرقيــّة لا علاقة لها مطلقًا بالثّياب الوطنية التّونسيّة ولا بالثياب الأوروبية المتّبعة منذ عقود في البلاد، مع أنّها ذات ألوان مظلمة كالأسود والأزرق الدّاكن والكستنائي الغامق. وهي قذرة، ومهترئة، لا يشتريها إلاّ أهل السّذاجة والغفلة والحماقة.
كان هؤلاء الباعة قد احتلّوا الرّصيف أمــام الجـامع بأجسامهم المبطبطة ولحاهم الطّويلة الّتي تغلي ببقايا الخنانة الجافّة مع شيء من غَبْرة الحنّاء الحمراء من هنا وهناك في لون اللّهيب والنّار. وكانت عيونهم الّتي يغلب عليها الرّمصُ تحدّق في الرّائح والغادي بوقاحة وتنمّر واشمئزاز. وكان المارّون على الرّصيف يتضايقون من البخور النّتن. أمّا النّساء صاحبات البراقع السّوداء فكنّ يقفن رغم الزّحام أمام نصبات الباعة لشراء كحل العيون لكنّه يعمي! والغريب أنّ هؤلاء النّساء بالبراقع تلمع عيونهنّ، وهنّ طويلات كالرّجال، يلبسن أحذيّة رجاليّة، وحين يسرن على الرّصيف لاحظتُ أنّ خطاهنّ كخطى الرّجال، ويلعبن بالمرافق لفتح طريقهنّ بين المارّة واكتظاظهم المزعج. وللّه في خلقه شؤون وخفايا وشكوك!!!
عنونتُ مسرحيّتي الجديدة هذه «بيّاع اللِّحَى» في وقت الشّدّة والفوضى، في زمن التّهديد بالسَّحل والوعيد بالقَتل، في دنيا تكفير المسلمين الذين أسلم أجدادهم الأُوَّل عند فتح إفريقية وتأسيس القيروان، في تونس الّتي باتت غنيمة لطالبي الكراسي الجياع، وفي أيديهم السّيوف والخناجر والسّكاكين، وراياتهم سواد في سواد أسود من المداد!.
كان هذا البيّاع الكوميك يبيع جميع الّلِحَى بأجناسها وأنواعها وصفاتها وألوانهـا: مـن الأبيض الفضّي حيــن تبزغ عليها الشّمس إلى الأسود الفحمي الّذي هو خلاصة الظّلمات فوق الظّلمات تحت الظّلمات، ومن الأصفر الفاقع إلى الأخضر الشّعشعاني، ومن الأزرق في زرقة الجنّ الّتي كان يتزيّن بها أبوجهل إلى الأحمر القرمزي القاني، لحية أبي لهب. ومعلوم لدى شيوخ المؤرّخين أنّ أبا جهل كان يتبختر بها أمام نادي قريش بمكّة وأسقفها كان يومئذ ورقة بن نوفل، مرفوقًا بصاحبته وبكلبها المستكلب.
وَ«بيّاع اللِّحَى» هذا كذّاب. وهو يحمل دكتوراه في الدَّجَل وكذلك شهادة الأستاذية في حبك الحيل والدّسائس، وزرع بذور الشّقاق والفتنة وقلب الحقائق. وقد سبق له أن زار مرارًا وتكرارًا «الحبس الجديد»، وأقام إقامات مريحة بمعتقل الهوارب مع الأكل والشّراب والرقّاد بالمجّان مدى الحياة إذا أراد! لكنّه ينكر ذلك إنكارًا شديدًا ويصرخ: دافعتُ عن الشّعب! فمن الّذي يقدّم لي تعويضًا عما قاسيته في برج الرّومى والزِّنْدالة والحبس الجديد والكَرَّاكَه؟ وهو يردد: وعلى كلّ، عفا اللّه عما سلف!!! فلقد سامحتُ كلّ من ظلمني.
هذا النّموذج البشري الذي تراه في كلّ نهج وزنقة وشارع هو قصير القامة كأنّه قريب من الأرض، بدين سمين أعجر السّمنة، عظيم اللّحية، طويلة سائلة حتّى أنّها تكنس الأرض، يضع أحيانا ذؤابتها بين منخريه وشفته العليا لتكون كالشّوارب المفتولة الّتي تزين وجه الأبطال القدامى. وإذا طالت واستطالت أحيانا عليه حمل طرفها على كتفيـــه ومشــى لكي لا يدوسها بحذائه الخشن الجلف. وإذا ما اشتغل بسلعته المهرّبة المعروضة على البيع من قِبَل من هم مثله فهو يجعل لحيته كحزام فوق قميصه المشرقي.
وإذا ما زَطَلَ مع أصدقاء السّوء والدّعارة في الخفاء الخافي، وترنّم وغنّى بصوته الأبحّ راقص لحيته الفارعة، وضرب الأرض بقدمه في إيقاع رتيب متواصل وصاح: يا اللّي نْسِيتِ خالك!!!
بين الواقع والخيال المبدع
هذه المسرحيّة المنغمسة في الواقع التّونسي الرّاهن المعيش هي موازية مع ما يحدث في تونس من الأحداث الجسام، وليست منافسة لها ولا مزاحمة. ولئن أخذَتْ من هذا الواقع الملموس الحقيقي المعيش فإنّها قد كشَفَتْ أنّ ذلك النّموذج البشري هو في حقيقته مجرم، وذلك قبل أن تعلن بعض وسائل الاعلام الوطنية أنّ بعض من يتشدّق بالدّين إنّما هم أصحاب جنح وإجرام. وقد رأيتُ عند ذلك أنّ المسرحيّة على خطّ سويّ بينها وبين الأحداث الواقعيّة في البلاد. وقد يصدق قول القائل عليها من بعض نواحيها: إنّما الأدب مرآة ينعكس عليها الواقع! وحول هذا القول شكوك... كما هو معلوم.
وتساءلتُ كثيرًا عمّا تجدي هذه المسرحية ذات الموضوع المحرق الرّاهن، وعمّا تعلن وتبلّغ، وعمّا تفيد وتحيط، وعمّا تربّى وتثقّف، وعمّا تُعْلِم بكلّ تواضع واختصار. أليست الصّحافة أفضل منك؟ فهي تتصيّد الآنيّ وتستولي على الظّرفي! أو ليست سلطتها الإعلامية أقوى من سلطتك الأدبية والفنيّة؟!
القول الأدبي بل لنقل الإبداع الأدبي-حسب التّعبير الرّائج والمفهوم اليوم من الكتابة الأدبية - أنّه ذو سَمْك زمني سواء كان في شكله أو في غرضه أو في موضوعه. وهذا السّمك قد يكون غليظا مثلما يكون رقيقًا. وهو يجمع الأزمان الثّلاثة: فالماضي لا يكون في الغالب الأعمّ حبيس ما فات. بل هو قد يشير إلى الرّاهن ولا سيّما إلى المستقبل. وتلك الإشارة إلى الرّاهن هي عبارة عن شعاع نورانيّ شفّاف لا يراه إلاّ من كانت له بصيـرة. والمستقبل لا يكون في الغالب الأعمّ أيضًا حبيس ما سيأتي. فثمّة ارتباط عضويّ بين الأزمان الثّلاثة، إذ الآتي يلتفت دائمًا إلى ما قبل، وما خلف، وما انصرم، وما فات.
أمثلة معتبرة
مسرحية «ريشارد الثّالث» ذات سَمْكٍ زمني غليظ وكثيف، فنصّها لم يتجاوزه الزّمان، ولم يفته شيء. فهو حاضرٌ وماضٍ وآت في آن واحد.
ورواية «كوكب القــردة» وهي تنتمـي إلى فصيلة «الخيال العلمي» وذات باع عظيم في الأدب، تنظر إلى ما مضى دائمًا، بينما الحكاية فيها تَرْمِينَا إلى آلاف من سنــوات المستقبل، وتدفعنا نحو كوكب تسكنه القردة افتراضًا. فنصّها متداخل الأزمان، بل متضامن الأزمان في وَحْدة متماسكة. لا عَيْــبَ فيها على زمن المستقبل ولا على زمن الحال ولا على زمن الماضي، ولا خلل. ورُبَّ ماضٍ يُرى كمستقبلٍ للأجيال والبلاد ويُعْتَبَر! ورُبَّ مستقبلٍ خيالي يريك ما يجدّ في راهن الزّمن ما لا تراه العين وما لا يعيشه الانسان!
وكلا العملين المذكورين لم يعرفا الذّبول ولا الموت، وكأنّهما قد كُتبا بالأمس القريب منّا جدًّا جدًّا، فهما حيّان يُرزقان طوال عقود وقرون... وما أكثر مثل هذين العملين في الآداب العالميّة قديمًا وحديثًا.
على أنّ الزّمن الرّاهن يطبع ببصمته العميقة كلّ عمل أدبيّ ظهر في الزّمن الرّاهن، وكأنّه نتاجه ولكن ليس كذلك، ليس كما يتوهّم بعض النّقّاد، لا سيّما إذا كان هذا العمل الأدبي بعيدًا كلّ البعد عن الرّاهن السّياسي والاجتماعي، عن راهن البلاد. فالبصمة العميقة قد يظفر بها القارئ أو المتفرّج إنّما هي في اللّغة والتّعابير والكلمات الّتي يستعملها الكاتب في عمله الأدبي والفنّي الرّاهن في الزّمن الرّاهن. ولإضاءة هذه المسألة لنقل إنّ المؤرّخ حين يدرس تاريخ تأسيس مدينة القيروان سنة خمسين للهجرة النّبويّة مثلاً فإنّه يستعمل لغة الزّمن الرّاهن لدراسة الزّمن الغابر، ولا يفتعل لغة عقبة بن نافع ولا أسلوب الفاتحين المؤسّسين ولا يتكلّف ولا يتصنّع. لكنّ الكاتب الأدبي حين يعتزم كتابة رواية تجري أحداثها في العصر الصّنهاجي بالمهديّة مثلاً فهو لا يكتب عمله بلغة ابن شرف وابن رشيق وأساليبهما وتعابيرهما اللّغويّة بل يكتبه بلغة العصر الّذي يعيش فيه وبتعابيره وبكلماته. ولكن يجوز أن يكتب روايته عن أحداث خيالية حدثت افتراضًا في العصر الصّنهاجي باللّغة المستعملة وبأساليبها وبتعابيرها يومئذ اقتباسًا من كتاب «العمدة في صناعة الشّعر ونقده»، ومن كتاب «رسائل الانتقاد». فالإبداع الأدبي يخوّل هذا الجواز. إلاّ أنّ النّاقد البصير وحده يجد أنّ هذا الكاتب قد استعمل لغة عصره خلال لغة العصر الصّنهاجي انتقاء وترصيعًا وتضمينًا. وتلك هي البصمة العميقة الرّاهنة..
عز الدّين المدني
- اكتب تعليق
- تعليق
هل توفي هذا الكاتب في يونيو سنة2012؟؟؟