ما بعد داعـش في العــراق، أيّ مصيـــر للأقلــيّـــات؟
خلال إقامتي في أربيل في كردستان العراق سكنت في عنكاوة وهي منطقة مسيحية، من أرقى المناطق في المدينة، يشدّك نظام منازلها ونظافة شوارعها وجمال كنائسها. كان ذلك أول لقاء لي مع التنوع الثقافي والديني للعراق. على مدى سنتين، عشت في هذه المنطقة الهادئة والجميلة دون أن أشعر بأي اختلاف. كانت تتناهى إلى سمعي وأنا داخل بيتي أجراس الكنائس المحيطة وإن كانت تدقّ بطريقة خجولة حتى لا تزعج الأغلبية من السكان الأكراد المسلمين في مدينة أربيل.
عنكاوة هي في الأصل قرية توسّعت وكبرت حتى التصقت بأربيل. فعبر السنوات ازداد عدد سكانها يوما بعد يوم من خلال النزوح المتتالي للمسيحيين القادمين من بغداد ومن البصرة ومن عديد المدن العراقية، حيث تمّ استهدافهم بشكل ممنهج، خاصة بعد سقوط نظام صدام حسين في 2003. دخول البلاد في حرب طائفية في 2004 جعل من الأقليات وخاصة المسيحية فريسة سهلة للأغلبية المسلمة، سواء من السنة أو الشيعة. ورغم التطاحن بين الفئتين، فإن كلتاهما استهدفت الأقلية المسيحية، فاستباحتا أموالها ونهبتا ممتلكاتها وطردتاها من بيوتها، هذا إلى جانب قتل المنتمين لها وخطفهم والاعتداء على أماكن عبادتهم. فمنذ السقوط إلى اليوم، تم تفجير أكثر من 60 كنيسة في كامل أنحاء العراق. ولم ينقطع هذا الاستهداف أبدا، بل زاده ضراوة دخول داعش إلى البلد واحتلاله مناطق بأكملها، وتحديدا الموصل وسهل نينوى وهي المناطق التي استقرّ بها المسيحيون تاريخيا منذ القرن الأول للميلاد، لتتساقط البلدات المسيحية الواحدة تلو الأخرى مثل تلكيف وتلسقف وبرطلة وقرقوش وكرمليس ...ورغم أن تنظيم الدولة الإسلامية يعتبر المسيحيين من أهل الكتاب فإن ذلك لم يشفع لهم عنده. فعند احتلال مقاتليه للموصل في 10 جوان 2014 وبعد أيام قلائل من ذلك، بدأوا بالتضييق على المسيحيين، أوّلا بقطع الحصص التموينية عنهم وحرمانهم من الكهرباء، ثم في مرحلة ثانية عمدوا إلى تمييز منازلهم بوضع حرف (نون) عليها بمعنى «نصارى»، ليبلغ التضييق ذروته مع إطلاق نداء فجر يوم الجمعة 18 جويلية 2014 عبر مكبّرات الصوت في المساجد لتخييرهم بين الإسلام أو دفع الجزية أو مغادرة المدينة، وتمّ إمهالهم إلى منتصف اليوم الموالي لفعل ذلك. هرع سكان الموصل المسيحيون حاملين القليل من ممتلكاتهم، تاركين بيوتهم ومحلاّتهم التي سرعان ما احتلها مقاتلو التنظيم واستقروا فيها. ولم ينته الأمر عند هذا الحد، بل تمّ التعرّض لهم عند نقاط التفتيش عند مغادرة المدينة وسلبهم ما أخذوه معهم من أموال ومصوغ وأوراق ثبوتية، كما أُجبروا على ترك سياراتهم والالتحاق مشيا بمدن كردستان العراق القريبة (أربيل ودهوك).
نزوح 100 ألف مسيحي من مناطقهم في سهل نينوى
كنت شاهدة على وصولهم إلى أربيل من الموصل ومن بقيّة قرى سهل نينوى التي وقعت في يد التنظيم. ففي غروب أحد أيام جويلية 2014، قدمت مجموعة من النازحين المسيحيين متكدسّين فوق بعضهم البعض في سيارات وشاحنات مكتظة إلى أحد النوادي الرياضية الذي تحوّل ككل الكنائس والمدارس الموجودة إلى ملجإ لاستقبال الهاربين من بطش التنظيم. كان الذهول يرتسم على وجوههم من هول ما واجهو في الطريق ومعظمهم لا يصدّقون أنهم وصلوا إلى برّ الأمان.عيونهم كان يملؤها الخوف والفزع والحيرة حول مصيرهم والغبار يعلو أجسامهم وثيابهم. دخلوا بسرعة إلى النادي الرياضي التابع للكنيسة حيث تكفّل العاملون هناك بإعداد ما يلزم لاستقبالهم من حاشيات وأغطية وأطعمة وماء، وبدؤوا مباشرة في إحصائهم وتسجيل أسمائهم. بدا البعض منهم غير واع بما حوله مثل تلك العجوز التي كانت جالسة فوق بطانية تنظر حولها بعيون فارغة وقد تركها هناك ابنها الذي أتت معه، ليجلب لها بعض الماء. اقتربت منها وسألتها عن حالها فاستدارت نحوي وقالت: «لقد تركت ابني وعائلته هناك بين أيدي هؤلاء القتلة!أردت البقاء معهم لكن ابني الثاني منعني وأخذني معه! لا ادري ما الذي سيحصل لهم!» ثم سحبت هاتفها في محاولة يائسة للاتصال بهم لكنّ لا أحد يجيب على الطرف الثاني من الخط. لم تستسلم وظلت تحاول. كانت منهكة إلى درجة أنها لم تكن تقوى حتى على البكاء!
بين يوم وليلة تحوّلت عنكاوة إلى مخيّم كبير بدون سقف. تكدّس في كنائسها وبناءاتها، حتى تلك غير المكتملة، وشوارعها آلاف النازحين.
أكثر من 100 ألف مسيحي هاجروا من مناطقهم في سهل نينوى، في موجة نزوح من أكبر الموجات منذ 2003 لتذكرّهم بموجات سابقة من بغداد ومن مدن جنوب البلاد وترسّخ لديهم الاعتقاد بأن العراق لم يعد بلدا آمنا يمكنهم العيش فيه. هكذا تعزّزت طلبات اللجوء إلى أوروبا وأمريكا وأستراليا لتصبح كردستان مجرّد محطة مؤقتة في انتظار العبور إلى بلدان الجوار مثل الأردن وتركيا ولبنان ومنها الى العالم الغربي. قرار الرحيل من الوطن ليس بالقرار السهل ولكنه شرّ لابدّ منه. هكذا ولآخر لحظة لم تكن أم مريم الحلاقة في شيخان (45 كلم من الموصل) تريد مغادرة وطنها والالتحاق بأبنائها في استراليا ولكن ما حصل لطائفتها لم يترك لها خيارا آخر. «لم يعد لنا مكان في هذا البلد» قالتها بحزم وبألم كبير.
ورغم أن معركة استعادة الموصل التي بدأت في 17 أكتوبر 2016 مكّنت من تحرير معظم القرى المسيحية التي وقعت في يد داعش، إلا أن عددا كبيرا من المسيحيين لا يرغبون في العودة الى قراهم خاصة بعدما شهدوا خرابها وتهدّم منازلهم، مما سيحتاج منهم مصاريف كبيرة لإعادة البناء، كما أن لاشيء يضمن في ظل بيئة غير مستقرة ونزوع الأغلبية المسلمة في العراق ( من سنة وشيعة وأكراد) نحو التشدّد، أن لا يتكرّر سيناريو الاضطهاد والاستهداف. من هنا جاءت دعواتهم لتكوين إقليم مستقلّ يضمّهم على غرار الأكراد في شمال العراق، خاصة وأن جورج بوش الابن كان قد وعدهم بذلك. ولكن في انتظار تحقق هذا الحلم، فقد سارعوا الى التسلّح وتكوين ميليشيات لحماية مناطقهم تدعى «قوات حماية سهل نينوى»، بما أنهم فقدوا الثقة في أي طرف آخر ليدافع عنهم.
إبادة الإيزيديين
لم تكن الأقلية المسيحية الوحيدة المستهدفة من قبل داعش، فما فعله التنظيم بالإيزيديين من تقتيل وتنكيل كان أفضع بكثير، لأنه يعتبرهم أساسا من «الكفرة». فالمنتمون إلى هذه الأقلية يعتنقون ديانة قديمة مسالمة تقوم على وجود إلاه واحد قدير يحكم الكون بالاستعانة بسبع ملائكة. على مدى وجودهم في العراق منذ 3000 سنة قبل الميلاد،تعرّضوا إلى 73 عملية إبادة من قبل كل الحكّام الذن تعاقبوا على حكم هذا البلد، كان آخرها حملة الإبادة التي قام بها ضدهم تنظيم الدولة الإسلامية، حين احتل منطقة سنجار ذات الرمزية التاريخية بالنسبة للإيزيديين في أوت 2014. هجوم مقاتلي داعش على المدينة بسياراتهم رباعية الدفع وراياتهم السوداء كان عبارة عن إعلان موت بالنسبة لسكانها، حيث وجد ما يقارب 300.000 إيزيدي أنفسهم محاصرين من كل مكان، بعد أن تخلّى عنهم الجميع بما فيهم مقاتلو البيشمركة الأكراد الذين يتشاركون معهم في القومية واللغة، بعد انسحابهم فجأة من مناطق الإيزيديين نحو الحدود السورية القريبة. حاول بعض الشباب الإيزيدي الدفاع عن مناطقهم ببعض الأسلحة البدائية ولكن مقاومتهم انهارت بسرعة أمام العتاد الذي كان يتمتّع به داعش، فلم يبق أمامهم سوى الموت أو الهرب. من نجا من قبضة داعش التجأ إلى الجبل المجاور جبل سنجار الذي تحوّل الى المكان الآمن الوحيد. اجتمعت فيه ما يقارب 30 ألف عائلة كانت تنقصهم كل الموارد الأساسية للبقاء من أكل وشرب وغطاء. بقوا مشرّدين على جبل أجرد قاحل لمدة أسبوع، مات خلاله الكثير من العجائز والأطفال. وحتى المساعدات التي كانت تصل عبر طائرات الإغاثة كانت تتكسّر بمجرد وصولها إلى الأرض. لم ينته هذا الكابوس إلاّ عندما نجح مقاتلوا حزب العمّال الكردستاني المتمركزون على الحدود السورية في فتح معبر من الجبل نحو سوريا ليتمكّـن ما يقارب 100 الف إيزيدي من النجاة.
ورغم أنه تمّ توزيع الناجين على مخيمات سواء في سوريا أو في كردستان العراق، فإن مصيـر ما يقارب 3500 شخص بقي مجهولا إلى اليوم، بين من تم قتلهم ومن تم خطفهم. ففي كل قرية كان يسيطر عليها داعش، كان يعمد الى جمع السكان في مدارس ثم يقوم بفصل الرجال عن النساء فيُقتل الرجال ويُؤخذ النساء والأطفال إلى مقاره في الموصل وتلعفر والرقة. حوالي 5000 فتاة وامرأة تم سبيهن واستباحة أعراضهن والمتاجرة بهن وإجبارهن على ترك ديانتهن الأصلية لاعتناق الإسلام. الشيء الذي دفع ببعضهن الى الانتحار وبالبعض الآخر إلى الهروب بمساعدة مهّربين. لكن ما حزّ كثيرا في نفوس الإيزيدين أكثر من اعتداءات داعش واستباحته لأرواحهم وأعراضهم، كان تعاون جيرانهم من العرب مع التنظيم ومشاركته في عملية الإبادة الممنهجة التي تعرّضت لها هذه الأقلية. تقول نور وهي إحدى الفتيات الإيزيديات الناجيات من قبضة داعش إن الأمير الداعشي الذي قام باستباحة عرضها ثم ببيعها هو جارهم منذ ثلاثين سنة وكان يتردّد باستمرار على بيتهم من قبل.
استهداف التركمان الشّيعة من قبل التّنظيم
كل هذا يجعل التعايش اليوم مستحيلا من جديد بين العرب والإيزيديين. فعلى الرغم من تحرير سنجار من قبضة داعش منذ أكثر من سنة، فإن قلة قليلة من الإيزيديين عادوا اليها وهي المدينة التي كانت تجمعهم مع العرب والتركمان والأكراد، وصار هاجسهم الوحيد هو الخروج من العراق نحو ألمانيا وبلدان أوروبية أخرى، مضحّين بموطنهم الأصلي حيث توجد كل أماكنهم المقدّسة. وهناك منهم من قرروا التسلح لحماية أنفسهم، بعد أن فقدوا الثقة في مواطنيهم من العرب والأكراد وحتى في القوى الدولية، فشكّلوا قوة عسكرية في سنجار درّبها مقاتلو حزب العمال الكردستاني وهم يشاركون حاليا في الحرب ضد داعش. اليوم حينما يُسألون عن رؤيتهم للمستقبـل ما بعد خروج التنظيم من العراق، يجيبون بأن مطالبهم تتلخّص إما في الخروج من العراق أو البقاء ولكن في منطقة تكون محمية دوليا.
نفس المطالب يتقاسمونها مع التركمان الشيعة الذين تضرّروا مثلهم مثل الإيزيديين من هجوم داعش على مناطقهم في تلعفر وأميرلي. 200 ألف شخص اضطروا لترك مدنهم وقراهم للهروب من داعش الذي لم يفرّق بين شاب أو شيخ أو امرأة أو رجل وقتل كل من وجده في طريقه وشرّد البقية الذين لجؤوا إلى المناطق الشيعية في جنوب العراق.وإلى اليوم لا يُعرف مصير 1200 شخص ممن خطفهم التنظيم، ونصفهم من النساء والأطفال.
هل باتت الهجرة الحلّ الأخير؟
مع قرب خروج داعش نهائيا من العراق، تطرح مسألة مستقبل الأقليات في ظلّ وضع يسوده عدم الاستقرار وصعوبة، إن لم نقل، استحالة التعايش من جديد بينها، بعد تمزّق النسيج الاجتماعي وانعدام الثقة بين مختلف مكوّنات المجتمع العراقي وانتشـار الخــوف والرغبة في الانتقام. ففي أماكن مثل سنجار، حيـث كان يتعايش العـــرب والأكــــراد والإيــزيديـون والتركمان، أصبح من المستحيل التفكير في أن تجمعهم نفس المدينة من جديد وكذلك الحال أيضا في مدينة تلعفر التي كانت تضّم التركمان من السنة والشيعة قبل أن تنضم الفرقة الأولى إلى داعش للقضاء على الفرقة الثانية. وحتى المسيحيين الذين يُمثّلون أقدم وأكبر الأقليات في البلاد (يبلغ عددهم 1،2 مليون شخص) أصبحوا لا يأمنون العودة إلى مناطقهم بعد ما حصل فيها ويُفضّلون البقاء في كردستان العراق أو الرحيل خارج البلاد. باسم حنا، صحفي وأب لثلاثة أطفال، لا يخفي رغبته في الهجرة «فلا مؤشرات على تحسّن للأوضاع، إذ أن الخلافات السياسية وعمقها، حتى في داخل كل قطب ديني أو قومي مثل الشيعة والسنة والأكراد، لا توحي بأننا سنشهد استقرارا إذا لم نقل مزيدا من التوتر، كما أنني قلق على مستقبل أطفالي، فالمشهد قاتم أكثر من أيّ وقت مضى، إضافة إلى أننا كمسيحيين لم نعد ننسجم مع المتغيّرات على صعيد الفوارق الفكرية مع الطرف الآخر الذي يتّجه نحو مزيد من التشــدّد». ويضيـــف باسـم أن «الأقلية المسيحية بطبيعتها توصف على أنها الحلقة الأضعف من بين الأقليات، وتتّسم مجتمعيا بالاستقلالية الفردية على عكس المنطق العشائري الذي يشكل عنصر قوة وحماية لبقية المجتمعات المحيطة بها، ناهيك عن نفور الفرد المسيحي في العموم من الانتماء الحزبي والسياسي كوسيلة للاحتماء».
فهل يتحوّل العراق الى بلد بدون أقليات ليصبح أخيرا مسرحا للتقاتل بين المسلمين من السنة والشيعة والأكراد؟ وهل تفقد حضارة بلاد الرافدين، أولى الحضارات الانسانية، إلى الأبد تنوّعها الثقافي والديني والإثني؟.
حـــنـــان زبــــيــس
- اكتب تعليق
- تعليق