التّنمــيـــة...الحكـم المحلّـي والـلاّمـــركــزيّــــة
غني عن القول إن الفصل 148 من دستور 2014 يعلّق دخول القسم الرابع من القانون الأساسي للدولة المتعلق بالحكم المحلي على إصدار القوانين المتعلقة بالتنظيم الترابي الجديد للدولة والذي يشمل الجهات أي الولايات والبلديات والأقاليم.
هذا ما يعني بقاء ما كان في التنظيم القائم قبل ثورة 14 جانفي أي الولايات والمعتمديات إذ أن المجالس البلدية تمّ حلّها وعوّضت بنيابات خصوصية صارت بمرّ الزمان من قبيل الأمر المعتاد، أما المجالس الجهوية فقد ضاعت في الزحام ولم يعد يذكر لها حال.
وفي الواقع وإزاء هذا الجمود الإداري والسياسي فإن الجهات ما انفكت من حين إلى آخر تعبّر عن قلقها وعدم رضاها عن وضعها الإداري والتنموي بل تذهب إلى حقّ المطالبة بعزل ذلك الوالي أو حلّ تلك النيابة الخصوصية وتكتسي مطالب الجهات في بعض الأحيان صيغ احتجاجات عنيفة للمطالبة بالتنمية والتشغيل أو النظافة واحترام تراتيب البناء والبيئة.
وتتّجه هذه المطالب بالأساس إلى الحكومة المركزية ممّا يوحي باختلالات وظيفية على المستوى الجهوي والحال أن الحكم المحلي القائم بهياكله المعينة أو المنتخبة و كذلك المصالح الإدارية اللاّمحورية والهياكل الفنية من دواوين ووكالات كان لها دوما دورهام في وضع برامج التنمية الجهوية والوطنية و تنفيذها.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو: إلى أيّ مدى يمكن أن تواصل الجهات انتظار تركيز الحكم المحلي الجديد بها وتوسيع المشاركة الشعبية ومشاركة المجتمع المدني في ضبط الخيارات والبرامج والمشاريع الكفيلة بالانتقال من الركود إلى النمو و الاستجابة إلى مطالب التنمية والتشغيل؟
فترة انتقالية أطول من اللازم
من سيسبق من؟ الديمقراطية المحلية أم انتعاشة الاستثمار وارتفاع نسق النمو؟ الواضح أن النموذج المركزي في الإدارة والتنمية تجاوزته الأحداث وصارت تكاليفه أعباء ثقيلة على الدولة والمجتمع.والواضح أيضا أن الفترة الانتقالية طالت أكثر من اللزوم والحال أن الحكم المحلي هو أحد أسس الشرعية الجديدة للدولة و بندا هامّا في العقد الاجتماعي المنشود، لكن إلى حدّ الآن يتواصل تعيين الولاة والمعتمدين و يجد هؤلاء أنفسهم مطالبين بالتّصرّف في دوائرهم حسب نماذج وتشريعات مستهلكة ومواجهة إشكاليات جديدة ومسائل معقدة لا يجدون لها مخرجات معقولة أو كفيلة بنيل الرضا الجماعي.
وفي المقابل فإن الأحزاب، سواء كانت في الحكم أو المعارضة، لا تفصح أدبياتها عن تصورات عملية لتركيز الديمقراطية المحلية وما تقتضيه من نقل للصلاحيات والوسائل المادية والبشرية من المركز إلى الجهات حتى تتولى الجماعات المحلية المنتخبة القيام بمهامها وفي مقدمتها التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
والملفت للنظر أن موعد الانتخابات البلدية القادمة يبقى في عداد المجهول والحال أنه يهم حاضر ثلثي سكان البلاد ومستقبلهم.
والمحير أن بقاء ما كان على ما كان صاحبه أيضا تناقص اهتمام الحكم المركزي بالجهات، فزيارات الوزراء قليلة ومتباعدة ولا تفضي إلى إقرار الأولويات أو تدارك ما فات أو التفكير في ما تطرحه الجهات من اقتراحات في مجال التهيئة الترابية أو العمرانية.
والخلاصة أن الديمقراطية المحلية والتنمية والتطور صنوان ولا يمكن وجود الأول دون وجود الثاني.
الماضي يضيء الحاضر
الملفت للنظر أن التنظيم الترابي للبلاد بعد الاستقلال كان من أوّل القرارات التي اتخذتها الحكومة آنذاك، فقد ألغى الحبيب بورقيبة في جوان 56 «القيادات» و«الخلافات» وعوّضها بالولايات والمعتمديات، ثم نظّم الانتخابات البلدية سنة 1957 لتعنى بالخدمات المقدمة للمجتمع. جمع بين أيدي الولاة كل صلاحيات وسلطات الدولة باستثناء الدفاع والعدل والمالية، كما جعل الولاة مرجع نظر ومراقبين لكل نقص أو تهاون من البلديات. وبالتوازي حمّل الهياكل الحزبية الجهوية مهمّة الدعم والإسناد وفي الوقت نفسه مراقبة الولاة حتى لا يصيبهم الغرور فيطغون أو يعجزون فيتواصل عجزهم مدة طويلة.
لقد تمكّن الولاة بصفتهم منسقين ومراقبين لكل مصالح الدولة وشركاء في وضع وتنفيذ البرامج العاجلة للتنمية التي كانت تقتضيها الظروف آنذاك من تبوّء مكانة مهمة في سلم الدولة و المجتمع وهذا بالضبط ما هو مطلوب منهم في الوقت الحاضر، إلا أن ما يعقّد مهامهم هي الاستحقاقات الأمنيّة وكثرة المطالب الاجتماعية وآثارها على خيارات الفاعلين الاقتصاديين.
ومن جهتها، فإن النيابات الخصوصية تواجه صعوبات متزايدة لتقديم الخدمات من نظافة واحترام التراتيب العمرانية والأنشطة الاقتصادية و تجد نفسها بالتالي في تباعد مع المواطنين الذين يجيبون على اضطراب تلك الخدمات بالتلكؤ في دفع الجباية المحلية.
الجباية والديمقراطية والحكم المحلي مترابطة ومتصلة وهذا ما ينبغي أن يعيه الجميع حتى تتهيأ أسباب إدخال هذه العناصر الهامة في تحديث البلاد وضمان الشغل لـ 630 ألف عاطل عن العمل و من ضمنهم 236 ألفا من الحاصلين على شهادات عليا. ولا تقتصر إشكاليات الجهات على الظروف الخاصة لكلّ منها. اذ هي تتأثر بأداء الإدارة المركزية وتتأثر كذلك ببعض الاتفاقيات الدّولية مع أطراف خارجية، كما هو الحال بالنسبة إلى تأثير مناطق التّبادل الحر أو كما يسميها البعض مناطق الاجتياح الحر على النسيج الاقتصادي الجهوي من صغار ومتوسّطي الفلاحين والصناعيين والحرفيين. وهذا ما يؤكد ترابط المسائل بعضها البعض و ضرورة الحسم السريع فيها.
ولنا في هذا المجال أن نستأنس بالتجارب المقارنة التي خاضتها بعض البلدان في مجال اللامركزية، كفرنسا أو بلدان شرق أوروبا، وكذلك و قريبا منا المغرب الذي خطا خطوات مهمة في تركيز الهياكل اللامركزية من أقاليم و محافظات و بلديات وتخصيصها بنسب محترمة من ضرائب المبيعات والأجور و عقود التأمينات.
وفي انتظار أن تتحرّك السواكن فإن ليدرز ستهتمّ بالجهات الواحدة تلو الأخرى لتسليط الأضواء على أحوالها وأحلامها وتطلعاتها و طموحات نخبها، سعيا وراء تكوين صورة جلية لما ينتظره كل التونسيين من الحكم المحلي المضمّن في الدستور، وكذلك لفتح باب الحوار حول أفضل السبل الكفيلة بتعزيز قدرات الجهات الإنتاجية والتنافسية وتوطيد علاقات التعامل والتكامل والتضــامن داخل كل جهة على حدة وبين كل الجهات بما يدعم الوحدة الوطنية ويعلي شــأن الدولة التونسية بين الأمم.
أبو عطف
- اكتب تعليق
- تعليق