أخبار - 2017.02.19

سرقة الآثار: الذّاكرة المنهوبة

سرقة الآثار: الذّاكرة المنهوبة

سرقة الآثار والاتّجار فيها جريمة تختلف في طبيعتها عن الجرائم الأخرى، المتضرّر منها ليس الفرد الذي لا يرفع شكاية إلّا إذا تعرّض إلى الاعتداء في بدنه أو ممتلكاته أو هُضم جانبه، بل الذي يلحقه الضرر جرّاءها هو الكيان الوطني بإسره، لأنّها تستهدف تاريخه وإرثه الحضاري وذاكرته. تونس التي تعاقبت على أديمها حضارات مختلفة تعدّ آلاف المواقع والمعالم الأثرية، عدد منها صنّفته اليونسكو ضمن تراث الإنسانية العالمي، لذلك كانت ولا تزال محلّ أطماع عصابات سرقة الآثار والاتجار فيها.

من سنة 2012 إلى سنة 2016 سُجّلت على الصعيد الوطني 540 قضية تنقيب غير شرعية عن الآثار و116 قضية اتّجار فيها، تعهّدت بها وحدات الأمن والحرس، ولعلّ القضية التي أوليت اهتماما خاصّا هي قضية سرقة تمثال «غانيماد»، هذه القطعة الفنية الفريدة من نوعها في العالم والتي توفّقت الإدارة الفرعية للقضايا الإجرامية ومصلحة المحافظة على الآثار والتحف التابعة لها في استرجاعها ليلة 26 جانفي الماضي، بعد جهود مضنية استمرّت أكثر من ثلاث سنوات.

في هذا الملفّ، تسلّط ليدرز أضواء كاشفة على عالم جريمة سرقة الآثار في تونس والاتّجار فيها، وتستعرض الحصيلة المسجّلة في مجال مكافحتها وتطرح إشكالات حماية التراث الأثري وصيانته.

سرقة الآثار والاتّجار فيها جريمة معروفة منذ القدم، تنامت بالخصوص في القرن التاسع عشر، مستهدفة البلدان المتميّزة بثراء مخزونها الأثري وتنوّعه. منذ أوائل القرن، سعت القوى الاستعمارية إلى وضع اليد على جانب من هذا المخزون لتنمية أرصدة متاحفها. مجوهرات ومنحوتات وتحف فنية وقطع نقديّة ولوحات فسيفسائية وكتب ومخطوطات نفيسة... وحتّى مومياءات فرعونية تقوم شواهد على عظمة حضارات إنسانية مختلفة أخذت طريقها إلى متاحف عدّة مثل متحف اللوفر بباريس والمتحف البريطاني بلندن اللذين يقبل على زيارتهما كلّ سنة عشرات الملايين من السوّاح .ألم يكن من بين أهداف حملة الجنرال نابليون بونابرت على مصر (1798 ـ 1801) جلب ما تيسّر من تراث هذا البلد، وخاصّة الفرعوني منه، تحت غطاء «المهمّة العلميّة»؟ أمّا اليوم، فإنّ الشبكات المنظّمة وجدت في بلدان في حالة حرب كالعراق وسوريا واليمن مناجم تظفر منها بغنائم أثرية تنمّي تجارتها. هل ننسى كيف نُهب المتحف العراقي، بكلّ ما يحتويه من نفائس، غداة سقوط بغداد يوم 9 أفريل 2003؟

نهب ممنهج

لم يسلم التــراث الأثري التونسي خلال القرن التاسع عشر من النهب والسرقة. يخبرنا هنري دونان(1) Henry Dunant  في كتابه (Notice sur  la Régence de Tunis (2 أنّ المـــواطــن الأنقليزي ناتان دافيس (3) Nathan Davis قام في ربيع سنة 1857 بحفريات في الموقع الأثري بقرطاج واستخرج منه عدّة قطع منها لوحات من الفسيفساء وتماثيل من المرمر الأبيض تعود إلى العهد الفينيقي وأنّ الباي وحاشيته زاروه في حضيرة التنقيب، مبدين اهتماما بأعماله، مضيفا أنّ دافيس الذي أقام عدّة مرّات في تونس زار الكاف وتبرسق وتستور وعين تونقة ودقّة وأوتيك والوطن القبلي ووسط البلاد. وكتب هنري دونان بشيء من التهكّم: «يبدو أنّ الهدف من مهمّة دافيس إثراء أوروبا بممتلكات قرطاج!!»

وجاء في مصدر آخر أنّ ناتان دافيس الذي قام بهذه المهمّة بدعم من حكومته أرسل 51 صندوقا شُحنت فيها قطع أثرية تونسية إلى المتحف البريطاني في أواخر سنة 1858، وتواصلت إرسالياته سنتي 1859 و1860، في أعقاب حفريات أجراها في قرطاج وأوتيك بيد عاملة تونسية.

لكنّ أخطر عملية نهب استهدفت الذاكرة الوطنية هي تلك التي جدّت في الليلة الفاصلة بين يومي 30 و 31 أوت 1888 عندما سُرقت من متحف قرطاج 200 قطعة نقدية من الذهب والفضّة والبرونز تعود إلى عهود البونيقيين والقرطاجنيين والرومان والوندال و100 قطعة من الحجارة الكريمة (ياقوت، زمرد...) إلى جانب قطع صغيرة الحجم تعود إلى العهدين القرطاجني والروماني. ولم تستبعد «المجلّة العقاريّة التونسية»(4) الناطقة بالفرنسية التي أوردت الخبر أن يكون الجاني  غادر تونس وأنّه قد يبحث عن فرص لبيع المسروق في عواصم كبرى.

تفكيك أوّل شبكة منظّمة

برزت سرقة الآثار كجريمة منظّمة في تونس في تسعينات القرن الماضي، وتمّ في سنة 1996 تفكيك أوّل شبكة، على إثرها أحدثت مصلحة المحافظة على الآثار والتحف صلب إدارة الشرطة العدلية. كوّن المدعو ق.ق هذه الشبكة بداية من سنة 1993 وتخصّصت في السرقة من المتاحف والمواقع الأثرية لتبيع القطع المستولى عليها في الخارج. في سنة 1998 سُرقت قطعة أثرية من متحف صفاقس استرجعت في سنة 2000 من بريطانيا، وفي سنة 2002 أمكن استعادة قطعة أخرى كانت سُرقت من متحف أوذنة في سنة 2000، ولم يكن التاجر الألماني الذي اقتناها يعلم أنّها كانت مسروقة.

بعد أن قضّى ق.ق فترة في السجن عادت الشبكة نفسها إلى الظهور في بداية سنة 2000 بتكتيك مغاير بعد أن استخلصت العبر ممّا جرى في السابق، فربطت علاقات بأشخاص يعملون في مواقع أثرية غير محروسة وقامت بعمليات تنقيب غير شرعية، وكانت هذه الشبكة تحظى بحماية عدد من أصهار بن علي. وكانت تعرض على الوسطاء في الخارج قطع ذات قيمة فنية عالية مستخرجة من الحفريات، وتعاون ق.ق سنة 2009 لترويج عدد منها مع تاجر ألماس W.T.V يعمل في جنوب أفريقيا. وكلّما علمت السلطات التونسية عن طريق الأنترنات وشبكات التواصل الاجتماعي بعمليات بيع قطع نفيسة في الخارج قد تكون سُرقت من البلاد، كانت تتدخّل لمنع بيعها، فتُمنح آجالا لإثبات مصدرها قبل التفويت فيها. وهناك من البائعين من كان يدّعي أنّ ملكية البعض من القطع تعود إلى معمّرين فرنسيين، في عهد الحماية. وقد حصل، حسب مصادرنا، أن عُرضت للبيع قطع تحمل أرقام الجرد!!

تـــمّ في سنـة 2009 تفكيــك الشبكـــة من جـديـد، وانطلقـــت الأبحاث مـــن القاعدة إلى أن وصلت إلى ق.ق وإلى شخـص آخــر ذهب إلى الخـــارج. وبعـــد 14 جــانفي 2011، عُثر على قطـــــع أثــــرية نفيســـة في بيوت عـــدد من أصهار بن علي من بينهم صخر الماطري وبلحسن الطرابلسي، وقد فُتحت بشأن هذه القطع قضايا عدليّة. ومن بين القطع التي عُثر عليها في حديقة بيت صخر الماطري قناع غورغون (masque de Gorgone) الذي استعادته السلطات الجزائرية من السلطات التونسية في أفريل 2014.

قضايا نهب الآثار على الصعيد الوطني*

 

قضايا باشرتها مصلحة المحافظة على الآثار والتحف

 

حجز 7000 قطعة أثرية ومخطوطات عبريّة

منذ سنة 2012 وإلى يومنا هذا حجزت السلطات الأمنية ما يناهز 7000 قطعة أثريّة، 80 بالمائة منها مقلّدة. غير أنّ ما يسترعي الانتباه من بين المحجوزات وجود مخطوطات عبرية ذات قيمة كبيرة، من بينها ثمانية موضوعة في صناديق خشبيّة كبيرة وكتب من الشرق دخلت إلى تونس عن طريق ليبيا والجزائر وكذلك مجلّد نقشت حروفه على الرصاص، وصل إلى فرنسا قبل أن يعود إلى تونس. إلى أين كانت ستذهب هذه المخطوطات؟ ومن كان سيقبل على شرائها بأموال طائلة؟

كما برزت في جهة تطاوين ظاهرة التنقيب عن الهياكل العظمية للديناصورات، وتصل قيمة الهيكل العظمي لهذا الحيوان الذي كان موجودا في عصور ما قبل التاريخ إلى حدود 6000 يورو، إلى جانب محاولات مشبوهة يقوم بها أجانب للتنقيب عن الآثار تحت غطاء جمعيات خيرية! كما لوحظ في الجنوب البحث عن الأحجار النيزكية (météorite) التي تباع بالغرام بالمزاد العلني بالخارج..

إجراءات أنجع لتعزيز الحماية

هناك من يعتبر أنّ الثغرات الموجودة في مجلّة التراث الأثري والتاريخي والفنون التقليدية الصادرة سنة 1994 ساهمت إلى حدّ ما في ما يسجّل من جرائم نهب الآثار والاتّجار فيها، وأنّ مراجعة عدد من فصولها بات أمرا ضروريّا، فضلا عن الإسراع بتحيين خرائط المواقع الأثرية البحرية وتعزيز حمايتها. وتذكر مصادر عليمة أنّ التراث تحت مائي الوطني يتعرّض هو الآخر إلى النهب، إذ أنّ العديد من المراكــب ما فتئت تجوب المياه الإقليمية التونسية وعلى متنها غوّاصون يقومون باستكشاف قاع البحر لاستخراج نفائس منه، مستخدمين  لتحديد المواقع وسائل تقنية جدّ متطوّرة.

وهناك أيضا من يطرح فكرة تبدو على غاية من الجرأة تتمثّل في السماح للمولعين خاصّة بجمع القطع الأثرية والتاريخية من شراء قطع تونسيّة مهرّبة تُعرض للبيع بالخارج، وإعادتها إلى البلاد فتُسجّل، وتُعرف بالتالي الجهات المالكة لها، وهي طريقة تضمن استرجاع  نفائس من التراث الأثري وحفظ جانب منه لدى الخواصّ. وفي السياق  نفسه، سجّلنا مقترحا آخر لا يقلّ جرأة يدعو إلى بيع قطع نقديّة ومنقولات أثريّة عجزت الوكالة الوطنية لإحياء التّراث عن حصرها وترسيمها في سجلّاتها، خاصّة وأنّ مثيلاتها موجودة لديه بالعدد الكافي، ممّا سيسمح للدولة بتوفير عائدات مالية في هذا الظرف الاقتصادي الصعب الذي تمرّ به البلاد.

وعلى صعيد آخر، سجّلنا نداء ملحّا إلى اتخاذ إجراءات أكثر نجاعة وصرامة لتعزيز حماية التراث الأثري والتاريخي في بلد يعدّ آلاف المواقع والمعالم الأثريّة التي تعكس عمق الانتماء إلى حضارات متعاقبة، وذلك بدعم القدرات البشرية لمصلحة المحافظة على الآثار والتحف التابعة للإدارة الفرعية للقضايا الإجرامية بانتداب مختصّين في القانون والتاريخ والآثار، خاصّة وأنّ جريمة سرقة الآثار والاتجار فيها تتطلّب معرفة دقيقة للآثار وأبحاثا على الميدان ومتابعة للمعلومة، علاوة على تكوين آليّة مشتركة للحماية تتكوّن من الأمن والحرس والديوانة والبحريّة، وخبراء في التراث.

عبد الحفيظ الهرڤام

(1) هنري دونان ( 1828 ـ 1910)، مثقّف إنسانوي من أصل سويسري، مؤسّس منظمة الصليب الأحمر. أقام بالجزائر ثمّ بتونس ستّة أشهر بين 1856 و1857.أصدر عن تونس سنة 1858 كتابا عنوانه Notice sur la Régence de Tunis حصل على الجنسية الفرنسية في 1859.

(2) صدر الكتاب بجنيف ثمّ صدر بتونس سنة 2012  في 277 ص عن فرع منظمة الصليب الأحمر الدولية.

(3) ناتان دافيس (1812-1882) أصدر إثر إقامته بتونس ثلاثة كتب باللغة الأنقليزية:

  • Tunis, or Selection  from a journal during a residence in that Regency Malta, 186
  • Carthage and her Remains, London, 1861
  • Ruined Cities Within Numidian and Carthaginian territories, London, 1862 

(4) العدد 51 من مجلّة Revue Foncière De Tunisie

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.