قلم المعزّ لدين اللّه الفاطمي
الأقلام أداة يوميّة لكلّ النّاس يصنع منها سنويّا مئات الملايين من أصناف وأحجام وخصائص متعدّدة: أقلام حبر، أقلام حبر جافّ، أو نصف جافّ، أقلام مستدامة وأخرى تُطرح بعد استنفاذ مادّتها الحبريّة والتطوّر مستمرّ ...بدأ الإنسان رحلته مع القلم منذ أن وضع الحروف وركّبها، تعلّم بها ما لم يكن يعلم، رافقه القلم في فكره وأحاسيسه وبالقلم شهد الإنسان على مكانته وإسهامه في الحضارة، عقل يفكّر ويد تمسك وقلم يُسطّر ويُسجّل.
صنع القلـم في البـداية ممّا تنتجه الطبيعة: قصـب وريـش أوزّ ثمّ استعمل الإنسان المعدن إلى أن وصل إلى القلم الخازن للحبر والقلم ذي الحبر الجافّ. ولكن القلم الخازن للحبر من وضعه لأوّل مرّة وأين؟
من أوروبّا إلى العالم الجديد
تقول المصادر إنّ أوّل قلم خازن للحبر أو القلم الخزّان ظهر بصورة عمليّة خلال القرن التاسع عشـر وذُكرت عدّة أسماء كفاولش (1809) وشيفر (1819) إلاّ أنّ من طوّر صورة جديّة للقلم الخازن هو لويس واترمان بالولايات المتحدة الأمريكية وسجّل براءة الاختراع باسمه سنة 1884 ومنها انطلقت صناعة ذلك الصّنف من الأقلام بصورة صناعيّة على نطاق واسع. ولكن تونس في الواقع هي من شهدت وضع أوّل قلم خازن للحبر تسع قرون قبل ذلك وعلى يد المعزّ لدين الله الفاطمي الخليفة الرّابع للدّولة الفاطميّة.
تونس أمّ الأقلام
وقد يكون ذلك الاختراع تمّ بالقيروان أو المهديّة وهما المدينتان اللتان أقام بهما المعزّ وأدار منهما شؤون دولته. وقد ورد خبر ذلك القلــــم ضمن المؤلّف الجامع «المجالس والمسايرات» للقاضي النعمان بن محمّد وقد تمّ إصدار هذا المؤلّف وتحقيقه من قبل الأساتذة الأجلاّء الحبيب الفقي وإبراهيم شبّوح - حفظهما اللّه - ومحمد اليعلاوي - رحمه الله -. ويضمّ الكتاب ما يزيد عن 500 صفحة لنقرأ الخبر ثمّ نستقرئه. ورد في «المجالس والمسايرات» ما يلي:
«قال المعزّ لدين الله: نريد أن نعمل قلما يُكتب به بلا استمداد من دواة يكون مداده من داخله، فمتى شاء الإنسان كتب به فأمــدّه وكتــب بذلك ما شاء ومتى شاء تركه فارتفع المداد وكان القلم ناشفا منه. يجعله الكاتب في كمّه أو حيث شاء فلا يؤثّر ولا يرشح شيء من المداد عنه ولا يكون ذلك إلا عند ما يبتغي منه ويُراد الكتابة به فيكون آلة عجيبة لم نعلم أنّا سُبقنا إليها ودليلا على حكمة بالغة لمن تأمّلها وعرف وجه المعنى فيها...» ويُضيــف النّعمان: «قلت ويكون هذا يا مولانا، قال يكون إن شاء الله».
ثم يقول: «فما مرّ بعد ذلك إلاّ أيام قلائل حتى جاء الصّانع الذي وصف له المعزّ الصّنعة به، معمولا من ذهب فأودعه المداد وكتب به فكتب وزاد شيئا من المداد على قدر الحاجة، فأمر بإصلاح شيء منه فأصلحه وجاء به فإذا هو قلم يُقلّب في اليد ويميل إلى كلّ ناحية فلا يبدو شيء من المداد فإذا أخذه الكاتب وكتب، كتب أحسن كتاب ما شاء أن يكتب به، ثمّ إذا رفعه عن الكتاب أمسك المداد».
والنصّ واضح جليّ، فالمعزّ لدين الله هو أوّل واضع لقلم الحبر الخازن ووصفه عبارة عن مثال هندسي صناعي وأوكل إلى صائغي عمله والذي استعمل معدن الذّهب لخصائصه التطويعيّة لكل الأشكال. وبذلك صنع النموذج فكان من الذّهب الخالص ومرّ بطور التجربة والتعديل فإذا هو مكتمل يحقّق هدف المعزّ من تصوّره وهو الكتابة بلا استمداد والحفظ دون ضرر. ولا شكّ أنّ الهدف الأوّل كان مقصد المعزّ فقد كان شغوفا بالحكم والمعرفة وقد وصفه المقريزي في تاريخه بأنّه عالم جليل ومفتون بعلم الكواكب والنجوم.
ومن خلال سيرته أثناء فترة حكمه لبلاد المغرب الإسلامي من المحيط إلى حدود مصرنعلم أنّه كان شديد الحرص على تتبّع ما يُؤلّف ويُنشر في عالمه القريب والبعيد ويأمر بنسخ ما يُؤلّف بالعربيّة وبترجمة ما يُؤلّف باللغات الأخرى للاطّلاع على هذه الكتب وحفظها في مكتبته تماما كما يفعل الأمريكيون اليوم حيث تتولّى مكتبة الكنغرس اقتناء كلّ ما ينشر بالعالم للاطّلاع. ويذكر القاضي النعمان الذي شغل عدّة وظائف سامية في عهد الدولة الفاطميّة وبالخصوص خطّة أمين مكتبة القصر، وهذا ما يدلّ على الأهميّة التي تولى للعالم والتي واصل تقاليدها المعزّ وزاد عليها إذ قال عنه «ما رأى ولا سمع بأعلم من المعز بكلّ فنّ يأخذ فيه من جميع ما يتصرّف النّاس». ولا شكّ أنّ المعز كان يبتغي السّرعة في التأليف والنسخ والترجمة إيمانا منه بأهميّة المعلومات وتأثيرها خاصّة وأنّه حكم مجالا كبيرا. كما كان له أسطول بحري هامّ مكّنه من بسط نفوذه على جزر الحوض الغربي وخاصّة صقليّـة وكريت. كما كان يواجه دولا كبرى كالإمبراطوريّة البيزنطيّة والدولة الأمويّة بالأندلـس والدولة العباسيّة بالمشرق. بقي أن نُعرّف بالمعز لدين الله الفاطمي من جهة والقاضي النعمان من جهة ثانية.
المعزّ لدين الله الفاطمي
هو أبو تميم معزّ بن منصور ولد بالمهدية حوالي سنة 920م وتُوفّي بالقاهرة سنة 932م، وتولّى الخلافة وهو ابن العشرين. أمتدّ ملكه سنة 972 إلى مصر والشام ودُعي له بالحرمين الشّريفين وانتقل إلى القاهرة التـــي بنــاها قائد جنده جوهر الصقلّي. والثّابت أنّ شخصيّة المعزّ بقيت مغمورة في بلده الأصلي ولا يُعرف عنها سوى القليــل ولربّما كانت الدّواعي المذهبيّة التي لا تزال آثارها إلى اليوم سببا لذلك.
القاضي النعمان
أمّا القاضي النعمان فهو النعمان بن محمد بن منصور التميمي، ولد بالقيروان حولي سنة 900 وتوفّي بالقاهرة سنة 974. وكان أبوه من دعاة الدولة التي أطاحت بالإمارة الأغلبيّة. شغل عدّة منــاصب ســــامية إلى أن عُيّن قـــاضي القــضــاة وعــرف المجـد مــع المعزّ لدين الله فهو بحقّ كما يقول المُحقّقون الأجلاّء «خادم الدعوة الإسماعيليّة ومؤرّخ أئمّتها». ترك الكثير من المؤلّفات أهمّها «المجالس والمسايرات» وقد ذكر فيه كل ما سمع المعزّ عن مذاكرة أو مجلس أو مقام أو مسايرة. وقد كان يُسجّل ما سمع إثر كل منها. وهذا اللّون من الكتابة لا يزال قائما إلى اليوم. ومن ٲشهر المؤلّفات من هذا الجنس كتاب «محاضر» (Verbatim) لجاك آتالي الذي كان مستشارا للرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتيران.
ويذكر المؤرّخون أنّ المعزّ لدين الله خرج من القيروان حاملا ذخائره وأموالـه ومكتبته على نحو ما يزيد عن مائتي جمل قاصدا مصر التي عاش بها حوالـي سنتيـــن ونصف السنة. واستفادت مصر من التراث العلمي الذي حمله إليها المعزّ. ولا شكّ أنّه حمل معه أيضا قلمه الذهبي، لكن لا يبدو أنّ النموذج طوّر صناعة النّسخ والكتابة إذ عاد الناس إلى استعمال الأقلام البدائيّة وبقوا على ذلك، بينما ظهرت الطباعة وتطوّرت الأقلام في أوروبا والعالم الجديد حتى ظهور الكتابة الافتراضية في الوقت الحاضر. ومن الغريب أن الأقلام الخازنة للحبر أو المستعملة له بصدد الاتجاه نحو قلم الذهب للمعزّ لدين الله الفاطمي على غرار السّاعات الثمينة والمجوهرات ولربّما سيُصنع يوما ما قلم من الذهب الخالص كما فعل المعزّ.
أبو عطف
- اكتب تعليق
- تعليق