مكانة أفريقيا في سياسة تونس الخارجية
بعد 14 جانفي 2011 طال النقد سياسة تونس الخارجية، واعتبر كثيرون، حتّى من بين أبناء الأسرة الديبلوماسية، أنّ السلطة السياسية لم تعر لعقود طويلة وخاصّة منذ 7 نوفمبر 1987، الاهتمام اللازم لبعد البلاد الأفريقي، ممّا حال دون تعزيز حضورها وإشعاعها على الصعيدين الثنائي ومتعدّد الأطراف، وفوّت بالتالي على المجموعة الوطنية فرصا كان بالإمكان استغلالها لتنمية صادرتنا نحو البلدان الأفريقيّة وفتح آفاق أمام الفاعلين الاقتصاديين لاقتحام أسواقها وفسح المجال لكفاءاتنا للعمل فيها ، بالنظر إلى ما تزخر به القارة من موارد طبيعية هامّة وما حقّقته دول فيها من نموّ اقتصادي لافت.
كما يعتقد أصحاب هذا القول أنّ إلحاح الخطاب الرسمي على انتماء تونس الأفريقي لم ترافقه لا سياسة فاعلة ولا استراتيجية واضحة الأهداف لتجسيمه على أرض الواقع. ما هو مدى صحّة هذا الطرح ؟ أيّ حظّ للشأن الأفريقي في سياسة تونس الخارجية منذ الاستقلال إلى غاية 14 جانفي 2011 ؟ هل نلمس اليوم في خطّة الدبلوماسية التونسية بوادر لرؤية جديدة للعلاقات مع أفريقيا؟ كيف السبيل إلى دعم تموقع تونس في الفضاء الأفريقي وأيّة فوائد يمكن أن تجنيها من ذلك؟
تونس وأفريقيا في العهد البورقيبي
ساندت تونس بمختلف الوسائل، منذ حصولها على الاستقلال، حركات التحرّر في أفريقيا، وخاصّة في جنوب أفريقيا وناميبيا والموزمبيق وأنغولا وإريتريا، كما ساندت استقلال موريتانيا وتبنّت انضمام هذه الدول عند حصولها على استقلالها إلى منظمة الأمم المتحدة.
وبادرت تونس في جويلية 1960 بإرسال فيلق قوامه 2261 عسكريا تحت راية الأمم المتحدة لحفظ السلام في الكونغو لحماية المطار ومقر البرلمان ومؤسسات حكومية أخرى وتحقيق الأمن بمنطقة Kassai واستمرت مهمّة الفيلق إلى جويلية 1961 ثمّ شاركت من جانفي 1962 إلى مارس 1963 بفيلق ثان قوامه 1100 عسكري لتأمين عودة اللاجئين وحماية المخيمات بـ Elisabethville.
ومنذ ذلك التاريخ، استمرّت تونس في المساهمة في عمليات حفظ السلام تحت راية الأمم المتحدة وتحت راية الاتحاد الأفريقي في البلدان والمناطق التي شهدت نزاعات مسلّحة وتوتّرات وهي: الكونغو الديمقراطية (من ماي 2000 إلى جويلية 2010) والصحراء الغربية ( من سبتمبر 1991 إلى جوان 1997) والصومال من (ديسمبر 1992 إلى جوان 1994) وجمهورية جنوب أفريقيا لمراقبة سير عمليات الانتخاب وفرز النتائج (من فيفري 1994 إلى ماي 1995) ورواندا مرّتين (من سبتمبر 1993 إلى جويلية 1994 ومن سبتمبر 1994 إلى ديسمبر 1995) وبوراندي في ثلاث مرّات ( من سبتمبر 1993 إلى أوت 1996 ثمّ من فيفري 2002 إلى ديسمبر 2004 ثمّ من فيفري 2007 إلى ديسمبر 2009) وجزر القمر (من نوفمبر 1997 إلى جوان 1999) وأثيوبيا- إرتيريا (من جويلية 2000 إلى أوت 2008) والكوت دي فوار ( منذ جوان 2003) وجمهورية أفريقيا الوسطى والتشاد( من سنة 2008 إلى ديسمبر 2010).
-وكان الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، إلى جانب قادة أفارقة تاريخيين، نذكر منهم كوامن نكروما وفيليكس هوفوات بوانيي ولييوبلد سيدار سنغور وجمال عبد الناصر، من ضمن مؤسسي منظمة الوحدة الأفريقيّة التي رأت النور في أديس أبيبا في 25 ماي 1963.
وقد قام الرئيس الحبيب بورقيبة في سنة 1965 بجولة قادته إلى عدد من البلدان الأفريقيّة، ممّا ساهم في إرساء دعائم العلاقات مع هذه البلدان وفي فتح صفحة مشعّة في تاريخ علاقات تونس بمحيطها الأفريقي. وقد استغل بورقيبة هذه الجولة للتعريف بتجربته النضالية وبحهود تونس في معركتها ضدّ التخلّف.
والجدير بالذكر أنّ تونس احتضنت سنة 1973 أوّل مهرجان أفريقي للشباب، كما استقبلت في كلياتها ومعاهدها العليا آلاف الطلبة الأفارقة وساهمت بالتالي في تكوين إطارات اضطلعت بمهام سامية في بلدانها.(نذكرعلى سبيل المثال الرئيس الكنغولي Pascal Lissouba الذي تخرّج مهندسا فلاحيّا من تونس). كما أوفدت في نطاق التعاون الفني أفضل كفاءتها للمساهمة في دعم المجهود التنموي في عدد من البلدان الأفريقيّة، وخاصّة جزر القمر وجيبوتي.
وتمّ آنذاك فتح سفارات في عدد من البلدان الأفريقيّة جنوب الصحراء ووقع إنشاء لجان مشتركة وتبادل الزيارات بين كبار المسؤولين.
ويجدر التذكير كذلك بأنّ تونس كانت عضوا مؤسسّا لبنك أفريقيا للتنمية وترأّس البنك تونسي وهو المرحوم عبد الوهاب العبيدي من 1970 إلى 1976.
في عهد الهادي نويرة الوزير الأوّل الأسبق آثرت تونس الانفتاح أكثر على أوروبا والبلدان الغربية والآسيوية لدعم عملها الإنمائي ولتمويل مخططاتها التنموية، فانحسر اهتمامها بشؤون القارة.
وسعى محمد مزالي الوزير الأول الأسبق إلى إعطاء دفع لعلاقات تونس الافريقية فقام سنة 1982 بجولة في عدد من بلدان القارة. وتمّ تأسيس البنك التونسي السينغالي قبل أن تنسحب منه تونس وساهمت الشركة التونسية للبنك في تأسيس بنك في النيجر SONI Banque.
تونس وأفريقيا من 7 نوفمبر 1987 إلى 14 جانفي 2011
عملت الدبلوماسية التونسية بعد 7 نوفمبر 1987 على تعميق انتماء تونس الأفريقي وشارك الرئيس الأسبق زين العابدين بن على في ماي 1988 في القمّة الأفريقيّة في أديس أبابا وقد تزامنت مع إعادة العلاقات بين تونس وأثيوبا التي قُطعت بسبب مساندة تونس لاستقلال إريتريا.
مع إحداث خطّة كاتب دولة مكلّف بالشؤون الأفريقيّة سنة 1991، بالإضافة إلى الشؤون المغاربية والعربية، تعدّدت اجتماعات اللجان المشتركة التي أفضت إلى التوقيع على عديد الاتفاقيات في مختلف المجالات ونظّمت بعثات اقتصادية متعدّدة الاختصاصات إلى دول أفريقيّة شارك فيها رجال أعمال ومصدّرون، ممّا ساهم في تنمية المبادلات التجارية مع البلدان الافريقية والتي ناهز حجمها في نهاية 2010 700 مليون دينار، دون احتساب تجارة الخدمات التي تطوّرت بفضل حضور مكاتب دراسات ومقاولات تونسيّة في عدد من البلدان الأفريقيّة.
وكانت دول أفريقيّة تبدي تقديرا لتجربة تونس الإنمائية وحرصا على الاستفادة منها، وقد ساهمت الشركة التونسية للكهرباء والغاز من خلال فرعها الدولي في خطط التنوير في عدد من بلدان القارة.
غير أنّ ذلك الاهتمام بالشأن الأفريقي والوعي بأهميّة التحرّك الديبلوماسي على الصعيد الاقتصادي لم يقابلهما مجهود كبير لتوسيع شبكة التمثيل الديبلوماسي في القارة الذي اقتصر على ثماني سفارات في عواصم البلدان الواقعة جنوب الصحراء (باماكو وداكار وياوندي وأبيدجان وكينشاسا وأبوجا وأديس أبابا وبريتوريا)، وهو تمثيل متواضع مقارنة ببلدان أخرى كمصر والجزائر اللتين لكلّ منهما 37 سفارة والمغرب التي لها 20 سفارة، فضلا عن القصور في مجالي النقل البحري والنقل الجوّي، إذ لا يتعدّى عدد وجهات الخطوط الجوية التونسية في أفريقيا جنوب الصحراء أربع وجهات وهي باماكو وداكار وواقدوقو وأبيدجان.
وعلى الصعيد المتعدّد الأطراف، احتضنت تونس لأوّل مرّة القمّة الأفريقيّة سنة 1994 وكانت رئاستها للمنظمة حافلة بالمبادرات، حيث دخلت خلالها آليّة السلم والأمن حيّز التنفيذ، كما نظمت تونس قمّة للجهاز المركزي لهذه الآلية وقمّة آخرى حول منطقة البحيرات الكبرى حضرها قادة دولها إلى جانب الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر.
واقتصرت مشاركة بن علي في القمم الأفريقيّة على قمتي أديس أبابا (1988 و1995) وقمم الجزائر وطرابلس والقاهرة.
وقد ساهمت الديبلوماسية التونسية بشكل فاعل في مختلف مراحل الإعداد لتحويل منظمة الوحدة الافريقية إلى الاتحاد الأفريقي الذي أعلن قيامه في قمّة لوزاكا سنة 2001.
منذ الاستقلال وإلى غاية 14 جانفي 2011 لم يرتق الاهتمام بالشأن الأفريقي الذي تفاوف حسب الظروف والأحداث و قناعات المسؤولين في أعلى هرم السلطة وفي وزارة الشؤون الخارجية إلى مستوى السياسة، لأنّ أيّ سياسة في أيّ مجال من المجالات ، تستوجب استراتيجيات وآليات لوضعها موضع التنفيذ، فكثيراً ما لا يقترن الخطاب بالفعل وتتعطّل المبادرات ومسارات التحرّك في اتجاه أفريقيا بسب انعدام المتابعة وغياب النظرة الاستشرافية وضعف الإيمان بالخيار الأفريقي عند البعض، مقابل التوجه بالدرجة الأولى إلى المحيط الأوروبي والمتوسطي، ولئن كان لهذا التوجه في السابق دوافع ومبرّرات يمكن تفهّما، وفي مقدّمتها قلّة الإمكانيات الماديّة للدولة، فإنّ واقع أفريقيا السياسي والاقتصادي الجديد وحاجة البلاد الملحّة إلى الانفتاح على فضاءات، خارج دائرة شركائها التقليديين يحتّمان العمل على إقرار سياسة أفريقيّة فاعلة ورفدها بما يلزم من موارد بشريّة ووسائل تحرّك ديبلوماسي ناجع.
الشأن الأفريقي في سياسة تونس الخارجية بعد 14 جانفي 2011
شهدت الديبلوماسية بعد 14 جانفي 2011 تقلّصا في حضورها وتذبذبا في أدائها بسبب ضعف الدولة وانشغالها بالأوضاع الداخلية، فضلا عن تتالي التغييرات على رأس وزارة الشؤون الخارجية وانعدام انسجام رؤى ومواقف رئيس الجمهورية المؤقّت ورئيس الحكومة في عهد الترويكا في مجال السياسة الخارجية. وحاول الرئيس المنصف المرزوقي توجيه رسائل مفادها أنّ تونس مقرّة العزم على تأكيد انتمائها الأفريقي من خلال جولة قام بها إلى عدد من البلدان الأفريقيّة سنة 2013 وحضور قمم أفريقيّة، لكنّه غاب عن القمّة التي كان عليه أن يحضرها، وهي القمّة المنعقدة في ماي 2013 بأديس أبابا بمناسبة الذكرى الخمسين لتأسيس منظمة الوحدة الافريقية. وشارك الرئيس الباجي قايد السبسي من ناحيته في جانفي 2015 في القمّة المنعقدة في العاصمة الأثيوبية والتي أكّد خلالها أنّ " تونس مصمّمة على استعادة مكانتها وعلاقاتها التاريخية مع دول القارة سياسيّا واقتصاديّا وثقافيّا، وتدارك ما شاب هذه العلاقات من نقائص في السنوات السابقة حالت دون تحقيق شراكة فعلية".غير أنّ مستوى تمثيل تونس في قمم الاتحاد الأفريقي تراجع منذ ذلك التاريخ.
وفي الأشهر الأخيرة أكّدت وزارة الشؤون الخارجية العزم على دعم العلاقات بالدول الأفريقيّة فأعلنت عن فتح سفارة بواقدوقو وفي شرق أفريقيا في نيروبي، فيما يعتزم رئيس الحكومة القيام بزيارات إلى السودان والنيجر وبوركينا فاسو في الأشهر القادمة. هل هو تحرّك ظرفي أم هو لبنة على درب بناء ساسية أفريقيّة لتونس؟
نحو استراتيجية متكاملة للتموقع في الفضاء الأفريقي
لا مناص من السعي إلى وضع استراتيجية متكاملة للتموقع في الفضاء الأفريقي.وتقوم هذه الاستراتيجية في نظرنا على محورين أساسيين:
1- محور ديبلوماسي
أ- على الصعيد الثنائي
- تبادل الزيارات في أعلى مستوى وعقد اجتماعات اللجان المشتركة والسهر على تنفيذ اتفاقيات التعاون في مختلف المجالات.
- تمكين عدد من الطلبة الأفارقة من منح تخوّل لهم مزاولة دراستهم في تونس، بما يجعلهم بعد تخرجهم دعاة للبلاد وأنصارا لها في المستقبل.
- إحداث سلك من المتطوّعين من بين الشباب العاطل عن العمل للمشاركة في المجهود التنموي في أفريقيا، بما يتيح
لهم ولغيرهم من التونسيين آفاق التموقع في أفريقيا. ويمكن البحث عن مصادر لتمويل هذه العمليّة في إطار التعاون الدولي.
- تكثيف الحضور الديبلوماسي في مختلف مناطق القارة، من خلال فتح سفارات، ولو بصورة تدريجية، في دول لها من الإمكانات الاقتصادية ما يسمح بترويج المنتوجات الوطنية في أسواقها ويتيح شراكة فاعلة مع قطاعيها العام والخاص.
ب- على الصعيد متعدّد الأطراف
- الحرص على المشاركة بفعالية في اجتماعات الاتحاد الأفريقي الذي يمثّل كتلة سياسية مهمّة تتكوّن من 54 دولة أصبح لها شأن في المستوى الدولي.
- العمل على تعزيز حضور الكفاءات التونسية في هياكل الاتحاد، استنادا إلى حصّة تونس من المناصب والبالغ عددها 17 منصبا، إذ ما فتئ هذا الحضور يتقلّص منذ سنوات
2- محور اقتصادي
لتجاوز المبادرات الظرفية المتمثّلة في البعثات الاقتصادية وإقامة معارض للمنتوجات التونسية، يستوجب الاندماج في الفضاء الاقتصادي الأفريقي توفير آليتين ضروريتين وهما النقل الجوّي والبحري والمنظومة البنكية.
وقصد تنمية حركة المسافرين والبضائع، قد يكون من المفيد توسيع شبكة رحلات الناقلة الجوية الوطنية بعد إعداد دراسات جدوى بشأن فتح خطوط جديدة وتشجيع الخواصّ على المساهمة في ذلك.
في مجال النقل البحري قد يكون من المناسب دعوة الناقلين الخواص إلى فتح خطين في اتجاه ميناء دوالا في الكاميرون في غرب القارة، وميناء جيبوتي، في القرن الأفريقي.
- تحفيز القطاع البنكي على فتح فروع أو استحداث مؤسسة بنكية في أفريقيا لتسهيل التجارة والمعاملات الماليّة ورفد الصادرات التونسية نحو بلدان القارة.
- إحداث هيكل قار صلب مركز النهوض بالصادرات يتولّى إعداد قاعدة بيانات حول التشريعات والقوانين المعمول بها في مختلف الدول الأفريقيّة في مجالات التجارة الخارجية والجباية والقمارق...
فرص وآفاق
يمثّل الطلب المتنامي للمنتوجات المعملية ولمختلف الخدمات رافعة مهمّة لتنمية اقتصاديات القارة الأفريقيّة، ممّا يمنح فرصا لتونس لدعم اقتصادها الذي يكمن مستقبله في الاندماج في الفضاء الأفريقي.
وتجدر الملاحظة أنّ هذا الاندماج لا يزال ضعيفا، ففي مجال التصدير نحو أفريقيا تحتلّ تونس المرتبة 29 في مستوى القارة وفي ميدان الاستثمار تحتلّ المرتبة 28 في ما يخصّ جاذبية الاستثمارات الخارحيّة ، على الرغم من بيئة قانونية تعتبر الأكثر تحفيزا في أفريقيا.
ولتونس قدرة على الاندماج الاقتصادي في أفريقيا من خلال قطاعات ذات قيمة مضافة في مجال الخدمات كالسياحة الاستشفائية والتعليم العالي والهندسة والاستشارات.
عبد الحفيظ الهرقام
- اكتب تعليق
- تعليق