أخبار - 2017.01.23

عــزيزة‭ ‬عثمـانــــة‭ (‬1606‭ ‬–‭ ‬1669‭)‬ المـحســنـة‭ ‬والمثقّـفــــة

عــزيزة‭ ‬عثمـانــــة‭ (‬1606‭ ‬–‭ ‬1669‭)‬ المـحســنـة‭ ‬والمثقّـفــــة

ما انفكّ اسمها يتردّد على ألسن العديد من التونسيين والتونسيات بما أُنّه أُطلق على أحد مستشفيات العاصمة، ولكنّ قلّة منهم تعرف تاريخ عزيزة عثمانة التي خصّها الأديب والسياسي والمؤرّخ المرحوم الصــادق الزمرلي (1885-1883) بفصـل من كتــابه القيّم باللغــة الفــرنسيّة Figures tunisiennes. وقد وفُّق الأستاذ المرحوم حمّادي الساحلي في نقله إلى العربية واختار له عنوان «أعلام تونسيون» لتتولّى نشره دار الغرب الإسلامي ببيروت سنة 1985. ويتكوّن المؤلّٓف من أربعة أجزاء تضمّ ما سجّله صاحبه من تراجم لأبرز الرجال الذين سبقوه أو عاصروه كان نشرها على صفحات بعض الجرائد والمجلّات الناطقة بالفرنسيّة. وبيّن الأستاذ حمّادي الساحلي في تقديم النشرة العربيّة للكتاب أنّه «رغم كثرة الكتّاب التونسيّين في باب التراجم والسِّيٓر، فقد امتاز عنهم المرحوم الصادق الزمرلي بأسلوبه المتطوّر والمتلائم مع روح العصر. ذلك أنّ كتابة التراجم لم تكن عنده مجرّد سرد للمعلومات الجافّة والأخبار المنقولة في أغلب الأحيان عن الكتب والرواة، بل إنّه قد توخّى طريقة جديدة تنطلق أساسا من العناية بالعٓلٓم المترجم له وتحليل شخصيّته ودراسة عصره بجميع ظروفه وملابساته، كلّ ذلك في أسلــوب فنّــي وأدبي رفيع».

ولإلقاء الضـوء على شخصــيّة عـزيزة عثمانة، تلك المرأة الجليلة التي حفلت مسيرتها بأعمـال الخير والبــرّ، نورد في ما يلي ترجمة لحياتها بقلم المرحوم الصادق الزمرلي«في هذا العالم الذي يشهد تطوّرا متزايدا وتسابقا مذهلا نحو المصير المجهول، يدفع بأشدّ الناس تبصّرا إلى الاستغراق في حيرة مقلقة، مٓن من الشباب المنساقين إلى أهواء أخرى والمنشغلين البال بهموم مختلفة، يتذكر الأميرة العظيمة التي كانت مثالا للفضيلة والعفّة ورهافــة الحسّ؟ من منهـــم إلاّ ما قلّ وندر- تساءل عن المكانـــة المرموقة التي احتلتها تلك المرأة، في فترة حاسمة مـــن تـاريخ وطنـنا، وقد خرج منذ أمد قصير من الانتفاضـــات المفجعــة التي حكمت بها عليه السياســة الخــرقاء والأثيمة المتبعة من قبل الأمراء الحفصيّين الأخيرين وما نتج عن الاحتلال الإسباني من عواقب؟.

فكم عانى السكان العزّل والمسلمون، في العاصمة وغيرها من المدن الساحليّة، التي يعسكر بها الجنود الأجانب، من أعمالهم العدوانية، وقد كانت أبسط التّعلاّت كافية لإثارتها!

ذلك أنّ سلوك أولئك المتوحّشين قد تميّز بأعمال النهب المختلفة الأشكال وأعمال العنف المسلّطة على الأشخاص وانتهاك الحرمات وتدنيس أماكن العبادة وتدمير المكتبات الخاصّة والعامّة أو تشتيتها، وقد كانوا يتجاوزون ما تصدر إليهم من تعليمات متّسمة بالنفاق من رؤسائهم، فينتشرون في الأحياء الإسلامية، مجدّدين - ولو على نطاق ضيّق - الأعمال التي أدخلت في القديم الحزن والأسى على المدن العربية الكبرى بإسبانيا في عهد الملكة الكاثوليكية إيزابيل ورئيس الأساقفة كسيمينيس، المندفع والسريع الغضب.

ولكن بفضل تدخل القائد التركي سنان باشا المظفّر في سنة 1573، تمّ طرد الإسبانيين من تونس. إلاّ أنهم تركوا آثارا عميقة لاحتلالهم المهين. فأصبح من اللاّزم العمل على محوها في أسرع وقت ممكن، مهما كان الثمن، مع الحرص على تمكين الدولة الجديدة من جهاز إداري عتيد خشية الاستغراق في الارتباك والفوضى. ولقد تفرّغ عثمان داي(1) في الحال للاضطلاع بهذه المهمة الأكيـدة، فاستغــلّ ما كان يتمتّع به من نفوذ لدى الديوان وكبار الموظفين الأتراك الذين تركهم محرّر البلاد، مكرّسا جهوده لتضميد ما أصيبت به إفريقية من جوارح، سواء من قبل الاحتلال الأجنبي أو من أثر الاضطرابات التي أثارها الأعراب المستعدّون دوما وأبدا لاستغلال أدنى ضعف من جانب السلطة.

ولا يفوتنا أن نذكر أنّ المهاجرين المسلمين القادمين آنذاك من الأندلس، فارّين من محكمة التفتيش وما سلّطته عليهم من إهانات لا تحتمل، قد توجّهوا أولا إلى المغرب الأقصى ثم إلى الجزائر وتونس، وقد أثار قدومهم مشكلا دقيقا في وجه الإدارة الجديدة التي حرصت على فضّه بسرعة وعلى أحسن وجه ممكن.

ولقد كرّس عثمان داي جهوده للقيام بتلك المهمة بمساعدة بعض الضبّاط البارزين التابعين لحاشيته وبإعانة ابنه أبي العباس أحمد المشارك له في إدارة الإيالة. فتوفّق بعد جهد جهيد إلى إقرار القادمين الجدد في المدن الواقعة في شمال البلاد وشرقها، حيث لم يلبثوا أن شيّدوا المداشر والقرى، ومنحوا من جديد لتلك المناطق المهجورة الحياة والازدهار، وذلك بفضل ما كانوا يتمتعون به من خبرة ومواهب جرّبت فصحّت، وما كانوا يمتازون به من روح مبادرة وإنجاز. وفي خضمّ ذلك النشاط الخصب والمنظّم ولدت الأميرة عزيزة في بيت أبي العباسي أحمد. فنشأت نشأة مطابقة لتعاليم الشريعة الإسلامية المدقّقة، تحيطها رعاية أبيها الذي كان يعتبرها درّة بيته، وذلك لما كانت تتمتّع به من جمال فتّان ومواهب سابقة لأوانها، إذ أنها أظهرت منذ حداثة عهدها استعدادات نادرة، سواء لدراسة الأدب أو لتلقّي العلوم الدينية التي سهرت على تلقينها إياها نخبة من الأساتذة المشهورين.

أضف إلى ذلك، أنه بالرغم ممّا كان يحيط بها من يسر وترف وما كان يتخلّل حياة الطبقة الرفيعة التي تنتمي إليها من حفلات متعدّدة ومتنوّعة، فإن الأميرة الشــابة وربّة البيـــت الكاملة والمتـدرّبة على أساليب الحياة العائلية، قد أظهرت منـذ سنّ المراهــــقة ميلا واضحا للتأمّل والعبادة، الأمـر الذي أبعـــدها عن تلك السفـــاسف وحـرّضهـــا على إشباع نوع آخر من الرغائب أعني البرّ والإحسان.

ولقد تزوجت في سنّ مبكّرة ضابطا لامعا، من الضباط التابعين لحاشية والدها يقال إنه مراد باي. فعاشت إلى جانبه عيشة مثاليّة وكرّست كلّ حياتها تقريبا للعبادة وأعمال البرّ.

وبقدر ما كانت مولعة بالعبادة، كانت ربّة بيت حريصة أوّلا وقبل كل شيء على تدبير شؤون قصرها الذي كان يعجّ بالخدم من جميع الأصناف. فلم تنبهر في أي وقت من الأوقات ببذخ وترف الطبقة التي كانت تحيط بها عهدئذ، ولا انساقت للإغراءات الاجتماعية التي كانت تستسلم لها السيدات المنتميات إلى نفس مرتبتها. بل بالعكس من ذلك، فقد كانت مخلصة للتعاليم الإسلامية الصارمة، حريصة كلّ الحرص على الامتثال إليها بكل دقّة مهما كان الثمن. ولم تعبأ بمخاطر السفر إلى البقاع المقدّسة وأتعابه التي لا مفرّ منها مهما كانت منزلة المسافر. فقرّرت أداء مناسك الحجّ رفقة عدد كبير من الخدم الذكور والإناث، أعتقتهم جميعا حالما انتهت من أداء فريضتها.

وسوف لا نفيض القول حول أطوار تلك الرحلة الطويلة التي قامت بها، سواء عن طريق البحر أو عن طريق البرّ، عبر فيافي الحجاز القاحلة. ولا نطيل الحديث عمّا تخلّل تلك الرحلة من أحداث محزنة وعجيبة. ولكلِّ لا يمكن أن نغفل عن ذكر الهبات التي وزّعتها من حولها سواء لإغاثة الفقراء والمساكين في تلك الربوع أو لمساعدة الجائعين المحيطين بالحرمين الشريفين والذين كان عددهم لا يحصى آنذاك.

ومنذ رجوعها إلى تونس كرّست كلّ جهودها لأعمال الخير والبرّ وتجرّدت بمحض إرادتها وبمقتضى وصيّة مكتوبة، من جميع ما كانت تكسبه من أملاك هامّة بالنسبة إلى ذلك العصر، وذلك في سبيل المشاريع الخيرية المخصّصة لفائدة المستضعفين والمحرومين مدى الأحقاب.

ولقد أبت ابنتها فاطمة المضاهية لها في السخاء والسائرة على منوالها، إلاّ أن تواصل عمل أمّها وتزيده اتساعا. ولم يرتح لها بال حتى أوقفت - بمقتضى رسم محرّر أمام العدول، مازال نصّه الأصلي موجودا بمحفوظات جمعية الأوقاف سابقا - قلت لم يرتح لها بال حتى أوقفت جملة من العقارات والأراضي والأملاك المختلفة على المؤسسات الخيرية التي تنسب إلى حدّ الآن إلى الأميرة عزيزة عثمانة دون سواها، خلافا لما يقتضيه العدل والإنصاف.

وقد تمثّلت أعمالها بالخصوص في تجهيز الأبكار الفقيرات عند زواجهن وختن الأطفال للفقراء أو المتشرّدين مجانا وافتداء المسلمين المختطفين من طرف القراصنة وتوزيع الأموال والحلويات على الأطفال بمناسبة بعض الأعياد وتأسيس مستشفى أقيم في أوّل الأمر بنهج العزافين بتونس ثم حوّل فيما بعد إلى القصبة. تلك هي باختصار أهمّ إنجازات تلك السيدة العظيمة التي يحقّ لتونس أن تفتخر بها، باعتبارها إحدى بناتها، وذلك على قدم المساواة مع والدتها الفاضلة.

ولقد لبّت عزيزة عثمانة داعي ربها سنة 1080هـ (1669م)، فحزن على وفاتها شعب بأسره، شعر شعورا مبهما بأنه قد فقد يوم وفاتها امرأة محسنة نادرة المثال، ستبقى صورتها الجميلة والمشرقة إلى أبد الدهر في أذهان الأجيال المعترفة بالجميل. هذا ورغم إعجابها الشديد بالولي الصالح سيدي أحمد بن عروس، فإنه لم يسمح، لأسباب غامضة، بدفنها في زاويته بعد وفاتها.وقد أسفت لذلك، ولكنها لم تفقد ثباتها. فتمكنت من تذليل تلك العقبة وحولت بيتا من البيوت الكائنة بزنقة الشماعية إلى تربة محاذية لضريح الوليّ.

ودفنت بتلك التربة مع عدد من ذويها في غرفتين تعلو كل غرفة منها قبّة تعتمد على أعمدة رقيقة ورشيقة من الرخام وتنيرها مجموعة من النوافذ المخرّمة والمرصّعة بالزجاج الملوّن، تشعّ منها على القبور المكسوّة بالزخارف البارزة، أنوار مشعشعة متعدّدة الألوان، تضفي عليها من البهجة ما يضاهي روعة ضريح السّعديّين بمراكش...

ومن الغريب أن لم يشر أي مؤرخ من مؤرّخينا إلى هذه المرأة الفذّة، ماعدا ابن أبي دينار وأحمد بن أبي الضياف، فقد خصّص لها كلّ منهما في كتابه(2) بعض الأسطر الفاقدة لأية حرارة والتي لا تعكس أبدا ما قامت به من دور اجتماعي وثقافي بالغ الأهمية. فكيف يمكن تفسير ذلك الموقف، بالنظر إلى شخصية عزيزة عثمانة المنقطعة النظير وأهمية العمل المرتبط باسمها؟ والحال أن تونس لم تكن تفتقر آنذاك إلى العلماء والباحثين المتعوّدين على تسجيل أي حدث أو أي عمــــل يكتســـي أهمـــية سياسية أو اجتماعية، أمثال آل بيرم وآل بلخوجة وغيرهم من العلماء الذين قدموا إلى تونس مع سنان باشا أو بعد تدخّله المظفّر. كما أنه لا سبيل إلى التنقيص من قيمة المشاريع الخيرية التي أنجزتها تلك الأميرة، سواء لإغاثة المحرومين أو لبثّ العلم في صدور أبناء الطبقات المتواضعة من الشعـــب. وتبعــا لذلك لا يمكن التماس العذر لسكوت أولئك العلماء، اللهمّ إلاّ إذا اعتبرناه موقفا طبيعيا لبعض العلماء، الذين بلغـــوا ســنّ النضـج، ولم يكـــونوا ميّالين كثيرا إلى تمجيد أعمال معاصريهم. فلعلّهم اعتبروا أعمال عزيزة عثمانة من الأمور الطبيعية والعادية التي لا تستحقّ أيّ ثناء وتنويه.

فلا غرابة حينئذ إذا ما وجب علينا انتظار العلامة التونسي حســن حسني عبد الوهاب، ليرسم لنا صورة تلك الأميرة، بفضل ما قــام به مـن أبحاث طويلة النفــس ومضنية، وذلك بأسلوب بديع وبعبـــارات مـــــؤثّرة تشـــرّف ما امتاز به ذلك الأديب المبدع والملهم من موهبة.

ذلك أن ما خصّصه لها في كتابه «شهيرات تونسيات»(3) من صفحات تطفح بالإعجاب والتقدير يجعل ذلك الكتاب في عداد المصنّفات الأدبية الجديرة باحتلال مكانتها المرموقة في مكتبة كلّ رجل ثقافة.

هذا وإنّ كاتب هذه الأسطر ليضمّ صوته بكلّ صدق إلى صوت ذلك المؤلّف، للتعبير عن تقديره المؤثر لتلك المرأة التونسية العظيمة، وهو لا يرى ما يمكن أن يقوله في شأنها أحسن من هذا البيت الشهير لأبي الطيب المتنبّي:

ولـو كان النساء كمـا فقدنـا   ***  لفضّلت النسـاء على الرجال

فليبارك الله هذه الأرض الطيبة التي ضمّت رفات الأميرتين الجليلتين، وقد كانت كل واحدة منهما مثالا حيّا لأسمى الفضائل الإسلامية ألا وهي التقوى والإيثار والانقيـــاد عن طواعية والحلم الذي لا ينضب له معين».

ع.ل

(1) مدّة عثمان داي: 1610-1598

(2) ابن أبي دينار: «المؤنس في أخبار إفريقيا وتونس «- أحمد بن أبي الضياف : «إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان».

(3) حسن حسني عبد الوهاب: «شهيرات التونسيّات». الطبعة الأولى 1934- الطبعة الثانية 1966.

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.