ثقافة المقاومة لدى التونسي وممارستها: 18جانفي 1925 / 18جانفي 1952
يفصل بين التاريخين الأوّل والثاني سبع وعشرون سنة ، لكنّ كلاهما شهد حدثا بارزا فى تاريخ تونس الحديث، فسنة 1925 عرفت تأسيس جامعة عموم العملة التونسيين للدفاع عن الكادحين المهمومين و لبثّ الوعي في الشعب ليدوس اتفاقيات الحماية التي لم تحترمها فرنسا واستغلتها لتخريب تونس واستغلالها، أما سنة 1952 فقد شهدت اندلاع المواجهة الرئيسية مع النظام الاستعماري، لنيل استقلال تونس وسيادتها.
تمّ مؤتمر جامعة عموم العملة ومؤتمر الحزب الحر الدستوري الجديد تحت حصار القوات الفرنسية التي منعت انعقادهما لكن الأشغال جرت بسرعة برئاسة محمد علي الحامي للأول والهادي شاكر للثاني إصرارا منهما على المواجهة والمقاومة و كان هذا دوما من خصال التونسي وطبعه.
تونس من البلدان القليلة في العالم التي لها خاصيّة جذب الغزاة بحكم موقعها الاستراتيجي و انفتاحها على البحر والصحراء.
لقد عرفت السيطرة البونية والاحتلال الوندالي والبيزنطي واكتوت بنيران الخلافات المذهبية المشرقية ثم عرفت الاحتلال النرماني لسواحلها وزحف القبائل البدوية ثم الحملة الصليبية الثامنة قبل أن تسقط ضمن مجال الصراع الإسباني العثماني ثم رزحت طويلا تحت حكم العسكر من دايات وبايات آل بها في الأخير إلى السيطرة الاستعمارية.
و خلال كل هذه الأحداث قاومت البلاد التونسية الغزاة والطغاة و بنفس هذه الروح تمت مقاومة الاحتلال الفرنسي .فغداة توقيع معاهدة الحماية وجّه الباي منشورا لحمل الكافة على عدم مقاومة المحتل و قبول ما ليس لهم طاقة لدفعه وقد جاراه في ذلك شيخ الإسلام ابن الخوجه بفتوى في الاتجاه نفسه.
و على الرغم من التشتت والاختلاف اللذين برزا في البلاد،ما حال دون قيام مقاومة وطنية موحدة، فقد جوبهت القوات الفرنسية بمقاومة شرسة من القبائل والعروش بالشمال والوسط والجنوب بينما عرفت مدينة صفاقس أعنف المعارك والمواجهات وسقط من بين المدافعين عنها ما يتجاوز ثمانمئة شهيد.
لقد خلعت المدينة الباي ورفعت علم الجهاد وفقا للمبدإ: إذا حضر العدو بلدا يقيم به المسلمون فإنه يتوجب على الجميع الخروج للقتال.
كان احتلال تونس باهض الثمن لفرنسا وشكّلت أعمال المقاومة أثرا لا ينمحي وكانت بمثابة البذور لقادم المواجهات.
عودة الوعي و تأكد الذاتيه الوطنية
بقيت البلاد ردحا من الزمن تحت التأثير النفسي للانتكاسات واستغل الاحتلال ذلك لبسط نفوذه وسيطرته في كل المجالات .
و على الرغم من أنّه أبقى المنظومة التقليدية التي وجدها فإنّه جعلها في حالة شلل تام أو شكلية على أقصى تقدير.
ومنذ الوعي بأن الحماية لم تبسط إلاّ لفائدة المصالح الفرنسية و وبأنّها مدخل للاستئثار بأراضي تونس ومناجمها وبحارها فقد اندلعت جذوة المقاومة كما تندلع النار تلقائيا في وسط مهيأ لذلك. و نذكر من تلك الأحداث أهمّها وهي:
- انتفاضة القصرين ضد الاستيلاء على الأراضي الاشتراكية في سنة 1906.
- انتفاضة العاصمة ضد تسجيل مقبرة الجلاز لفائدة البلدية في سنة 1911.
- مقاطعة أهالي العاصمة لخدمات النقل الحضري بسبب إهانة العمال الأجانب لهم ومقتل صبي تونسي عمدا من من قبل سائق إيطالي في سنة 1912.
- انتفاضة أهالي الجنوب ضد القوات الفرنسية التي حوّلت الجنوب إلى منطقة عسكرية خالصة في سنة 1915.
- انتفاضة مدينة الحامة بقيادة محمد الدغباجي في سنة 1924.
أحداث 9 و10 أفريل في سنة 1938بعد تهاوي سياسة توسّم الخير في حكومة الجبهة الشعبية.
والثابت منذ بروز حركة الشباب التونسي أنّ الغضب من سياسات وممارسات نظام الحماية ما انفك يولّد النقمة والرغبة في رد الفعل لكن وعلى الرغم من الهجرة المكثفة للأجانب في تونس فإنّه لم تفض إلى مشاعر الحقد أو الميز سواء كان عنصريا أو دينيا ضدهم وتركزت تحركات النخب والقوى الشعبية على المطالبة بحقوق التونسيين وكذلك بالمساواة مع الرعايا الأجانب وهو الشعار الذي ترفعه الجمهورية الفرنسية التي تتدعي حمايتها ورعايتها لتونس.
لذلك فإن حلم محمد باش حامبة ودعوته إلى تكوين حزب جماهيري وتنظيمات مهنية مرتبطة به غايته الكفاح من أجل الاستقلال لم تجد صداها لدى النخب التي اقتصرت على المطالبة بالدستور وتقديم العرائض وتحرير الفصول الصحفية كما كان يتندر بذلك الحبيب بورقيبة.
التعنت الاستعماري واندلاع ثورة 18 جانفي 1952
لم تثن أحداث الحرب العالمية الثانية وتطور العلاقات الدولية باتجاه التخلص من الاستعمار فرنسا التي عرفت الاحتلال النازي عن سياستها الاستعمارية ودعمها المالي والإداري والعسكري للأقلية الأجنبية المستغلة لمجمل ثروات تونس
وإمكانياتها. وشكلت عودة زعماء الحزب الدستوري الذين كانوا مسجونين في فرنسا وكذلك عزل الباي الشرعي محمد المنصف مدخلاً لاستئناف الحركة الوطنية لمجهود التعبئة والتنظيم من جهة و الانفتاح على الدول الشقيقة في المشرق وخاصة ربط الصلة مع الولايات المتحدة الأمريكية المنتصرة في الحرب الكونية والزعيمة الجديدة للعالم الديمقراطي.
تشكلت إذا وحدة وطنية حول الحزب الحر الدستوري بفضل المنظمات الشعبية والمهنية و خاصة انخراط الحركة النقابية في تلك الوحدة وأكدت المواجهات التي حدثت في صفاقس سنة 1947 والنفيضة سنة 1950 التضامن بين الحركة العمالية وسائر أطياف الشعب التونسي.وإزاء تفاقم المظاهرات والاحتجاجات اضطرت السلطات الاستعمارية إلى المهادنة وإعلانها مبادئ من شأنها التوصل إلى حكم ذاتي في تونس. وتبع ذلك تشكيل حكومة تفاوضية برئاسة محمد شنيق وعضوية صالح بن يوسف لكن سرعان ما تنكرت فرنسا لالتزاماتها بواسطة مذكرة 15 ديسمبر 1951 الشهيرة التي أكدت بما لا يدع مجالا للشك أنّ على التونسيين المقاومة إذا ما رغبوا في الحصول على استقلالهم .وفعلا تم ذلك في اتجاهين بتدويل القضية التونسية برفع شكوى لمجلس الأمن ضد فرنسا من جهة والشروع في التعبئة النفسية والمادية للعمل الميداني المباش، من جهة أخرى.
كيف انتقل شعب مسالم متفتح من مرحلة التقبل والاحتجاج إلى مرحلة رد الفعل العنيف واستعمال السلاح؟ كان ذلك بصورة متدرجة منذ الحرب العالمية الثانية حيث صعدت قيادات شابة تؤمن بالعمل المباشر إلى أجهزة الحزب الدستوري على غرار الهادي السعيدي وبشير زرق العيون وكذلك الدكتور الحبيب ثامر.
وعلى الصعيد السياسي تهيأت البلاد للكفاح المسلح منذ أن ألمح بورقيبة في زيارة للولايات المتحدة الأمريكية إلى أن مسار القضية التونسية ربما يفضي إلى انتفاضة مسلحة إذا ما كان هذا ضروريا لتهتم الأمم المتحدة بها .
وعمليا وبالإضافة إلى تكوين الشباب المتطوع في حرب فلسطين، شكّل رئيس الحزب الدستوري أجهزة مقاومة سرية إحداها بالمدن والقرى وأخرى بالمناطق الريفية وكلف بها أحمد التليلي.
وانطلاقا من بداية شهر جانفي 1952 اندلعت المظاهرات والاحتجاجات و كثف بورقيبة جولاته التحريضية فكان التصعيد واشتعال الموقف.
أيام خوالد واكتساح الوطن القبلي
عرفت البلاد انتفاضات شعبية ومظاهرات وأعمال تخريب جابهتها القوات الاستعمارية بالرصاص والايقافات وإعلان حالة الحصار وسات الدماء من أجل الحرية. فوجئت الأوساط الاستعمارية بهذه التعبئة الجماهيرية وتنوع أساليب المقاومة التي شملت تخريب وتعطيل خطوط النقل البري والحديدي والمواصلات فبيتت ردة فعل صادمة بغاية الترهيب والتنكيل واختارت لذلك اكتساح منطقة فلاحية آمنة بالوطن القبلي أطلقت عليها جحافل قوات النخبة واللفيف الأجنبي فهاجمت في إطار مغلق مدن وقرى قليبية و بني خيار وحمام الغزاز والمعمورة وتزركة فتم اقتحامها ومورس فيها التعذيب والقتل والسلب والنهب وتهديم المنازل والزوايا والمساجد والاعتداء على الحرمات الجسدية والاغتصاب، فكانت جرائم حرب ارتكبتها قوات فرنسا الحرية ومهد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
كان دي هوتكلوك والجنرال غرباي سفاح مدغشقر يظنان أنّ اكتساح الوطن القبلي كفيل بالقضاء على المقاومة لكن العكس هو الذي حدث. فقد تأجّج الموقف الدولي نصرة للقضية التونسية ودخلت كل المناطق التونسية في الانتفاضة المسلحة.
كما حصلت القطيعة المعنوية مع فرنسا فأرجع الجيلاني بوحافة الوسام العسكري الذي حصل عليه خلال الحرب العالمية الأولى إلى رئيس جمهورية فرنسا مرفقا بملاحظة أنّه لم يعد يتشرف بحمله.
و ازاء شدة المقاومة واصلت فرنسا سياسة القمع فامتلات السجون والمحتشدات بالمناضلين والقياديين ثم باشرت منهج الاغتيالات الفردية فبدأت بالحبيب معزون مهندس المناجم و صانع المفرقعات ثم فرحات حشاد الذي تولى قيادة الحركة الوطنية والكفاح المسلح وأخيرا الهادي شاكر رئيس مؤتمر الاستقلال والذي جمع التمويلات للمقاومة وواجه صنائع الاستعمار الذين قبلوا بالإصلاحات المغشوشة المعروفة بإصلاحات فوازار/ مزالي وهي الإصلاحات التي رفضتها غالبية التونسيين باعتبارها تشرّع للسيادة المزدوجة.
و قد تجسم ذلك الرفض بتصاعد أعمال المقاومة المسلحة بالجبال والمرتفعات بكامل مناطق البلاد وعمّت البلاد حالة من الفوضى وانعدام الأمن دفعت بفرنسا إلى الزيادة في عدد قواتها المرتكزة بتونس لمواجهة الهجمات المتكررة على الأهداف الحيوية الاقتصادية والمدنية والعسكرية. وبدأت اسماء القيادات الميدانية تطفو على السطح على غرار هلال الفرشيشي ولزهر الشرايطي و ساسي لسود و المحجوب بن علي و الطاهر لسود و حسن بن عبد العزيز و مصباح الجربوع وغيرهم كثير وهم من أطلقت عليهم الدعاية الاستعمارية لقب الفلاقة والعصاة لكنهم كانوا أبطال تونس ولولاهم لخسرت القضية كما أكد ذلك الحبيب بورقيبة.
كم كان عددهم؟ وكيف مروا إلى الكفاح المسلح؟ وكيف تسلحوا. الثابت أنّ هؤلاء المقاومين وجدوا في الحاضنة الشعبية والحزبية السند المادي والمعنوي للقيام بواجبهم .وعلى الرغم من عدم انتظامهم ضمن قيادة موحدة فقد مكنهم ذلك من فعالية أكبر ومرونة أرفع.
وإذا ما رجعنا الى ما آلت إليه اتفاقية الأمان وتسليم السلاح الموقعة بتاريخ 24 نوفمبر 1954 فإن عدد المقاومين الذين تحصلوا على شهادة الأمان يقارب 3000 فرد وأنّ ما سُلّم من سلاح يقارب 2145 قطعة من صنع وأعيرة مختلفة، وهذا ما يعني أنّ الرجال كانوا أكثر من السلاح وأنّ المقاومة التونسية التي لم تتلقّ ولو طلقة واحدة من الخارج كانت غير مرتبطة بأي جهة أو طرف أجنبي.
ساهمت عملية نزول المقاومين و تسليم السلاح في إنجاح المفاوضات التونسية الفرنسية وتميّز هؤلاء بالانضباط للقيادة السياسية التي تعتبر أنّ أعمالها الميدانية لا يراد منها حرب مفتوحة للقضاء على الخصم بل إجباره على القبول بالحلول الحقيقية للإشكاليات التي تولدت عن النظام الاستعماري الذي أقامه بتونس.
هذا الانضباط وهذه النظرة الاستراتيجية نلمسها في تصريح للقائد لزهر شرايطي لوكالة فرانس براس في ديسمبر 1954 حيث قال : "نعم إن المواجهات مات فيها التونسيون والفرنسيون على حدّ سواء وإنّ مواصلتها كفيلة بإحداث تدخلات أجنبية و هاذا ما يجب تلافيه و قد قمنا بتسليم السلاح بواسطة زعماء الحزب ولنا فيهم ثقة كبيرة كما لنا ثقة في الطرف المقابل لخلق مناخ أمن وأمان للمقاومين وعائلاتهم".
ولما سئل عن توجهاته بعد ذلك اقتصر على القول: "كما بدأت وأن اقتضى الأمر سأعود إلى عملي بالمنجم".
بين قدوم منداس فرنس في 31 جويلية 1954 وإعلانه أنّ تونس تستحقّ وإلى غاية إيقاف العمليات الميدانية خاض المقاومون التونسيون 144 عملية هامة سقط فيها منهم 210 شهداء من أجل تونس
وخلاصة القول إنّ المقاومة التونسية تعدّ نموذجا فريدا ضمن حركات التحرير في العالم. وقد بقيت تونس وفية لذاتها ولثقافة المقاومة لم ترتهن للخارج لا ماديا ولا سياسيا وتمكنت بفضل المراوحة بين المفاوضات والمواجهات من كسب معركة التحرير بأقل الخسائر والتكاليف و تلافي أي قطيعة تاريخية مع الخصم.
أبو عطف
- اكتب تعليق
- تعليق