أخبار - 2017.01.16

صالح الحامدي - آفاق الوضع الجيوسياسي في ليبيا ما بعد سرت: نعم للوفاق لا للانقسام

صالح الحامدي - آفاق الوضع الجيوسياسي في ليبيا ما بعد سرت: نعم للوفاق لا للانقسام

لا تزال ليبيا تعيش على وقع الصراعات والصدامات منذ ست سنوات من اندلاع ثورتها في أوائل سنة 2011 في إطار ما سمي بانتفاضات "الربيع العربي" بما آل إلى إسقاط النظام السابق وقائده الرئيس الراحل معمر القذافي بتدخل من القوى الأجنبية الغربية في العمليات العسكرية إلى جانب الجهات المنتفضة.وبعد اغتيال رأس النظام انسحبت القوى الأجنبية وتواصلت الصدامات بين الفرقاء الليبيين وتأججت بدخول التنظيمات الإرهابية على الخط وخاصة جبهة النصرة وتنظيم داعش إلى جانب بعض الجماعات المتشددة والميليشيات المحلية بدعم من قوى إقليمية لتعم الفوضى وتظهر الانقسامات على أسس إيديولوجية وقبلية، ووصل الأمر إلى احتلال مدن ومناطق بأكملها فيما عرف بالهلال النفطي وخاصة مدينة سرت التي استأثرت بها داعش، بينما انهمك ما تبقى من الجيش الليبي في شبه حرب حقيقية بالمنطقة الشرقية حوالي بنغازي.

وخلال السنوات الأخيرة ظهرت بوادر سياسية لحلحلة الأوضاع وتشكلت أكثر من حكومة بدون أن تسير الأمور إلى التسوية وعرف المشهد السياسي مجلسا نيابيا وحكومة بأغلبية ذات توجه إسلامي بطرابلس وبرزت "ميليشيات فجر ليبيا" مدعومة بقوى إقليمية ثم أجريت انتخابات نتج عنها تشكيل مجلس نواب وحكومة بتوجهات ليبيرالية ديمقراطية لم يستقر إليهما الأمر فانتقلا إلى طبرق وبتشكيل المسار التفاوضي بالصخيرات انتهى الأمر إلى تكوين حكومة "وفاق وطني" مدعومة من الأمم المتحدة. وإذ لم تحض هذه الحكومة التي استقرت بطرابلس مكان الحكومة الأولى بنيل ثقة البرلمان كما كان مؤملا فقد حصلت على تأييد من القوى الغربية ودخلت في معركة ضد داعش بدعم من القوات الجوية الأميركية انتهت منذ أسابيع بتحرير مدينة سرت على يدي ما سمي بقوات "البنيان المرصوص" وبدون مساهمة مباشرة من فصائل أخرى على ما يبدو وخاصة من الجيش الليبي. وتعيش ليبيا اليوم على وقع "سيناريوهات ما بعد سرت" وما تحمله من تداعيات داخلية ومن انعكاسات إقليمية ستطال المنطقة بأكملها ولكن الأمل يبقى قائما في اهتداء الفرقاء الليبيين إلى وفاق وطني حول حل سياسي شامل يؤمن الشعب الليبي من الانقسام ومن ويلات التصادم من جديد لا قدر الله.

سيناريوهات ما بعد سرت

بالتزامن مع "تحرير" حلب في سوريا تم تحرير مدينة سرت الليبية من "الدواعش" على يدي قوات "البنيان المرصوص" التابعة لحكومة الوفاق الوطني، حصل ذلك في ظل خلافات بين القوات الموالية للحكومة وقوات الجيش الليبي إلى جانب مواجهات بين قوات مجلس شورى أجدابيا وقوات الجيش ومواجهات أخرى في مناطق قريبة من طرابلس بين جماعات مسلحة من مصراطة وأهالي من منطقة القرة، فضلا عن تصريحات مناوئة للحكومة نسبت لمفتي ليبيا سابقا باسم الجماعات الإسلامية على خلفية تأييد للجيش في مواجهات أجدابيا في حين يبقى النزاع قائما في طرابلس  بين حكومة الوفاق الوطني وحكومة (الغويل)، وهذه صورة المشهد السياسي المنقسم على نفسه والتي بقيت سائدة حتى تحرير سرت وحتى اليوم تقريبا.

وتؤكد الأخبار المتواترة في ليبيا منذ ما قبل تحرير المدينة بالكامل إعادة انتشار العناصر الإرهابية الفارة من سرت في مناطق من الجنوب الصحراوي الليبي حسب مخطط قديم يهدف إلى التموقع في المناطق الشاسعة للساحل الصحراوي على حدود الدول المغاربية ودول جنوب الساحل:

  • في وسط الجنوب باتجاه الجفرة بمناطق متاخمة للحدود بين تشاد والنيجر يلتقي فيها المهاجرون من الدول الإفريقية وخاصة عناصر بوكو حرام التي مددت نشاطها بالقرب من الحدود الليبية.
  • في أقصى الجنوب غربي ليبيا في اتجاه مثلث الحدود الليبية الجزائرية النيجيرية وهي مناطق صعبة التضاريس تنشط فيها الجماعات المتمرسة في تهريب الأسلحة والمخدرات ويمكن فيها إعادة التجمع والالتقاء مع جماعات إرهابية مثل "المرابطون" وحتى "قاعدة المغرب الإسلامي" المناوئة ماديا وفكريا لتنظيم داعش.
  • في المنطقة الممتدة بين جنوب الزنتان إلى حدود الجزائر والنيجر وهي منطقة تتحرك فيها عناصر "الطوارق" القادمة من شمال مالي.

ولا شك أن هذا الانتشار الجديد للجماعات الإرهابية يمثل خطرا متواصلا على الأوضاع الأمنية في ليبيا من خلال احتمال إعادة تسرب عناصر إرهابية ضمن فرق محدودة العدد داخل التراب الليبي لتنفيذ عمليات إرهابية ضد أهداف محددة، بالإضافة إلى فرضية اندلاع صراع بين قوات الشرق وقوات الغرب في المنطقة الوسطى في ظل الفوارق الإيديولوجية وباللعب على النعرات القبلية، وهي الفرضية القائمة على خلفية الصراع بين القوات الموالية للحكومة وقوات الجيش الليبي فضلا عن عناصر التيار الإسلامي بما قد يفرز خارطة جيوسياسية للصراع بثلاث رؤوس بدون اعتبار أنصار النظام السابق ينتج عنه وضع خطير في سياق إعادة انتشار مقاتلي داعش وتمركزهم في مناطق قريبة، وقد يتسبب مثل هذا التوزيع في إعادة خلط الأوراق من جديد في ليبيا بما قد يطيح بمسار الصخيرات السياسي على هشاشته في مناخ من عدم الثقة بين الفرقاء الليبيين حيث لم تسفر المحادثات بين الحكومة وقيادة الجيش عن أية نتائج وربما ذهب الأمر إلى التفكير في" نسخ الأنموذج المصري كحل جذري" للأزمة وهو ما لا تقبل به كل الأطراف، ولكن الوضع السائد منذ تحرير سرت يميل إلى ما يشبه "الهدوء الحذر" في انتظار آفاق جديدة قد تأتي بها مبادرة سياسية تتبلور في الجوار الليبي المباشر أو تطورات أخرى قد تفرزها علاقات مع قوى خارجية .

تحرك القوى الدولية والإقليمية

يبدو أن ليبيا سوف لا تكون في مأمن من التأثيرات الخارجية على الرغم من إعلان نخبتها السياسية عن حرصها على تجنب التدخلات الأجنبية واستعدادها للتعامل مع جميع الأطراف بشرط تأمين وحدتها الترابية واستقلالها، من ذلك مبادرة القوى الغربية (أميركا – فرنسا – ألمانيا – بريطانيا – إيطاليا – إسبانيا) بإصدار بيان مشترك بتاريخ 23 ديسمبر المنقضي تضمن تهنئة للمجلس الرئاسي على "النجاح في دحر داعش بعد عام من اتفاق الصخيرات بهدف استعادة الحكم الموحد والأمن في ليبيا "، وبالتذكير بقرار مجلس الأمن رقم 2259 الذي "أقر" بيان روما (13-12 -2015) تستشف نية تواصل التدخل الغربي من خلال دعوة الدول الأعضاء لدعم الحكومة بوصفها " الحكومة الشرعية الوحيدة في ليبيا " ورفض الاتصال الرسمي" بمؤسسات موازية خارجة عن الاتفاق السياسي" وهو ما لا تقبل به أطراف أخرى فاعلة على الساحة الليبية.

بالمقابل ومع الإشارة إلى زيارة قائد الجيش الليبي إلى روسيا في مناسبتين (جوان ونوفمبر 2016) صرح نائب وزير الخارجية الروسي يوم 26-12-2016 بأن قائد الجيش الليبي "يجب أن يشارك في إدارة ليبيا باعتباره شخصية سياسية وعسكرية رئيسية حارب التنظيمات الإرهابية في بنغازي وله دور كبير في استعادة السيطرة على مواقع الصناعة البترولية"، وبذلك تبرز فرضية التدخل الروسي في المشهد السياسي الليبي بما قد يجعل البلاد والمنطقة المغاربية عرضة لمنافسات من قبيل الحرب الباردة بين القوى الدولية العظمى.

وإن لم تسجل تصريحات جديدة للأطراف الإقليمية الداعمة للتيار الإسلامي الليبي فقد يكون مرد ذلك انشغالها بمستجدات الوضع في سوريا ما بعد "تحرير" حلب ومن المفترض أن تبقى على موقفها المؤيد للشق الإسلامي مع عدم وقوفها بالضرورة ضد أي توافق سياسي جديد قد يحصل بين الفرقاء الليبيين.

نعم للتوافق لا للانقسام

بكل أسف قد يكون "الهدوء الحذر" الذي يسود منذ تحرير سرت بمثابة الهدوء الذي يسبق العاصفة إذ لا تزال الأوضاع في البلاد غير مطمئنة لا للشعب الليبي ولا للجوار المباشر على الضفة الغربية وبالذات على تونس وعلى الجزائر طالما لم يتفق الفرقاء الليبيون على مسار سياسي لمعالجة الأزمة في إطار مصالحة وطنية شاملة لا تستثني أي طرف بما في ذلك أنصار النظام السابق. وفي غياب التوافق والمصالحة تبقى ليبيا مرشحة لكل الاحتمالات إلى حد "الصوملة" – لا قدر الله – التي تؤجج الصراعات والصدامات الداخلية بين الفرقاء بما يفرز حالة جديدة بخارطة جيوسياسية تكرس الانقسام وقد تؤشر لفرضية تقسيم البلاد إلى ثلاثة أقاليم (شرقي وغربي وجنوبي) بما يحتدم معه الصراع على المستوى الإقليمي والدولي باللعب على ورقة النعرات القبلية والاختلافات الإيديولوجية وعلى خلفية اقتسام كعكة المدخرات النفطية، وهذا السيناريو ينسجم مع تخطيط القوى الغربية "لتقسيم المقسم" وقد يتيح إعادة شبح التنظيمات الإرهابية للبلاد مع جحافل تداعياته الخطيرة على تونس وعلى المنطقة المغاربية بأكملها خاصة بعد إعادة انتشار الجماعات الإرهابية بالساحل الصحراوي غير بعيد عن الحدود التونسية الليبية والحدود الليبية الجزائرية الصحراوية وكذلك الحدود مع البلدان الإفريقية جنوب الساحل الصحراوي.

وإذ يبقى الوضع على مثل هاته الحالة من الترقب فإن ليبيا تبدو اليوم أمام خيارين: الأول عسكري يحسم فيه أحد الأطراف المعركة لصالحه -ولو لفترة وبكلفة عالية- والثاني سياسي يكفل مشاركة كل الأطراف في إدارة البلاد مستقبلا - وهو الأقرب للصواب والأقل كلفة- ، وفي مناخ قابل للانفجار في أي وقت فإن بريق الأمل قد يطل هذه المرة من أطراف الجوار الليبي المباشر (تونس والجزائر ومصر) الذين يسعون إلى بلورة مبادرة سياسية باقتراح من الرئيس الباجي قائد السبسي تمهد لجمع الفرقاء الليبيين حول "الإعداد لمرحلة انتقالية جديدة" تنهي الأزمة على أساس حوار ليبي - ليبي ينتهي بالتوافق الوطني بعيدا عن التدخلات والإملاءات الأجنبية. وتأتي المبادرة على خلفية مصالح الأطراف الراعية لها باعتبار أن حل الأزمة الليبية بالحوار والتوافق فضلا عن تأمينه للمصلحة العليا للشعب الليبي ينعكس إيجابا على البلدان المعنية ويحد من التهديد الإرهابي ويساهم في استقرار الأوضاع الأمنية بالمنطقة بأكملها بما يوفر المناخات الملائمة لاستعادة نسق البناء الاقتصادي والاجتماعي واستئناف مسارات التعاون والشراكة المربحة بين بلدان المنطقة. غير أن تفعيل المبادرة يبقى رهن موافقة الأطراف الليبية عليها وثقتهم في إجماع الأطراف الراعية لها على موقف منسجم وموحد من الحل السياسي الشامل للأزمة الليبية فضلا عن اقتناع كل الأطراف الليبية بمثل هذا التمشي.

ولكن قد تجري الرياح بما لا تشتهي السفن إذ تشير آخر الأنباء إلى احتمال وارد لتدخل روسي قد يكون وشيكا في ليبيا "لمحاربة الإرهاب" على الرغم من التصريحات المتواترة للمسؤولين الليبيين معلنين رفضهم لأي تدخل أجنبي في بلادهم, ويستشف ذلك من خلال أكثر من مؤشر: زيارة رئيس الأركان العامة الروسي مؤخرا إلى طبرق بدعوة من رئيس مجلس النواب للتباحث حول التعاون العسكري وحديث عن إصدار مجلس النواب "لوثيقة اتفاق" بناء على طلب من روسيا تتيح لها التدخل العسكري في ليبيا، ثم وصول حاملة الطائرات الروسية (كوزنستوف) التي تحركت منذ أيام قليلة من سواحل سوريا إلى المياه الإقليمية الليبية وشروعها في تدريبات بالمنطقة الشرقية قبالة طبرق مع أنباء عن زيارة لقائد الجيش الليبي للبارجة وتواصله مع وزير الدفاع الروسي للتباحث حول "محاربة الإرهاب في منطقة الشرق الأوسط". فهل ستستأثر روسيا بالوضع الجديد في ليبيا كما فعلت ذلك خلال المرحلة الأخيرة في سوريا وهل ستنتصر لطرف معين على حساب الأطراف الأخرى أم هل ستعمل على بلورة حل سياسي للأزمة أو سترحلها إلى مفاوضات أستانة ومن ثمة إلى مسار جنيف (السوري) أو إلى تفاهماتها المقبلة مع الإدارة الأميركية الجديدة في علاقة بمحاربة الإرهاب؟ مؤشرات قد تزيد في تعقيد الأوضاع في وقت تعيش فيه المنطقة على أمل المبادرة التونسية الجزائرية المصرية للحوار الليبي حول الحل السلمي إذا قبلت بها الأطراف الليبية تجنبا لتكريس تدويل الأزمة.

مستجدات جيوسياسية متغيرة ولا توحي بالاستقرار، الأمر الذي يستدعي التعجيل بالتحرك الدبلوماسي في إطار المبادرة المذكورة لبلورة الحل السياسي من خلال تحريك ديناميكية الحوار الشامل والمصالحة الوطنية قبل دخول البلاد في صدام جديد قد يزيده التدخل الروسي تعقيدا وتكون تداعياته وخيمة على الشعب الليبي وخطيرة على بلدان الجوار وفي مقدمتها تونس. ويبقى الأمر في النهاية موكولا إلى إرادة الفرقاء الليبيين في اختيار المسلك المناسب لتأمين المصلحة العليا للشعب الليبي وهو الرقيب على تصرف الأطراف المتصارعة على "كعكة" السلطة في البلاد. فإما الوفاق وإما مزيد التصدع والانقسام والوفاق أفضل مهما تكن التضحيات، وبالوفاق سيكون المستقبل أفضل إذا حسنت النوايا وتوحدت الأهداف من أجل الوطن.

وفي كل الفرضيات فإن تونس تبقى معنية بالدرجة الأولى بتطور الأوضاع في ليبيا ولا خيار لها سوى البقاء على مسافة واحدة من جميع الفرقاء الليبيين والوقوف إلى جانب ما فيه مصلحة وخير الشعب الليبي الشقيق مع ملازمة اليقظة الأمنية والعسكرية وتكثيف التنسيق والتعاون مع البلدان المغاربية المعنية بالمواجهة مع الوضع الليبي للمساعدة على عودة الأمن والاستقرار في ليبيا لأن أمن تونس وأمن المنطقة من أمن ليبيا. وفي نفس السياق تندرج اليقظة الدبلوماسية للانخراط في أي مسارات إقليمية أو دولية لمتابعة التطورات الجيوسياسية بالمنطقة في علاقة بالأخطار الناجمة عن إعادة انتشار الجماعات الإرهابية بمنطقة الساحل الصحراوي وهو التحدي الكبير الذي ستواجهه المنطقة المغاربية بأكملها خلال الفترة القادمة والذي يستدعي رفعه تفعيل كل إمكانات وآليات التنسيق والتعاون بين الدول المغاربية ومع الدول الإفريقية جنوب الساحل وكل فرص التعاون المتاحة على المستوى الدولي.

صالح الحامدي

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.