عبد الحفيظ الهرقام: إدارتنـــــا المعتـلّـــة
لطالما باهى التونسيون بإدارتهم، على الرغم من كلّ نقائصها وعيوبها، فهي التي ساهمت غداة الاستقلال في بناء الدولة وتولّت لعقود متتالية صياغة السياسات العامّة وسهرت على وضعها موضع التنفيذ، ممّا حقّق للبلاد مكاسب ذات بال في ميادين عدّة.. وهي نفسها التي ضمنت استمرارية الدولة بعد انهيار النظام في 14 جانفي 2011 فلم تسقط صريعة الفوضى والانفلات الأمني، بل ظلّت تسدي خدماتها للعموم دون أن يثبط هممٓ إطاراتها وأعوانها ما استهدفها آنذاك من حملات شيطنة وتشكيك في مدى نزاهتها وشفافيتها.
غير أنّ السنين الأخيرة أبانت علامات اعتلال الإدارة التونسية واهتزاز صورتها في نظر الرأي العام، إذ يحدّثك المواطن العادي ويحدّثك الخبير بشؤونها عن تراجع أدائها وتدنّي جودة خدماتها، بسبب تفشّي مظاهر التسيّب والتغيّب وضمور الوازع المهني في صفوف جانب من العاملين فيها، علاوة على تضخّم غير مسبوق في حجمها، مصدره انتدابات بمئات الآلاف لم تخضع لمقاييس الكفاءة، فرضتها ضغوط اجتماعية حادّة وعمليات توظيف وإعادة إدماج عدد لا يستهان به من المنتفعين بالعفو التشريعي العامّ.
وممّا زاد حالة الإدارة تعكّرا بلوغ إطارات سامية ذات كفاءة عالية وخبرة واسعة سنّ التقاعد دون أن تُرسم خطط تؤهّل جيلا جديدا لتسلّم مشعل القيادة والتأطير من الجيل السابق. يضاف إلى ذلك ما علق بالإدارة من ترسّبات البيروقراطية القاتلة ومن شوائب شتّى، نلحظها اليوم في غياب النظرة الاستشرافية وانعدام روح المبادرة لدى البعض ممّن يمسكون بمقاليد التسيير في الوزارات والمؤسسات العموميّة. ولعلّ تردّدهم أحيانا في اتّخاذ القرار بالسرعة المطلوبة راجع إلى الخوف الرهيب من سيف مسلّط على رقابهم، ألا وهو الفصل 96 من المجلّة الجزائية، وقد رأوا كيف أحيل بمقتضى أحكامه مسؤولون وموظّفون على القضاء منذ قيام الثورة في قضايا بتهم إلحاق الضرر بالإدارة أو تحقيق منفعة شخصية أو منفعة للغير.
ولمّا كانت الإدارة التونسية مصابة بهذا الوهن الجليّ ومثقلة بأعباء جيش من الموظّفين يفتقر العديد منهم إلى الدراية اللازمة والمؤهلات المطلوبة للاضطلاع بمسؤولياتهم، تتبادر إلى الأذهان أسئلة حائرة: هل بمقدور الإدارة أن تحمل اليوم الطموحات الوطنية الكبرى في المجالين الاقتصادي والاجتماعي؟ هل يتوفّر فيها العدد الكافي من الإطارات العليا المقتدرة الجديرة بأن تتبوّأ مناصب هامّة ومواقع متقدّمة في الوزارات والولايات والمؤسسات العمومية، إليها يوكل تصوّر وإنجاز مشاريع وخطط في مجالات استراتيجية عديدة؟ هل من اليسير تحويل الاستثمارات الموعود بها خلال مؤتمر تونس 2020 الأخير إلى برامج تنجَز في الآجال المحدّدة لها وبالمواصفات اللازمة مع ما يتطلبّه كلّ ذلك من حذق لفنيات التفاوض مع المانحين وقدرة على إعداد المشاريع ومتابعة تنفيذها؟ هل لتونس اليوم من القدرات البشريّة المؤهّلة والواعية ما يجعلها تقبل بأوفر حظوظ النجاح على النهوض بالمرفق العمومي تكريسا للعدالة الاجتماعية وتجويدا للخدمات في قطاعات بالغة الأهمية مثل التعليم والصحّة والنقل؟
لاخفاء أنّ الإدارة التونسيّة هي اليوم محلّ انتقاد المتعاملين معها من التونسيين والأجانب وأضحت معالجة أوضاعها المترديّة من أوكد الأولويات التي ينبغي أن تنكبّ عليها الحكومة بقدر وافر من الجديّة والصرامة، من خلال برنامج متعدّد الأبعاد يمكن أن يقوم على المحاور التالية:
- تطوير عمل الإدارة مركزّيا وجهويّا ومحليّا وتوفير أفضل الظروف لنقل السلط إلى الجهات في إطار سياسة اللامركزية واللامحورية.
- تعصير نظم التصرّف في مصالحها من خلال تعميم برنامج الحوكمة الالكترونية.
- إعداد خطّة لإعادة توزيع الموارد البشرية بين الوزارات والمؤسسات والمصالح المركزية والجهوية والمحلية ، بما يساهم في تحسين مردودية الإدارة ويسمح بتسديد النقص في عدد من الاختصاصات دون اللجوء إلى انتدابات جديدة.
- الارتقاء بنظام التكوين في المدرسة الوطنية للإدارة وإقامة دورات رسكلة وتكوين مستمرّ لفائدة الإطارات والأعوان لرفع مستواهم والنهوض ببرامج تدريس تقنيات الإدارة والتصرّف في الموارد الماليّة والبشرية صلب معاهد التعليم العالي لا سيّما في مجالات اللغات والاتصال وتكنولوجيات المعلومات والتسيير والقيادة وخطط التنمية الإدارية.
- تشجيع خريجي المدارس العليا من تونس وخارجها والكفاءات المتميّزة في القطاع الخاصّ على العمل في القطاع العمومي، وإقرار الحوافز الضرورية لاستقطابهم.
- إحداث خلايا تفكير واستشراف في الوزارات تساعد على تحديد التوجّهات والخيارات المستقبلية، وفق المتغيّرات المرتقبة في ميادين اختصاصها، وطنيّا وعالميّا.
إنّ خروج تونس من نفق أزمتها يتوقّف إلى حدّ كبير على فعاليّة إدارتها وجودة خدماتها وكفاءة إطارتها وأعوانها واعتمادها الحوكمة الرشيدة قاعدة لسلوكها ومنهاجا لعملها، فالإدارة هي بلا منازع عصب التنمية وقاطرة الإصلاح الشامل الذي يتطلّع إليه التونسيّون كافّة.
عبد الحفيظ الهرقام
- اكتب تعليق
- تعليق