عبد الدايم الصماري: قندهار كما عرفتها أوراق القاعدة.. تدفئ أكثر!
تمّ الأمر سريعا ودون تخطيط.. أواخر ديسمبر 2001.. كنت في غرفة الأخبار، في مساء عادي، عندما دعاني مسؤول الأخبار إلى مكتبه وسألني إن كنت على استعداد لتغطية الحرب في أفغانستان..
كان تلفزيون أبو ظبي قد أرسل بعد عددا من الصحافيين والتقنيين والمسؤولين الإداريين إلى العاصمة الباكستانية إسلام أباد، حيث استأجرت القناة طابقا من أحد الفنادق، وسطحه، ليكون مركزا إخباريا لتغطية الحرب التي اشتعل فتيلها للتوّ في أفغانستان المجاورة.. كانت القناة في أوج انطلاقتها الإخبارية.. وكان الحماس بلا حدود.. والغطاء المالي أيضا..
بعد يومين، كنت في الطائرة إلى إسلام أباد، مع زميلي المصور، والمهندس المسؤول عن جهاز البث.. ثلاث ساعات ونصف لم نتكلم خلالها إلا قليلا..كنا مقبلين على مهمة صحفية غريبة الأطوار كما توقّعنا، وكما ستكون..
الطريق إلى كويتا..
أقمنا ليلتين في فندق إسلام أباد.. التقينا زملاءنا هناك، وأدركنا سريعا أن أمر التغطية يتعثّر، بسبب الاعتماد على بعض المواد الشحيحة القادمة من داخل أفغانستان.. كان لا بد من مراسلين على عين المكان.. أو في عين العاصفة.. وكنت وزملائي حصان طروادة المطلوب..
صباح اليوم الثالث، تركنا الفندق، وتوجّهنا إلى مطار إسلام أباد، المسمّى بمطار محمد علي جناج، قائد ثورة الانفصال عن الهند، ومؤسّس باكستان الحديثة.. كنا محمّلين بمعدّاتنا الثقيلة، في رحلة باتّجاه كراتشي على مسافة تزيد عن الألف ومائة كيلومتر.. رحلة بساعتين في طائرة مزدحمة باللحي، وأكياس القماش المنتفخة، والروائح العفنة.. كانت حافلة آسيوية للنقل العمومي، ولكنها تطير!.. نزلنا في مطار كبرى المدن الباكستانية، وأكثرها التصاقا بإرثها الهندي، مدينة السبعة عشر مليون نسمة ويزيد.. الفوضى تسير على أقدامها، وتصافحك أينما ولّيت وجهك.. كنّا غرباء. وكان أمرنا شديد الوضوح..
ركضت نحونا مظاهرة حاشدة من أصحاب العربات.. في مطار كراتشي، إما أن تستأجر العربة وصاحبها، أو خذ حقائبك بيديك وأسنانك، وتصرّف!.. لم يتركوا لنا فرصة استيعاب الموقف.. انتشلوا أمتعتنا من بين أيدينا غصبا، مع ابتسامة باهتة ومريبة بعض الشيء، واتّجهوا بنا نحو مواقف سيارات الأجرة، وهم يسألوننا عن وجهتنا، بلغة انجليزية فقدت كل ملامحها.. أجبنا: «كويتّا»..
حمّلوا الأمتعة سريعا في سيارتي أجرة من الحجم الكبير، وكان بعضهم يقفز بين الحقائب وصندوق السيارة بخفة عنز برّيّة.. أخذوا المقابل، وذابوا في الزّحام.. وأخذنا طريقنا نحو مدينة كويتا الحدودية مع أفغانستان..
وصلنا مساء بعد أن قطعنا ستمائة كيلومتر، بدأناها من الظهر حتى أوائل الليل..كنا منهكين، مغبرين، نتنفّس من خرم إبرة.. فاقدي النّطق والإحساس تقريبا..
كان ذلك مساء الحادي والثلاثين من ديسمبر 2001.. كانت ليلة رأس السنة في فندق «سيرينا» ذي الخمس نجوم، بالتقويم «الفلكي» الباكستاني طبعا.. كان الفندق يعجّ بالصحافيين من الجنسين القادمين من جميع أصقاع الأرض.. وبالمخابرات المنتحلة صفة صحفيين، بلا شك.. بعضهم واصل للتّوّ من بلاد الأفغان، وكثيرهم، مثلنا، متّجه صوبها..
في الأروقة، وعند مداخل الغرف، وحول المراحيض، همس، ولمس، وضحكات هستيرية لمغامرين يتجهون نحو أرض يلفّها الغموض والموت.. الذهاب إلى الموت يبيح المحظورات.. أغلبهم سكارى، يمتصّون سجائر تضخّمت رؤوسها بعبوات الحشيش الأفغاني الطازج.. الحصول على الحشيش في ذلك المكان كان أيسر بكثير من الظفر بقنينة ماء صالح للشرب.. نهاية سنة مبعثرة، وبداية عام جديد محمّلة بكل الألغاز..
بين الحدّيـــن!
صباح يوم الأول من شهر يناير 2002، كنت وزملائي نشحن حقائبنا، ومعدات التغطية من كاميرات وأشرطة وجهاز البث الثقيل داخل سيارتي دفع رباعي.. ونتجه نحو المجهول.. في الطريق من كويتا إلى «شامان»، النقطة الحدودية الأخيرة في باكستان قبل العبور إلى التراب الأفغاني، كان المشهد يتغير نحو الأسوأ باستمرار.. الطريق المهترئة تزداد تهرّيا، وسرعة السيارتين بلغت حدّها الأدنى.. الغبار يزداد ارتفاعا، واللحي تزداد نزولا..الوجوه الشاحبة تتكثّف من حولنا.. ومظاهر البؤس تهجم من كل حدب وصوب.. توقّفنا عند ما يشبه قرية صغيرة لنقتني المزيد من الماء، فالتفّت حول السيارتين جموع تتأملنا ببلاهة، وبعض المكر.. كانوا كمن يكتشف كائنات فضائية، وكنا نتأمل عالما لا نعرفه، يخرج من الرمل.. أو هكذا بدا لنا.. مسافة المئة كيلومتر من «كويتا» إلى «شامان» دامت نحوا من أربع ساعات.. التفتّ إلى زميلي ونحن نتوقّف عند مخفر حرس الحدود الباكستاني وأنا أقول: لا تنسوا! هذه طريق في بلد يملك القنبلة النوويّة!..
كان لا بد من الانتظار لأكثر من ساعة ليتفحّص العسكر الكثيف جوازاتنا، ونحن نجيبهم عن أسئلة مكرّرة ومملّة.. بالكاد كانوا يفقهون القول.. في النهاية، تمكنا من الحصول على موافقتهم بالعبور.. وكان للعبور ثمنه بالعملة الخضراء التي كانت وحدها تليّن القلوب في تلك الأراضي الكالحة..
لم يكن في الواقع ثمة حدود بالمعنى المتعارف عليه بين الدول.. برميلان مائلان مطليان بالأبيض والأحمر، يمتد فوقهما عمود، يرفعه أحد العسكريين الجالسين بلا اهتمام واضح.. يلتفت إلى مسؤوليه عند باب المخفر، ثم يأذن لك بحركة من رأسه بالدخول إلى أفغانستان..
عبرنا.. والسيارتان تتلمّسان الطريق بصعوبة بين جموع هائجة تتدافع لاجتياز المعبر، والدخول إلى التراب الباكستاني.. لكن لوالب الأسلاك الشائكة التي تكدّست أمامهم كانت تحول دونهم وحلم الهروب.. كنا نتقدّم داخل أرض يهرب أهلها منها!
المشهد يزداد قتامة ونحن نتقدّم بضع مئات الأمتار نحو بوّابة العبور الأفغانية التي تقع على مشارف قرية صغيرة تحمل غموضها في اسمها: «سبين بولدك».. أو.. الصحراء البيضاء.. وكانت كذلك فعلا.. قفز أمامنا مسلّح أشعث أغبر.. بدت «الكلاشينكوف» على كتفه الهزيل المائل أطول منه..
بانت أسنانه الصدئة، وفاحت من فمه رائحة نتنة وهو يحشو رأسه في شباك السيارة، ثم قال بعربية ركيكة:
- هههه .. صخافيين عرب؟؟ ههه.. فيه فلوس، فيه عبور.. ما فيه فلوس، ما فيه روخ..!
- ليش؟
- هذا عسكر.. هذا يريد فلوس.. واجد فلوس.. لازم أنت ادفع.. بعدين هو يسوي ختم مال جواز.. بعدين أنت فوت داخل أفغانستان..
- كام هو يريد فلوس؟
- والله.. أنا ما يعرف.. كام أنت ادفع؟
- كام يريد فلوس؟
- والله.. أنا بس يريد مساعدة.. أنت فيه مسلم؟
- ايوه.. أنا فيه مسلم.. ليش؟
- أنت فيه مسلم.. أنا فيه مسلم.. أنا فيه سوّي مساعدة.. كم ادفع أنت؟
- كم هو يريد؟
- والله.. ما فيه معلوم.. هذا أرباب مال شرطة.. هذا يريد واجد فلوس..
- هو فيه مسلم؟
- أيوه أيوه.. هو فيه مسلم مزبوط.. بس يريد فلوس..
- يعني.. كام؟
- لازم خمسمية دولار ميشان كل واحد جواز..
- خمس مية؟ هو فيه مسلم مزبوط؟ .. أوكي.. روخ مال أرباب مال أنت.. قول أنا يعطي خمسين دولارا ميشان كل واحد جواز..
- لا لا بابا.. هذا أرباب واجد زعل.. هذا الحين سوي جنجال..
- أنا يقول خمسين.. أوكي!؟ .. روخ أنت وقول مال أرباب: خمسين دولار كل واحد جواز..
رمقنا «الأرباب» المزبوط جدا بنظرة شزرة، لكنه قبل بالصفقة.. والحقيقة أننا لم نكن لندفع أكثر من ذلك، مقابل تأشيرة الدخول لبلد لا سلطة تحكمه حينها.. جاءتنا الجوازات مختومة بما يشبه عقب علبة طماطم صغيرة.. مكتوب عليها كلام يحتاج عالم انتروبولوجيا لتفكيك رموزه.. لم نكن ندري فعلا ما إذا كان ختم علبة الطماطم ذاك يعود إلى إمارة افغانستان الإسلامية التي سقطت للتوّ، أم إلى التحالف الأفغاني الذي ثار ضدها.. أم هي علبة باكستانية صنعت على عجل، ووضعت عليها أمريكا دمغتها غير المفهومة... أم هي ببساطة علبة تابعة للأرباب.. المسلم.. المزبوط جدا!
الدخول إلى السرياليات..
كانت الشمس تميل إلى الزوال عندما تورطنا في الطريق الملتوية والوعرة.. طريق الحرير بتسميات التاريخ أيضا!.. بدأنا الرحلة باتجاه قندهار.. مدينة طالبان التي كانوا قد تركوها قبل بضعة أسابيع، مع انفجار جهنّم الضّربات الأمريكيّة المدمّرة.
الجبال في الجنوب الأفغاني عارية كالحقائق.. مشهدها الكئيب يبعث انقباضا في النفس، وقلقا لا تجد له تفسيرا.. تصعد الطريق، تتلوّى كأفعى بين الصّخور، ثم تنزل، لتتسلّق الجبل من جديد.. السائقان الأفغانيان اللذان تسلّما الرحلة من «سبين بولدك» صامتان تماما.. بالكاد أجابني أحدهما ونحن نتوقف لإراحة مؤخراتنا التي تهرت من تعتعة الطريق، على سؤالي حول مشهد رأيته يتكرر بين حين وآخر، وهي عيدان طويلة نحيلة مثبتة على جانبي الطريق، وقد ربطت خرق سوداء عند رؤوسها.. أجابني وهو يلف سيجارة منتفخة بحشوة الحشيش: إنها قبور.. الموتى خلال السفر ندفنهم على جانب الطريق، ونضع عليهم عصيّا وقطع قماش حتى لا يدوسهم العابرون.. كان فألا حسنا.. في بداية رحلة ماكرة..
نزل الليل فجأة كالقدر.. وريح باردة كالسّهام تخترقنا كلما فتحنا نافذة لنطرد دخان السّجائر.. في كل مرة تظهر فيها من بعيد أضواء سيارات قادمة وسط العتمة، كان السائق يلتفت منّبها في شبه أمر: «إذا سألوكم، فأنتم لستم صحافيين.. هذه الصفة خطيرة جدا الآن في أفغانستان.. خصوصا وأنّكم عرب.. قولوا إنكم تجار.. قولوا أي شيء.. أوكي؟».. هززنا رؤوسنا بالموافقة.. لم يكن في الواقع لدينا خيار آخر..
فجأة أطلت بعض الأضواء المجتمعة.. قال السائق دون اهتمام: قندهار..
أخيرا..
لا تملك قندهار مقدمات المدن.. لا زينة عند المداخل، ولا أشجار باسقة، ولا ورود على جنبات الطريق، ولا لافتات تدلّك على الاتجاه.. عدا قوس خرساني عملاق، ذي نمط فارسي، شاحب الزرقة، متكئ على قاعدة من أحجار كبيرة متداعية.. بدا وكأنه آيل للسقوط في أي لحظة.. إنها الرسم الهندسي الصادق للمدينة الفقيرة المسلمة في ذهن الملا عمر وأستاذه أسامة بن لادن.. إنها مدينة طالبان والقاعدة، المبهمة، الغائمة، والمنطوية على نفسها..
لكنّها أيضا مكتظّة جدا.. من الواضح أن نشاط التّناسل هو الوحيد الصامد خلال سنوات الحرب الطويلة.. الأضواء القليلة التي تنير الشوارع كانت تكشف عن أفواج من المارة المتشابهي الملامح والملابس.. الشّتاء قاس، والملابس بالية ولكنها ثقيلة.. والناس يسيرون دون وجهة واضحة، والظهور المحنية ظاهرة عامة.. عندما يلتفت أحدهم إلى شيء على الطريق، تستدير الأطياف السوداء من حوله كلها.. ثم يستمرّ المسير..
بين الجموع، عربات بالية تجرّها حمير وبغال، والكثير من السيارات التي ترسل سحبا من الأدخنة السوداء تلف الحشود السائرة بلا هدف واضح.. والكثير الكثير من الدرّاجات النّاريّة ذات صناديق خلفيّة لحمل البضائع والأشخاص.. تاكسيات «الركشة» في عصر خلافة الملا..
عند الميدان الرئيسي وسط المدينة، دوريات للشرطة، بسيارات جديدة.. وصلت الهدايا الأولى بعد سقوط حكم طالبان.. فتحوا لنا الطريق وسط الزحام دون أن يستوقفونا.. يبدو أن الحجم الكبير للسيارتين شفع لنا لديهم، وبدا لهم أننا من الأشخاص المهمّين، الذين يتوجّب أن يفتح الطريق لهم.. سمعنا لاحقا أن مواكب سيارات بن لادن كانت توقف كل حركة سير في قندهار.. نالنا البعض من بركات الشيخ الراحل..
كنا قد شبعنا غبارا وأدخنة، عندما توقفت السيارتان أمام «فندق» «نور جيهان».. اسم عال، لمربط خال.. كان «نور جيهان» مقصد كل الصحفيين القادمين لتغطية الحرب.. ولم يكن هناك في الواقع أيّ خيار آخر عداه.. بناء قديم داكن، مستطيل الشكل، يقع على شارع قليل الازدحام، قليل الإضاءة.. بوابة الدخول عبارة عن أغطية ثقيلة ثبتت من الأعلى، وعلى الداخل دفعها ليتمكن من الولوج إلى الفندق.. في بهو الاستقبال، طاولة خشبية كبيرة وقديمة، عليها جهاز هاتف أرضي أسود، وكنش كبير، وبعض الأقلام.. جلس وراءها رجل أربعيني، ذو ابتسامة مريحة، ووجه بشوش..
كان مترجمنا الأفغاني الذي التقيناه في باكستان، قد سبقنا إلى قندهار واستأجر لنا غرفتين.. واحدة للنوم، والثانية للأمتعة التي معنا، وللطبخ، وللمونتاج طبعا!.
عرّفنا بأنفسنا، فقام الرجل ليستقبلنا بحفاوة بالغة.. ومدهشة بعض الشيء.. كنّا كنزا آخر من الدولارات قادم ليدفع.. أثرياء الحرب في أفغانستان لا حصر لهم.. عرفنا بعد أيام أن صاحب الخان كان حوّل منزله مباشرة مع اندلاع الحرب إلى مأوى للصحفيين.. قسّم مسكنه المستطيل إلى عشرات الغرف.. زوّدها بحمامات صغيرة، وبعض الأثاث المستعمل من أسرّة وأغطية.. أما السطح، فحكاية طويلة لوحدها.. في ركن من غرفة الاستقبال، مجموعة تتحلّق القرفصاء حول جفنة من الأرز، عليها بعض لحم الدجاج.. دعانا صاحب الخان لنشاركهم الأكل، فوسّعوا لنا المكان سريعا وهم يواصلون انغماسهم بأيديهم في الوجبة الساخنة.. لاحت بنادقهم من ورائهم، وفهمت أنهم حرس يستخدمهم الرجل لحماية الفندق والنزلاء.. اعتذرت بإشارة من يدي، لكن حسنا فعل زميلي المصوّر بأن قرفص إلى جانبهم ومدّ يده بجرأة ليشاركهم الأكل.. حدثني لاحقا، وكان على حقّ، أن كسب الثقة في مكان كهذا هو أولى الأولويات.. وأن المشاركة في الأكل تعطي الانطباع بعدم الاحتقار والتّبرّم منهم.. كان ذلك مهّما للأيام اللاحقة.
وقود.. وأوراق.. وحطب..
منذ الليلة الأولى، واجهتنا مشكلة مكان يسع جهاز البث «الأس.أن.جي»، وهو بحجم ثلاجة كبيرة.. قفز مهندس البث إلى سطح «الفندق»، ثم عاد مهللا: وجدتها!.. ما فيه إلا السطح ينفعنا للجهاز!.. اقترب منا صاحب الفندق بلطف، وهو يبستم ويهمس: «سيكون ذلك بسعر غرفة.. يعني خمسين دولارا في اليوم».. وافقنا..
على امتداد نحو خمسة أسابيع، أخذ ذلك السطح منّا جزءا هاما من وقتنا.. فمن الجهاز، كنا نرسل التقارير الإخبارية التي نشتغلها نهارا، ونمنتجها في غرفة الطبخ.. كما كنت أقوم كل ليلة تقريبا برسالة مباشرة «لايف» مع النشرات الرئيسية المسائية في تلفزيون أبو ظبي..
الليل الطويل والقاسي كنا نقضي أغلبه على السطح.. بعد إطفاء الكاميرا وإضاءتها، كنا نطلب من بعض العاملين في الفندق أن يوقدوا لنا النار لنتدفأ.. ونعدّ القهوة.. ركن من سطح الفندق خصّصوه مخزنا للحطب، وكان العمال يجلبون أكداسا من الورق تساعدهم في إشعال الحطب.. انتبهنا بعد أيام إلى أن الكثير من تلك الأوراق الممزّقة كانت باللغة العربية.. وكم كانت دهشتنا عندما اكتشفنا أن أغلبها يعود إلى القاعدة.. بعضها لإصلاح مخارج الحروف، وبعضها لتصويب مخارج السلاح!..
دكّ القصف الأمريكي في بداياته مسكن الملا عمر عند ضواحي قندهار، ومقر بن لادن في داخلها، ومباني التنظيم ومقراته الأخرى بالكامل تقريبا.. وكان من بين ما تناثر بين الأنقاض، أكداس من الوثائق والكتيّبات نصف المحترقة لتنظيم القاعدة.. استعان بها الأفغان على شتائهم القاسي.. ونال الفندق نصيبه منها..
كان الأمر سرياليا، في مدينة تلفها السريالية من كل جهة!
في كل مرة كنا نمرّ فيها بأسواق قندهار، والحرب تجري من حولها بلا هوادة، وأخبار جبال تورا بورا تسيطر على ما عداها، كان بن لادن لا يزال حاضرا بأشكال مدهشة.. كان ثمة نوع من الحنّاء يحمل إسم «أسامه»، وكانت هناك حلوى بغلاف يحمل صورته، وكذا قمصان تعترضك في كل مكان تقريبا.. كانت مجرّد بضاعة متبقية من عهد ولىّ.. ولم يكن عرضها يثير انتباه أحد.. إلا نحن!.. بضاعة يبدو أن أغلبها مصنّع في باكستان، أيام حكم طالبان.. أي في تلك الفترة التي تحوّل فيها بن لادن إلى أيقونة توضع على كل شيء، ويتمّ بها تسويق أيّ شيء..
عند المساء، يتكرّر مشهد تجمّعات من الشبان والأطفال عند مداخل بعض الدكاكين.. كانوا يعيدون اكتشاف جهاز التلفزيون الذي ظل محرّما عليهم لسنوات.. فتحت بعض محلات التصوير التي أغلقت تحت حكم طالبان بحكم منعهم للصورة.. كما تجرأت محلات قليلة على عرض كاسيتات المطربين والمطربات من الهند، وباكستان، وحتى من المغنين الأفغان القدامى على واجهات محلاّتهم.. كانت الأمور تتغيّر بسرعة.. لم تفتح البنوك بعد، لكن تبديل العملة كان يتّم على قارعة الطريق.. أكداس من العملة الأفغانية المتّسخة جدا معروضة للبيع بالدولار أو بالروبية الباكستانية.. لكن لفة هامة منها كانت بالكاد تكفي لشراء بعض الخضار لوجبة أكل.. أما أكثر المشاريع غرابة، فكان صاحب مطعم يشتغل في الهواء الطلق.. استثمر حفرة على حافة في الشارع، فأنزل نصف جسده فيها، أما النصف الأعلى فيشتغل أمام مجموعة من المواقد، وضع فوقها أواني للقلي فقدت ألوانها بالكامل.. كان يقلي أشياء اجتهدنا في أن نفهمها، ولم نقدر.. بضعة أسابيع، كنت أراقب خلالها تحــــوّلا ســـــريعا في مدينة سريالية.. شــــــديدة الفقر.. شديدة البـــؤس.. ظلمها أهلها.. واحتلتها القاعدة.. ودمّرها الأمريكيون.. وهي، بين الجميع، لم تجد إلا ورقا متناثرا بين الأنقاض، تتدفأ به.. في شتائها القاسي .. والطويل.
عبد الدايم الصماري
- اكتب تعليق
- تعليق