الطّاهر شريعة: منظّـر الشـأن السّينـــــمــــائــي فــي تــونـــــس
من حظ ّ الثقافة التونسيّة أن اجتمع، عند إنشاء وزارة الشؤون الثقافيّة، ثلـّة من أصحاب المواهب العالية، اضطلعوا بمسؤوليّة إرساء المعالم الأوّليّة للعمل الثقافي في مختلف المجالات؛ أخصّ بالذكر منها السينما، والمسرح والموسيقى والفنون الشعبيّة، والفنون التشكيليّة، والأدب والنشر، والمكتبات، إضافة إلى المحافظة على التراث التاريخي والمعماري والمعالم الأثريّة، من كلّ العهود التي مرّت بها البلاد.
كان للسينما، من بين هذه المجالات جميعا، شأن خاصّ متميّز، لأهمّيتها في هذا العصر؛ لكن أيضا لأنّ الرجل الذي أسندت إليه إدارة ُ الشؤون السينمائيّة، في الوزارة، كان يجمع بين الثقافة العامّة والخبرة بهذا القطاع ـ استقاها أثناء تنشيطه للنوادي السينمائيّة في مدينة صفاقس، حيث كان أستاذا، وبثّ في تلاميذه الاهتمام بالسينما، لا فحسب متعة ً فنـّية، لكن كذلك وسيلة ً إلى المعرفة والثقافة والتمرّس بطرائق الجدال.
والعمل الذي قام به قطاع السينما، في الستينات، باجتهادات متواصلة ومعمَّقة من الطاهر شريعة، ذو وجوه متعدّدة. في ذلك العهد لم تكن التلفزة قد أسّست بعد؛ وكانت قاعات السينما منحصرة في كبريات المدن، وبقِلـّة.
وكان هذا النقص يُشعر الجماهير بالحرمان، لأنّ السينما يُنظـَر إليها إذاك على أنّها وسيلة تثقيف، من خلال مظاهر ترفيهيّة. وكانت البلاد مُقـْدِمة على معركة التنمية التي تـُعتبر الثقافة من أهمّ وسائلها. فقامت إدارة السينما بتنظيم شبكة من العروض المتنقلة، مع الاجتهاد في حسن اختيار الأفلام التي تتوفّر فيها – بقدر الإمكان ـ جاذبيّة الإمتاع وفوائد التثقيف.
ثمّ إنّ تونس كان يتطلـّعُ طموحُها إذاك إلى إنشاء صناعة سينمائية وطنيّة. وكان ذلك يحتاج إلى فتح مسالك التوزيع في وجه الإنتاج التونسي؛ إذ التوزيع كانت تسيطر عليه ـ داخل البلاد نفسها ـ شركات دُولية تـَحتكر التوزيع في العالم؛ وكان سائرُ البلاد التي تسمَّى إذاك بالعالم الثالث – وتـُنعَتُ اليوم ببلاد الجنوب ـ خاضعة للتراتيب التي تفرضها تلك الشركات.
فكانت لإدارة السينما معارك، من أجل الحصول على حصص للأفلام الوطنيّة، في القاعات التونسيّة؛ وكان ذلك جزءا من معركة العالم الثالث في سبيل فرض حقوقه. وكان الطاهر شريعة يشعر بأهمّية هذا الرهان، سياسيا، وبعلاقته بحرّية الدول «النامية» في تقرير مصيرها؛ وكانت الشركات الغربيّة لذلك تناصِبه الخصامَ بلا هوادة، وتتـّهمه بميول يسارية متطرّفة –وهذه التهمة كانت إذاك على جانب من الخطورة.
ومن الوسائل التحرّرية التي اتخذتها وزارة الشؤون الثقافيّة، بتخطيط من الطاهر شريعة في هذا الصدد، تأسيسُ مِهرجان سينمائي تتكتل فيه طاقات المجتمعات العربيّة والمجتمعات الإفريقيّة. ثمّ ترامى الطموحُ، عند تسلـّم حمادي الصيد إدارة المِهرجان، إلى شمول أقطار أمريكا الجنوبيّة؛ لكن بقي حلما، لم ير النور.
فكان تأسيس المِهرجان المعروف برمز J.C.C. أيّام قرطاج السينمائية ـ وسيلة لإنشاء عمل سينمائي غير تابع للغرب، يَخدم غرضَين متضامنين :
فتحَ وجهة جديدة في الإنتاج والتوزيع، لفائدة شعوب كانت قاصرة عن الإنتاج، وسوقا للتوزيع الأجنبي.
وإنشاء نفوذ دُولي جديد في المجال الثقافي، يَخدم مصالح مجتمعات مهضومة الحقوق. وذلك جانب من المعركة التي خاضها الدكتور مختار مبو، لمّا ترأس منظمة اليونسكو. وكانت هذه الروحية الكفاحية من أهمّ عوامل الشهرة التي حَظِي بها المِهرجان منذ انطلاقه.
وفعلا، كسبت تونس الرهان الذي كان يُمثله هذا المِهرجان، إذ حظي بتجاوب واسع في البلاد العربيّة وفي القارّة الإفريقيّة. والحقّ يُقال، كان للطاهر شريعة، في ذلك، دور هامّ، خاصة من خلال شبكة للاتصالات العربيّة والإفريقيّة التي تنامت لديه منذ اضطلاعه بمسؤوليّة: «منظـّر الشأن السينمائي في تونس» - كما كان يحلو له أن يُقال عنه. ولئن لم تسمح لنا الأيّام باللقاء، بعد أن انصرف كلانا إلى شؤون أخرى، فعلاقتنا، ولو عن بعد، بقيت حيّة في الذاكرة، لانعقادها على موافقات عميقة.
ولمّا بلغني أنّه يُعاني من مرض عُضال، اتصلت به تلفونيا. وكان ذلك من أريحيات الأقدار، إذ توفـّي بعد ذلك، بقليل.
الشاذلي القليبي
- اكتب تعليق
- تعليق