احميده النيفر: خُــطّاف‭ ‬النّهضــة‭ ‬فـــــي‭ ‬رحلــة‭ ‬الخـــــوف

1- هي «مفاجأة هائلة» يمكن عدُّها نوعا من «التفسّخ» ومبالغةٌ لا تصدَّق لأنها أقرب إلى «الضحك على الذقون». بهذه العبارات المُنكِرة علّق أحد الإعلاميين التونسيين على خبر انضمام عناصر معروفة غير نهضوية بعضُها كان شيوعيا، إلى المكتب السياسي لحزب النهضة الذي أُعلن عن تركيبته الأسبوع الأول من شهر أكتوبر الماضي.

2- لم يكن هذا الموقف مما يجري في النهضة حالة استثنائية. هو تواصل لافت، في المجال الإعلامي والثقافي والسياسي، للإصرار على رفض ما يصدر عنها من مواقف ومبادرات لاكتساب ثقة الملاحظين والنخب فضلا عن قسم من مرتادي وسائل التواصل الاجتماعي وفئات هامة من المجتمع لإقناعهم بجدّية توجهاتها. أفضل ما يُقدَّم نموذجًا دالاّ عن هذه الحالة ما صدر أخيرا عن رئيس حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحَّد، زياد الأخضر، في بيان شديد اللهجة تعليقا على نشر صورة مصافحة بين رئيس الحركة والقياديَّ في الجبهة الشعبية ونائب الأمين العام لـ«الوطد» محمد جمور. اعتبر الأخضر أن نشر الصورة توظيفٌ رخيص وخدمة لأهداف سياسية وأيديولوجية وأن مصافحة الغنوشي هي من باب«العفوية ورفعة الأخلاق»  فلا تعني تغيّرا في موقف حزبه في تحميل حركة النهضة «المسؤولية السياسية والأخلاقية في اغتيال القيادي اليساري شكري بلعيد». من جهة أخرى وفي نفس الاتجاه صرّحت النائبة في المجلس التأسيسي والقيادية بحزب المسار الديمقراطي الاجتماعي سلمى بكّار في أواخر أوت الماضي أنها وقيادي حزبها،[عفّسوا على قلوبهم] أُكرهوا إكراهًا على المشاركة في حكومة فيها نهضويون. هذه المواقف وغيرها تذكّر بقولة: لو خرجت من جلدك ما عرفتك و«ما اعترفتُ بك». لذلك فلا غرابة إن علّق الملاحظ الساخر على انضمام عناصر غير نهضوية  إلى المكتب السياسي لحزب النهضة بأنها  ستضيّع هوية الحزب!

3- كيف يفسّر ويواجه النهضويون هذا التّخندق المعاند لما تصنعه حركتهم؟ عند البحث تكتشف تنوّعا مهمّا في الإجابات التي تتوزع على أربعة مستويات متداخلة ومتفاوتة في الأهمية. نجد في درجة أولى تقييما يحاذي اللامبالاة المُستحضِرة لقصة جحا وابنه وموقف المارّة من سلوكهما مع حمارهما إن ركباه معا أو نزلا عنه كلاهما أو ركبه أيٌّ منهما. لا تُلاحَظ لدى هؤلاء أي تحليل لهذا الإصرار: ما هي أسبابه؟ وماذا ينبغي فعله للتقليص منه؟ في هذا المستوى يقتصر الموقف على اعتزاز عقدي حركي مَشُوبٍ بغيظ مكتوم من هؤلاء «المعادين». لذلك لا غرابة إن اقتصر هذا الفريق على القول، وإن بصوت خافت، «ليموتوا بغيظهم». اللافت في هذا المستوى الأول ممن تركزت لديه ثقافة « الفرقة الناجية» أنه وإن لم يكلف نفسه عناء تحليل «مكابرة الخصوم» فهو لا يتردد في نقد ما تنخرط فيه قيادته من خيارات ومواقف خاصةً ما اتصل بالفصل بين السياسي والدعوي. إنها، في تقديرهم، سياسات غير مجدية بل تهدّد الصف الداخلي للحركة.

في المستوى الثاني يشخِّص نهضويون وضع حركتهم إزاء المخالفين بوعي الواقعية السياسية في إيجاز: نحن بين الاستئصال والاستقرار. معنى هذا أن الحزب محكوم بأحد سبيلين: إما العودة لوضع المحاصَر الذي يجعله ضد الكل أو أن يشق طريقه ليكون عاملا ضمن الكل. في هذه الحالة الثانية لا بد لرحلة الخوف والتحدي من أن تنتهي خاصة أن الواقع الوطني والإقليمي والدولي تغيّر نوعيا وهو مستمر في تحوّله.

4- عندئذ يصبح السؤال المطروح: كيف لجماعة عقائدية احتجاجية بلغت عقدها الرابع وعرفت طورا معاييرُه صارمةٌ في قبول الأعضاء وأخذ البيعة عنهم ومتابعتهم أن تصبح حزبا مدنيا متفتّحا بقوّةِ وعيه على الكفاءات وأصحاب الرأي باختلاف مشاربهم؟

الإشكال الذي يواجه هذا السؤال تنظيميٌّ بالأساس؛ إنه لا يجعل من دخول عناصر جديدة ممن خاضوا تجارب حزبية قومية أو يسارية أو ممن انفصلوا عن الحركة الأم من الإسلاميين التقدميين عنصرا حاسما في مواجهة مصاعب هيكلية لا صلة لها بالحداثة التنظيمية التي ينشدها الوافدون. ذلك، في تقدير العديد، الخطرُ المتربص بالحزب فيما بعد المؤتمر العاشر ولمواجهة مناهضة المعاندين وهو الذي سيجعل انضمام العناصر الجديدة إلى المكتب السياسي أقرب إلى الخُطّاف الذي لا يصنع الربيع. مع ذلك فإنك حين تسأل أحد المتوجسين من هذه العوائق الداخلية الهيكلية: كيف يحتمل النهضويون هذه المعيقات الموروثة من فترات المحن؟ يجيب مبتسما ومستنكرا: وماذا فعل الذين انفصلوا عن إخوانهم!

في المستوى الثالث يحدّثك عن آفاق ما بعد المؤتمر العاشر ولوائحه وعلاقاته القائلون بولادة «النهضة الجديدة» المعتبرون الانضمام إلى المكتب السياسي يمكن أن يُحدث تغييرات نوعية في الحزب. ذلك أن المكتب في صياغته الجديدة يحتل موقعا قياديا حسّاسا فيه يتمّ رصد حراك المشهد السياسي الاجتماعي الوطني وفيه يقع تقدير المواقف وبناء العلاقات مع الأحزاب والحركات ومع جهاز الحكم. لذلك فإنه بتشكيلته الجديدة قادر على بلوغ رؤية أوضح وتحاليل أدق وبدائل أوفر تتاح للمكتب التنفيذي مما يتيح تموقعا في الوسط الاجتماعي العريض طالما حرصت الحركة عليه. بهذا يتوجّب على النهضة الجديدة تغيير أولوياتها بالعمل خارج مقولة «أسلمة المجتمع» السائدة على مواقفها قبلاً ليصبح هدفُها الرئيس تعزيز قدرات المجتمع بالتخلي عن أعباء الشمولية الإيديولوجية الخانقة التي أرهقتها كما أعيت غيرها ونصبت حواجز منيعة بينها وبين المخالفين.

5- يدعم هذا المستوى خاصة جانب من نهضويي الخارج ممن عاشوا في المهجر ضمن مجتمعات غربية سارت شوطا في نسق العيش المشترك رغم التنوّع بل عرفت بفضله كيف تجعل التعددَ عنصرَ ثراءٍ ومناعة. المنظوون في هذا النسق رغم أقليتهم فإن تأثيرهم، خاصة شبابيا، يرجع إلى طبيعة رهاناتهم وللخبرة والوعي اللذين يتمتعون بهما خلافا لكثير من نُظرائهم حركيا. قوّتُهم البرهانية والإيلافية ناجمةٌ عن تمثل خيار مركزي مستقبلي وهو أن تونس، وكل المنطقة، تتغيّر بصورة لارجعة فيها. لذلك هم حريصون على تخفيض نسبة التشنج خاصة مع أحزاب اليسار والتيار الحداثي لوعيهم أنهم بذلك يدعمون تيار التغيير الصاعد.

في الحلقة الأخيرة نجد من يمكن، بالنظر إلى حجمهم، تشبيههم بـ«المنشفيك» الروس. هم الأقلية التي تعتبر أن الحزب لا يتطوّر بالقدر الكافي وأن تطوّره يحصل بشروط خارجية أكثر من كونه نتيجة عوامل داخلية اختيارية وأنه مُلزم بهذا التطور وإلا سيتجاوزه الزمن. هاجسُ هؤلاء في مواصلة التشبُّثِ بوَهْمَيْن: أن الإسلام ما زال محلَّ تنازع في تونس وأن الهدف الرئيسي للحزب هو أن يكون في الحكم. ما يزيد من أهمية هذه الأقلية هو أن سبر الآراء الذي تُجريه الحركة بين الحين والآخر يثبت أن موقعها في المجتمع التونسي وفي إدراك هذا الأخير لها لم يسجّلا تغييرا يُذكر في السنتين الماضيتين.

6- مقتضى هذا أن الحزب، في نظر «المنشفيك» الجدد، يحتاج إلى العمل للانعتاق من رحلة الخوف المضنية الناتجة عن معضلة تحديد الذات التي تقع من خلال المخالفين والمعاندين أساسا مما يُضعف أداءَ الحركة ويشكك في مصداقيتها. هو تحرر يقتضي توفير خيارات استراتيجية وأهداف كبرى يقتضيها السياق الوطني والإقليمي والدولي. أساس هذا تأهيلٌ حزبي يربط الحرية السياسية بالحرية الاقتصادية في فضاء ثقافي موحِّد يسمح للحزب بموقع اجتماعي واضح له أهداف ليبرالية لا تُفضي بالضرورة لأن يصبح حزبا ليبراليا.

استبيان وضع النهضة الجديدة إزاء ما تجده من صدٍّ يحتاج إلى تجاوز وهم التفرقة بين الحمائم والصقور لأن طبيعة السيرورة الداخلية ووجهتها بعيدة عن هذا التشخيص. صميم الإشكال في طبيعة وعي القيادة ومدى انخراطها  في «ثورة كوبرنيكية» تُسهم فيها قواعد الحزب. ضمن هذا السياق يتحدّد مصير خُطاف النهضة وهل يمكنه أن يصنع الربيع ومعه نعرف هل يتاح للحزب التموقعُ في الوسط الاجتماعي العريض الذي طالما اعتبرَه أساسَ قوة الدستوريين في تونس؟ منتهى هذا معرفةُ إمكانية تَطُّلُع الحزب عندئذ إلى مكانة تاريخية لمشروعه الجديد وطنيا ومغاربيا بل وعربيا.

د. احميده النيفر
رئيس رابطة تونس للثقافة والتعدّد